حرية ـ (13/1/22025)
اللواء الدكتور سعد معن الموسوي
في عصر يشهد تطورًا تقنيًا غير مسبوق، أصبح الإنسان ذاته الحلقة الأضعف في منظومة الأمن الرقمي. الهندسة الاجتماعية، وهي فن التلاعب بالآخرين واستغلالهم نفسيًا لتحقيق أهداف خبيثة، باتت اليوم أكثر تهديدًا من أي وقت مضى، ليس فقط للأفراد بل للمجتمعات بأسرها. إنها ليست مجرد محاولات لاختراق الأنظمة الإلكترونية، بل هي هجوم موجه نحو الثقة الإنسانية والعلاقات الاجتماعية، حيث يستغل المهاجمون نقاط الضعف النفسية لدى الضحايا ليصلوا إلى أهدافهم بسهولة.
جوهر الهندسة الاجتماعية يكمن في استغلال الفضول أو الخوف أو حتى الطيبة الزائدة لدى الإنسان. المهاجمون يعتمدون على أساليب تقنع الضحية بالكشف عن معلومات حساسة، مثل كلمات المرور أو البيانات المصرفية. دراسة نشرتها مجلة Cybersecurity & Behavior عام 2023 أكدت أن 85% من الهجمات الإلكترونية الناجحة كانت نتيجة أخطاء بشرية، وليس بسبب ثغرات تقنية. هذه الإحصائية تعكس حجم المسؤولية التي يتحملها الفرد في حماية نفسه وأسرته ومجتمعه من هذه الهجمات.
التأثير النفسي للهندسة الاجتماعية يمتد إلى أعماق الإنسان، حيث تترك هذه الهجمات آثارًا عميقة على الضحايا. مشاعر الخجل والذنب التي ترافق الضحايا تجعلهم أكثر عرضة للعزلة وفقدان الثقة بالنفس. بحسب دراسة أجرتها منظمة الصحة النفسية الدولية، يعاني 67% من الضحايا من تراجع في تقديرهم لذواتهم، مما يؤدي إلى تدهور علاقاتهم الاجتماعية وصعوبة إعادة بناء الثقة مع الآخرين. وفي بعض الحالات، يؤدي هذا التأثير إلى انهيارات عائلية نتيجة تحميل الضحية المسؤولية، كما يحدث غالبًا في المجتمعات التي تعطي الأولوية للحفاظ على السمعة والعلاقات.
الهندسة الاجتماعية لا تقتصر على تهديد الأفراد فقط، بل تمتد لتطال الأسرة والمجتمع ككل. في المجتمعات المتماسكة، مثل المجتمعات العربية والعراقية تحديدًا، يمكن أن يؤدي استغلال أحد أفراد الأسرة إلى خلق توترات داخلية. الأسرة العراقية، التي تتميز بروابطها القوية، قد تواجه أزمة إذا ما تعرض أحد أفرادها لعملية خداع أدت إلى تسريب معلومات حساسة. في إحدى الحوادث التي وثقتها جمعية Iraqi Society for Digital Awareness، تسبب اختراق إلكتروني ناجم عن خداع فرد من الأسرة في خسائر مالية كبيرة، مما خلق توترات أثرت على تماسك الأسرة لسنوات.
المجتمعات الأكبر ليست بمعزل عن هذه التأثيرات، فالهندسة الاجتماعية تزرع بذور الشك وتضعف الثقة بين الأفراد. في مجتمعات تعاني من أزمات اقتصادية، مثل بعض الدول العربية، يصبح الناس أكثر عرضة للاستغلال عبر إغراءات مالية زائفة أو وعود وهمية بالوظائف. هذا الخداع الرقمي يعمق الفجوة بين الأفراد ويخلق بيئة من الحذر المفرط والتوتر، مما يُضعف التماسك الاجتماعي.
الأمثلة على خطورة الهندسة الاجتماعية كثيرة، وتبرز عالميًا كأزمة حقيقية تتجاوز الحدود. في عام 2020، تعرض مستشفى في ألمانيا لهجوم تصيد احتيالي استهدف أحد موظفيه، مما أدى إلى شلل في أنظمته وتسبب في وفاة مريض نتيجة تعطل الأجهزة الطبية. هذه الحادثة تؤكد أن الهندسة الاجتماعية ليست مجرد تهديد إلكتروني، بل قد تكون قاتلة. حتى كبرى الشركات العالمية، مثل Google وMicrosoft، تتعرض لمحاولات يومية تستهدف موظفيها برسائل تبدو وكأنها رسمية، وهو ما يعكس اتساع نطاق هذه المشكلة وعدم استثناء أحد منها.
رغم خطورة هذا التهديد، إلا أن الحلول ممكنة إذا ما تضافرت الجهود بين الأفراد والمجتمعات والمؤسسات. التوعية هي الخطوة الأولى والأهم، حيث يجب على الأفراد تعلم كيفية التعرف على محاولات الخداع وتجنبها. التعليم الرقمي يجب أن يصبح جزءًا من المناهج الدراسية، خاصة في المراحل المبكرة، لضمان إعداد جيل واعٍ ومدرك لمخاطر الهندسة الاجتماعية. التكنولوجيا الوقائية، مثل المصادقة متعددة العوامل (MFA)، تُعد من الأدوات الفعالة في تقليل فرص النجاح لهذه الهجمات. لكن الحماية لا تتوقف عند حدود التكنولوجيا، بل تحتاج إلى بناء ثقافة مجتمعية تعزز الثقة والحوار المفتوح حول الأخطار الرقمية.
في الوقت نفسه، تتحمل الحكومات مسؤولية سنّ قوانين وتشريعات صارمة تجرّم الهندسة الاجتماعية وتعمل على حماية المواطنين من الاستغلال الرقمي. التعاون الدولي هو أيضًا عنصر أساسي في مواجهة هذا التهديد، خاصة أن الجناة غالبًا ما يعملون عبر الحدود، ما يتطلب جهودًا متضافرة لتتبعهم ومعاقبتهم.
الهندسة الاجتماعية ليست مجرد تهديد رقمي، بل هي تحدٍ وجودي يُعيد تشكيل علاقاتنا الإنسانية. في عالم يزداد فيه الاعتماد على التكنولوجيا، يجب أن ندرك أن الحماية الحقيقية تبدأ من الإنسان نفسه. الوعي والثقة والمعرفة هي الأسلحة الأقوى لمواجهة هذا الخطر الصامت. وكما تغلب الإنسان عبر التاريخ على تحديات أكثر تعقيدًا، يمكننا أن نقف معًا لحماية أنفسنا وأجيالنا القادمة من هذه التهديدات.
المراجع:
1. Alsever, J. (2023). The Psychology Behind Social Engineering Attacks. Cybersecurity Journal.
2. Iraqi Society for Digital Awareness (2022). Digital Literacy in Iraq: Challenges and Solutions.
3. Verizon (2023). Data Breach Investigations Report.
4. Kaspersky Lab (2022). Social Engineering: Techniques and Prevention.
5. منظمة الصحة النفسية الدولية (2022). دراسة حول تأثير الهجمات الرقمية على الصحة النفسية للأفراد.