حرية ـ (14/1/22025)
احمد الحمداني
لطالما كانت السياسة الإيرانية موضوعًا محط أنظار الباحثين والمراقبين، لما تتمتع به من خصائص معقدة ودقيقة في تنفيذ استراتيجياتها الإقليمية والدولية. إحدى أبرز المقاربات التي تم استخدامها لتوصيف السياسة الإيرانية هي مقارنة السياسي الإيراني بصانع السجاد، حيث يرمز هذا الوصف إلى الحرفية العالية والقدرة على نسج خيوط السياسة بعناية فائقة وصبر طويل، حتى تخرج الصورة النهائية متقنة ومتكاملة.
يعكس هذا التشبيه البراعة في التخطيط الاستراتيجي والتنفيذ التدريجي للسياسات التي تشكل جزءًا من النهج الإيراني في تحقيق أهدافها الإقليمية.
منذ سنوات، وخصوصًا بعد انهيار النظام العراقي السابق إثر حرب الخليج الثانية (1990-1991)، بدأ النفوذ الإيراني يتزايد في المنطقة، لا سيما في العراق، حيث استغلت إيران الفراغ الناجم عن غياب فاعلية دور العراق في الساحة الإقليمية، وتكثفت تحركاتها في المنطقة.
ورغم أن إيران قد عززت من قوتها في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، فإنها كانت قد بدأت بالفعل في نسج خيوط نفوذها في المنطقة العربية منذ وقت طويل، معتمدة على استراتيجية تقوم على تصدير الثورة الإيرانية، وتشكيل “محور المقاومة”.
وتمثل استراتيجية “تصدير الثورة” التي اتبعتها إيران منذ نجاح الثورة الإسلامية عام 1979، أسلوبًا سياسيًا يسعى إلى نشر الأيديولوجية الشيعية ونفوذ طهران في البلدان العربية المجاورة. هذه الاستراتيجية لم تكن تقتصر على العراق فحسب، بل امتدت إلى سوريا ولبنان وفلسطين، وصولاً إلى اليمن. من خلال هذا المحور، سعت إيران إلى إقامة شبكة من الحلفاء، معظمهم من الفصائل الشيعية والمجموعات المسلحة التي تسعى إلى مقاومة النفوذ الغربي والإسرائيلي في المنطقة، وخاصة عبر دعمها المستمر لحزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين، بالإضافة إلى دعم الحوثيين في اليمن.
إن “محور المقاومة” كما تسميه طهران، يمثل في جوهره شبكة من التحالفات التي تهدف إلى محاربة الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، وتوسيع النفوذ الإيراني عبر دعم الحركات والجماعات التي تنتمي إلى نفس التوجه الأيديولوجي.
في هذا الإطار، تحرص إيران على تجنب المواجهات المباشرة مع القوى الكبرى التي تصنفها كأعداء، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وتفضّل في المقابل تعزيز وجودها عبر تحالفات غير مباشرة مع الحركات المسلحة والجماعات السياسية التي تلتقي مع مصالحها.
من خلال هذه الشبكة المتشابكة، استطاعت إيران أن تفرض سيطرتها على العديد من الملفات الإقليمية، بدءًا من العراق الذي أصبح ساحة نفوذ رئيسية لطهران بعد سقوط صدام حسين، مرورًا بسوريا التي شهدت تدخلاً عسكريًا إيرانيًا مكثفًا في دعم نظام بشار الأسد في حربه ضد المعارضة، وصولاً إلى لبنان حيث يظل حزب الله جزءًا لا يتجزأ من إستراتيجية إيران الإقليمية. في اليمن، تمكنت إيران من دعم الحوثيين في مواجهة الحكومة المعترف بها دوليًا، ما أدى إلى تعزيز موقفها في شبه الجزيرة العربية.
وتستمر إيران في نسج خيوط هذه السجادة المعقدة من التحالفات والمصالح، مستخدمة سياسة “التمكين” والمناورة بين القوى الإقليمية والدولية، ما يجعل من الصعب على أي جهة فاعلة إقليمية أو دولية إحداث تغيير جذري في الوضع القائم دون التعامل مع هذا التكتل الإقليمي الذي يمتد من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط.
في النهاية، تعد السياسة الإيرانية مثالًا حيًا على الاستراتيجية الطويلة الأمد التي تعتمد على الصبر والتخطيط الدقيق، وفي ظل غياب القوى الكبرى التي يمكن أن تقف في وجه هذه الطموحات، تظل إيران تحيك خيوط “سجادة نفوذها” في المنطقة بخطى ثابتة، بينما تواجه تحديات جديدة تفرضها متغيرات الوضع الإقليمي والدولي.
لطالما كان السياسي الإيراني موصوفًا بصانع السجاد، في إشارة إلى براعة التخطيط والتنفيذ التي يتمتع بها في سياسته الخارجية. هذا الوصف لا يقتصر على الحرفية البالغة في نسج السياسات والتكتيكات، بل يشمل أيضًا الصبر الطويل والقدرة على خلق شبكة من التحالفات والمصالح الإقليمية والدولية التي تضمن مصالح إيران وتوسع نفوذها.
حيث كان الهدف الأساسي من هذه السياسات هو تشكيل “محور المقاومة”، الذي يهدف إلى تصدير الثورة الإيرانية، وتوسيع النفوذ الإيراني عبر الشرق الأوسط، مما شكل تحديًا مستمرًا للنفوذ الغربي والإسرائيلي في المنطقة.
العراق: أولى محطات النفوذ الإيراني
بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق عام 2003، كانت إيران من أكثر الدول استفادة من هذا التغيير الكبير في المشهد الإقليمي رغم معارضتها لسقوط صدام.
وبفضل سياسة الاختراق السياسي والاستخباراتي التي تبنتها، استطاعت إيران أن تهيمن على جزء المشهد السياسي العراقي.
كانت العراق بالنسبة لإيران نقطة انطلاق مهمة لبناء جسر من التحالفات مع فصائل شيعية ومجموعات سياسية، مما سهل لها التأثير على القرار العراقي في العديد من المجالات.
كان العراق هو اللبنة الأولى في بناء “محور المقاومة”، حيث نجحت إيران في إنشاء شبكة من الحلفاء هناك، مما أعطاها نفوذًا كبيرًا في العراق السياسي والعسكري. لم تقتصر استراتيجية إيران على العراق فقط، بل امتدت لتشمل سوريا ولبنان وفلسطين، وأخيرًا اليمن، حيث أسست طهران علاقات استراتيجية مع الجماعات الموالية لها في تلك الدول.
تصدير الثورة و”محور المقاومة”
منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، كانت سياسة “تصدير الثورة” أحد الأهداف الرئيسية لحكومة طهران. هذه السياسة كانت تهدف إلى نشر الأيديولوجية الشيعية في المنطقة العربية، عبر تحالفات مع فصائل شيعية وفصائل مقاومة في لبنان وفلسطين.
من خلال هذا النهج، استطاعت إيران أن تبني شبكة من العلاقات الإستراتيجية الممتدة عبر المنطقة، من العراق إلى سوريا ولبنان وفلسطين واليمن.
ويعد “محور المقاومة” الذي شكلته إيران أحد الأدوات الرئيسية في استراتيجيتها، حيث يضم هذا المحور مجموعة من الحركات الموالية لطهران والتي تتبنى سياسة مقاومة النفوذ الغربي والإسرائيلي.
هذا المحور، الذي يقوده حزب الله في لبنان، يربط بين عدد من الدول العربية من خلال أيديولوجية مناهضة للغرب، مما يجعل إيران اللاعب الرئيسي في السياسة الإقليمية في الشرق الأوسط.
السيطرة على أربع عواصم عربية
على مدار عقود، نجحت إيران في تعزيز نفوذها في العديد من الدول العربية، وكان أبرز ما تم الإعلان عنه في هذا السياق هو السيطرة على أربع عواصم عربية. ففي عام 2015، صرح حيدر مصلحي، وزير الاستخبارات الإيرانية السابق، قائلاً: “إيران تسيطر فعلاً على أربع عواصم عربية”، في إشارة إلى بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
هذه التصريحات تعكس حجم النفوذ الذي حققته إيران في المنطقة. كذلك، كان مستشار الرئيس الإيراني لشؤون الأقليات، علي يونسي، قد أشار في تصريحات له إلى أن “العراق هو عاصمة الإمبراطورية الإيرانية الجديدة”، وهو ما يعكس بشكل جلي دور إيران الكبير في المنطقة.
التحديات الجديدة: “طوفان الأقصى” وتحولات الواقع
في 7 أكتوبر 2023، شهدت المنطقة تطورًا كبيرًا في مسار الأحداث مع وقوع هجوم “طوفان الأقصى” على إسرائيل، والذي باركته إيران باعتباره خطوة هامة في مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني. هذا الهجوم، الذي شنته حركة حماس، أصبح بمثابة نقطة تحول في المنطقة، حيث انتقلت إسرائيل إلى مرحلة جديدة من المواجهة مع إيران عبر محورها في المنطقة.
إسرائيل، التي كانت قد تجنبت حتى ذلك الحين المواجهة المباشرة مع إيران، قررت فتح جبهة جديدة ضد حزب الله في لبنان، مستهدفة قياداته وتدمير جزء كبير من ترسانته العسكرية. كانت الرسالة الإسرائيلية واضحة: ضرب النفوذ الإيراني في المنطقة وإضعاف أذرعه العسكرية، بما في ذلك حزب الله في لبنان.
لكن الرد الإيراني كان سريعًا، إذ أدركت طهران أن هذه المواجهات قد تهدد مشروعها الاستراتيجي في المنطقة، ولذلك سعت إلى تخفيف حدة التصعيد عبر القنوات الدبلوماسية ولم تنجح.
في النهاية، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، ما يعكس هشاشة التوازنات الإقليمية التي تسعى إيران للحفاظ عليها.
سيبقى المشهد السياسي في الشرق الأوسط مرتبطًا بتحولات الصراع الإقليمي والدولي، ويبدو أن إيران ستستمر في نسج خيوط “سجاد نفوذها” في المنطقة عبر مزيج من السياسات العسكرية والدبلوماسية والاستخباراتية.
ومع التحديات الجديدة التي أفرزها الهجوم على إسرائيل وفتح جبهات جديدة ضد إيران، سيكون على صانع القرار الإيراني أن يعيد تقييم استراتيجياته للحفاظ على موقعه كفاعل رئيسي في المنطقة.