حرية ـ (1/2/22025)
حولها يجتمع الناس بأهدافهم المختلفة: حوار، طعام وشراب، عمل، ترفيه أو غيرها. تربعت وسط الصالونات وغرف المعيشة والمطابخ وغرف النوم، والأماكن العامة والخاصة، والمطاعم. وأخذت مكانها ومكانتها في الشكل والمضمون، إنها الطاولة. عنصر الأثاث الأساسي الذي، إلى جانب أهميته الوظيفية، بات قطعة فنية تزين المكان وتشير إلى الوضع الاجتماعي لقاطنيه.
الأصل الحرفي واللغوي
على رغم الظن أن الطاولة هي قطعة أثاث حديثة العهد، إذ كانت الموائد عند العرب تتخذ الأرض مفرشاً، وما زالت بعض المجتمعات والقبائل العربية تعتمدها بخاصة في مائدة الطعام التراثية، إلا أن الطاولة ممعنة في القدم، وهي ليست مجرد قطعة أثاث، بل عنصر حضاري يعكس تطور الإنسان عبر العصور.
وبدأت الطاولات في الظهور منذ الحضارات القديمة، وبحسب الموسوعة البريطانية، كانت الطاولات المصرية مصنوعة من الخشب، والآشورية من المعدن واليونانية من البرونز. واتخذت الطاولات الرومانية أشكالاً متقنة للغاية، إذ كانت الأرجل منحوتة على أشكال حيوانات، أو على شكل “أبو الهول”، أو أشكال أخرى قد يفتقد بعضها للجمالية، وتطورت الطاولات لتصنع من الخشب والمعادن وتزخرف بالنقوش.
أما في الأصل اللغوي لكلمة “طاولة” فيعتقد أنها تعريب مستمد من كلمة table في اللغات الفرنسية أو الإنجليزية، أو tavola في الإيطالية، وكلها يعود في الأصل للكلمة اللاتينية tabula، كما ينسب بعضهم أصل كلمة الطاولة في اللغة العربية إلى الجذر الثلاثي طول، الذي يشير إلى الامتداد والاتساع. وطَوَل الشيءَ يعني جعله طويلاً. ويقال طَولَتْ يده، أي أصبحت طائلة، كما يرى بعض اللغويين أن كلمة طاولة قد تكون مشتقة من الطَّوَى، بمعنى الطيّ، ما يعني أن الطاولة قد تكون صممت بحيث تطوى وتنشر عند الحاجة، وفي هذا السياق، يقال طوى الشيء بمعنى ضمه.
من الخشب إلى الزجاج
لم تتخذ الطاولة شكلاً واحداً حتى مع تشابه الاستخدام، كما أنها لم ترتد ثوباً واحداً من المواد، إذ كان لكل حقبة ضروراتها وفنها. فلقد استخدمت الحجارة والصخور كطاولات لتقطيع الطرائد التي اصطادها أجدادنا أسياد الكهوف القديمة. ومع نشوء الحضارات استخدم خشب الرز والأخشاب الأخرى، وكانت أرجلها ثلاثية ومصنوعة من البرونز أو معادن أخرى. إلى أن وصلت إلى استخدام مواد أخرى في بنيتها، إما لمزيد من العملانية فاستخدمت “الريزين” و”اللاميكا” و”البلاستيك”، أو لإضفاء الرقي والفخامة فاستخدمت الزجاج العادي والمطعم، والخشب المحفور والممزوج بعناصر أخرى مثل الجلد والنحاس والذهب والفضة وسواها من المعادن الثمينة.
وفي العصور الوسطى، أصبحت الطاولات رمزاً للسلطة والثراء، إذ كان النبلاء والملوك يستخدمونها في الولائم والاحتفالات. ويقال إن الإمبراطور شارلمان كان يمتلك طاولة من الفضة وأخرى من الذهب، ربما كانت مصنوعة من الخشب ومغطاة بصفائح رقيقة من المعدن.
أما في العصر الحديث، فأصبحت الطاولة جزءاً أساسياً من أثاث كل منزل، وتنوعت أشكالها وموادها لتناسب مختلف الاحتياجات.
أبعاد واستخدامات
ويختلف ارتفاع الطاولات بحسب الغرض من استخدامها، فطاولات المائدة يتراوح ارتفاعها بين 70 و76 سنتيمتراً لتناسب الكراسي المخصصة لتناول الطعام. وتتراوح طاولات القهوة بين 40 و50 سنتيمتراً، لتكون منخفضة وسهلة الوصول وتوضع في غرف الجلوس، بينما يبلغ ارتفاع طاولات المكتب عادة نحو بين 73 و80 سنتيمتراً لتناسب وضعية العمل المريحة وتحتوي على أدراج أو أماكن للتخزين.
وللطاولات استخدامات متعددة ومتشعبة، يبدو الطعام والشراب أبرزها، وتتمركز عادة في فسحة خاصة قريبة من الصالون والمطبخ، أو في المطاعم والمقاهي، وتكون مصممة لاستيعاب عدد من الأشخاص.
أما للعمل والدراسة فطاولات المكاتب والطاولات المدرسية صممت خصيصاً بأبعاد مريحة في العلو والحجم، لتؤدي وظيفتها بأفضل شكل ممكن.
كما للطاولة وظيفة في تجميل الأماكن فتستخدم لعرض تحف أو مزهريات أو قطع فنية، وتكون بأشكال وارتفاعات مختلفة بحسب المكان الذي تركن به، سواء في وسط المنزل أم مستندة إلى جدار أم بجانب السرير أم الأرائك.
وللطاولات وقت للترفيه أيضاً، مثل طاولات “البلياردو” و”البيبي فوت” و”البينغ بونغ” ولعب “الشطرنج” و”الورق” وغيرها من الألعاب.
للمساحات الصغيرة
وكانت الطاولات تحتل أمكنتها في المنازل والقصور والأماكن العامة، وتصمد فيه أحياناً لحين لفظها زفراتها الأخيرة، أو لتستبدل بتصميم جديد. وكانت المساحات تسمح لها أن تمكث بمكانها قبل أن تصغر البيوت على ساكنيها، ومع ازدحام المدن وتضييق الحيز المكاني للعيش، باتت الطاولة أحياناً ضيفاً ثقيلاً يحتل المكان. فجاءت فكرة الطاولة القابلة للطي والانتقال من غرفة إلى أخرى وإلى الشرفات، وأحياناً إلى مستودع التخزين. كما درج استخدام الطاولات التي يمكن تمديدها لتتسع أكبر عدد من الأشخاص، وتلك التي رافقتها تقنية ميكانيكية للتمدد وتغير الارتفاع، فأصبحت الطاولة ذاتها تصلح لاستخدامات عدة، كالعمل والطعام والقهوة والدراسة ويمكن تعديل ارتفاعها لتصلح للأطفال.
الطاولة بين العلم والفن
وتمثل الطاولة مزيجاً من العلم والهندسة والفن، فهي تعكس التطورات التقنية في تصميم الأثاث، وتجمع بين الجمال الوظيفي والتفاصيل الجمالية. كما تلعب دوراً نفسياً واجتماعياً، إذ تجمع الأشخاص حولها في مناسبات متعددة، ما يجعلها عنصراً ثقافياً واجتماعياً.
وتقول المهندسة ميرا العلم، الحاصلة على ماجستير في الهندسة الداخلية ولديها مكتب هندسة، “إن الطاولة التي توضع وسط غرفة الجلوس هي القطعة التي تحدد، بحجمها وقياسها، حركة التنقل ومسافات الجلوس بين الأرائك. ويجب أن يكون حجمها متناسقاً مع حجم الغرفة لتجنب الفوضى أو مساحات الفراغ الزائدة. أما ارتفاع الطاولة فيفضل ألا يتجاوز 45 سنتيمتراً كحد أقصى، لضمان الراحة عند استخدامها لوضع الأشياء عليها من دون الحاجة إلى الانحناء بصورة غير مريحة”.
وعن أحدث الاتجاهات في تصميم الطاولات تقول العلم إنها “تعتمد على استخدام مواد مستدامة وعملية يسهل تنظيفها من دون أن تظهر عليها العيوب أو الخدوش بسهولة، ومن الخيارات الرائجة يوجد الحجر الطبيعي أو السيراميك والريزين والخشب الطبيعي بجذوعه الطبيعية”. وتعتبر أن خلط المواد بطريقة ذكية من شأنه أن يمنح الطاولة مظهراً أكثر فخامة وأناقة، مثل أنواع مختلفة من الخشب والزجاج والمعدن والرخام والجلد. وأكثر الماركات المشهورة تعتمد هذه التوليفات لتضفي لمسة من الفخامة والدفء على التصميم، أما الألوان الرائجة لهذا العام فهي الألوان الترابية والدرجات الفاتحة مع لمسات نهائية مختلطة مثل الخشب والزجاج أو المعدن.
الاجتماعات والمطاعم
وبالنسبة إلى طاولة الاجتماعات الدائرية فتقول العلم “يجب أن تكون من دون إضافات بحيث تبدو نظيفة وعملية، توضع عليها زجاجات مياه وبعض العناصر المركزية الصغيرة والكوستر (واقيات الأكواب) لوضع أكواب القهوة الساخنة، وعلى رغم أن الطاولة الدائرية تعطي شعوراً بالراحة والدفء لكنها تشغل مساحة أكبر، لذا لا ينصح بها دائماً، وتصمم طاولات المطاعم عادة بطريقة لتكون قابلة للتعديل، إذ يمكن جمع طاولتين أو ثلاث لتشكيل مساحة أكبر. غالباً ما تكون أبعادها 70×70 سنتيمتراً، مع وضع الأرجل في المنتصف لتحقيق مرونة أكبر”.
دعوات رسمية أو غير رسمية
وتلفت المهندسة العلم إلى أنه من المفضل، “أثناء الدعوات غير الرسمية، استخدام أوان بسيطة من السيراميك مع لمسات فخارية لإطلالة بوهيمية على سبيل المثال. أما الدعوات الرسمية فتستوجب استخدام أوان فاخرة مع أدوات مائدة فاخرة، وإضافة الشمعدانات، وأوان كريستالية بتصميمات براقة”. وتعتبر أن الطاولة الطويلة هي الأكثر أناقة وعملية، إذ تسهل الوصول إلى العناصر الموضوعة عليها، “بينما تجد أن الطاولات المربعة غير مرغوبة لأنها تجعل الوصول إلى العناصر في المنتصف صعباً”.
ولا تعتبر العلم أن الطاولة مجرد قطعة أثاث، “بل قطعة فنية يجب أن تبدو وكأنها تحفة فنية مركزية في المكان، لكنها في الوقت نفسه تكون عملية ومنسجمة مع تصميم الغرفة. واختيار المواد المختلطة في الطاولات يضيف إحساساً بالفخامة والغنى، مما يجعلها تبرز كعنصر محوري في أي مساحة”.
الأبعاد النفسية لأشكال الطاولات
وتتجاوز الطاولة كونها قطعة أثاث مهمة ذات وظائف متعددة، فأشكال الطاولات ليست مجرد عنصر جمالي أو وظيفي بل تؤثر في تجاربنا النفسية والاجتماعية في الفضاءات التي نوجد فيها، إذ يرتبط شكل الطاولة ارتباطاً وثيقاً بالبعد النفسي والاجتماعي للمساحة، إذ يمكن أن يعزز الشعور بالراحة أو الألفة أو حتى الرسمية. وأجري عدد من الدراسات حول شكل الطاولة والرسالة النفسية التي يمكن أن تبعثها بنفوس الجالسين إليها. فالطاولات الدائرية ليس لها زوايا حادة، وهي شائعة في غرف الطعام والاجتماعات الصغيرة، وتعزز الشعور بالمساواة بين الجالسين حولها، إذ يتمتع الجميع بمساحة متساوية. ويخلق الجلوس حولها جواً من الألفة والتقارب، فهي مثالية للاجتماعات العائلية أو النقاشات الجماعية. واستخدمت في حوارات سياسية داخلية في لبنان ما سمي “طاولة حوار”. ويبدو أنها اختيرت بهذا الشكل لإضفاء طابع المساواة بين جميع أطراف البلد المتنازعة، ولخلق جو من الألفة وتقليل الحواجز النفسية بينهم، وبحيث لا يتسيدها أحد.
أما الطاولة المربعة فتصميمها بسيط بزوايا قائمة، تستخدم عادة في المطابخ الصغيرة أو المساحات غير الرسمية. وشكلها الهندسي المتناسق يعطي شعوراً بالاستقرار والتنظيم، لكنها غير مناسبة للمجموعات الكبيرة. وفي دراسة نشرت فيDesign Science Journal عام 2018 برز أن الطاولات ذات الزوايا، بخاصة المربعة، قد تشعر الأفراد ببعض التوتر في بيئات العمل مقارنة بالتصاميم المستديرة.
أما الطاولة المستطيلة فهي سيدة الطاولات بتصميمها الكلاسيكي الشائع في غرف الطعام الرسمية وغرف الاجتماعات والمؤتمرات. وهي تبرز الطابع الرسمي والعملي، إذ يكون لها رأس طاولة واضح يعزز الشعور بالتراتبية في العمل أو في المنزل، وتوفر مساحات كبيرة مما يجعلها مناسبة للولائم والاجتماعات الرسمية.
وذكرت دراسة نشرت عام 2020 في مجلةWorkplace Design أن الطاولات المستطيلة تحفز التركيز في بيئات العمل بسبب تنظيم المقاعد والتوزيع الواضح للأدوار، كما تستخدم، بصورة أساسية، لتعزيز الإنتاجية والتركيز في الاجتماعات الرسمية.
أما الطاولة البيضاوية فتجمع بين مزايا الشكل الدائري والمستطيل، وتضفي توازناً بين الرسمية والألفة في التصميمات الداخلية، وتعطي لمسة من الديناميكية والنعومة على المكان. فهي تقلل من حدة الزوايا، مما يخلق شعوراً بالراحة من دون فقدان الطابع العملي، وتعطي إحساساً بالمرونة والانسيابية مما يجعلها مثالية للمساحات متعددة الاستخدامات.
ويبقى الطاولات الحرة ذات الشكل الطبيعي غير المنتظم، وقد تكون طبيعية صرفاً أو ذات أشكال مستوحاة من الطبيعة، غير متناظرة أو متوازية، ومن شأنها إظهار الشعور بالإبداع والابتكار، وتستخدم عادة في المساحات الفنية أو المكاتب الإبداعية، وبسبب انسيابها الطبيعي يشعر الجالسون إليها أنهم يتماهون مع الطبيعة ما يخفف من التوتر ويعطي إحساساً بالاسترخاء والعفوية.