حرية ـ (1/2/22025)
يتفق معظم علماء البيئة والباحثين في تأثير الاستهلاك الغذائي على التغيّر المناخي على أن الأهداف العالمية للحد من تلك الظاهرة لن تتحقق من دون معالجة تصاعد الاستهلاك الغذائي العالمي للمنتجات الحيوانية.
ووفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) فإن سلسلة مزارع تربية المواشي ومصانع المنتجات الحيوانية من لحوم وألبان ومشتقاتها، إضافة إلى كامل دورتها في السوق، تتسبب بما نسبته 20 في المئة من إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة عالمياً.
وتشير منظمات الغذاء النباتي في الولايات المتحدة الأميركية إلى أن تحوّل الأميركيين إلى سلسلة الغذاء النباتي يمكنه تقليل الانبعاثات الناتجة من الإنتاج الغذائي إلى ما بين 61 و73 في المئة من نسبتها الحالية. وهذه النسب تدل على إفراط الأميركيين في استهلاك اللحوم والمنتجات الحيوانية. وهذا الإفراط يؤدي إلى تآكل الأراضي الزراعية لمصلحة الماشية.
وجاء في تقارير حديثة أن 83 في المئة من الأراضي الزراعية حول العالم تستخدم اليوم لإنتاج اللحوم وتربية الأسماك وثمار البحر وإنتاج البيض وجميع مشتقات الألبان. وعلى رغم هذه المساحة الواسعة من الأرض التي تستنفدها هذه الصناعة إلا أنها لا توفر إلا 18 في المئة من السعرات الحرارية العالمية و37 في المئة من إنتاج البروتين العالمي.
إفراط الأميركيين في استهلاك اللحوم والمنتجات الحيوانية
استهلاك اللحوم خط أحمر للناخبين
على رغم استهلاك تربية الحيوانات الداجنة لمساحة واسعة من الأرض وكمية كبيرة من المياه، وعلى رغم أن انبعاثات غاز الدفيئة منها تشكل ضرراً فعلياً على البيئة العالمية، إلا أن الحكومات حول العالم تتعامل مع الموضوع وكأنه غير موجود، ولم تضع أي منها برامج زمنية لمعالجة المشكلة المتمثلة باستهلاك المنتجات الحيوانية. بل وعلى العكس فالقيود التشريعية البيئية في الولايات المتحدة استبعدت مزارع الحيوانات ومصانع الإنتاج التابعة لها من الإبلاغ عن انبعاثاتها ونفاياتها. حتى اليسار الأميركي التقدمي، بالكاد اعترف بالدور الذي تلعبه الزراعة الحيوانية في تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي.
أدى شغف الشعب الأميركي بلحم البقر إلى فقدان الحزب الديمقراطي سيطرته على الكونغرس عام 1946 في الانتخابات التي عرفت باسم “انتخابات لحم البقر”. كان الرئيس ترومان قد فرض حينها أسعاراً للحوم أدت إلى نقص توافرها في الأسواق، ما دفع الناخبين الديمقراطيين إلى عدم الإقبال على التصويت، اعتراضاً. وفي عام 2020 تعرضت حملة كامالا هاريس للانتقاد لمجرد إشارتها للموضوع، وكان عنوان حملة الجمهوريين على هاريس بأنها “أخذت الهامبرغر بعيداً”.
أما خارج الولايات المتحدة، فتباين تفاعل الناخبين مع السياسات الوطنية للحد من استهلاك اللحوم. في ألمانيا، مثلاً، انخفض الاستهلاك بشكل كبير منذ عام 2020، ويرجع ذلك إلى الاهتمام السياسي على مستويات عليا بين أصحاب القرار في ألمانيا. أما في هولندا فقد قوبلت خطط الحكومة لخفض عدد الماشية في البلاد بمقدار الثلث بمعارضة قوية من المزارعين، ما أدى إلى فوز كاسح لحزب صغير مؤيد للمزارعين في الانتخابات المحلية عام 2023، على رغم أن الحزب الحاكم الليبرالي كان مناصراً للمطالب البيئية.
وواجه سياسيون إسبان وفرنسيون في عام 2022 ردود فعل عنيفة بسبب ربطهم استهلاك اللحوم بالأزمة البيئية. قبل ذلك وفي عام 2012 ألغت الحكومة الدنماركية “ضريبة الدهون” بعد عام واحد من فرضها على منتجات اللحوم والألبان بسبب تداعيات الضريبة سلباً على القطاعين العام والخاص. وهذا على رغم أن الاهتمام السياسي الكبير بالآثار السلبية لوسائل النقل التقليدية مثل السيارات على تغير المناخ أدى إلى تغييرات ملموسة وزيادة في التمويل العام لتطوير البدائل وتوسيع نطاقها في جميع هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
علم نفس الجماهير يبحث عن لحوم السياسة
دفع تغييب هذا الجزء المهم من حجم الاقتصادات الوطنية عن برامج المرشحين السياسيين، الباحث في علم نفس السياسة والأستاذ في قسم السياسات الحكومية في جامعة هارفرد، سبارشا ساها، لإجراء دراسة تكشف سبب غياب اقتصاد المواشي واللحوم وصناعاتها والمشتقات الحيوانية عن البرامج السياسية والنقاشات العامة التي تدور قبيل الانتخابات عموماً. وأجرى الباحث استطلاعاً بين عدد كبير من الناخبين الأميركيين لتبيان موقفهم من المرشحين الذين يهتمون بموضوع تقليل استهلاك اللحوم لأسباب بيئية، وتبين له أن قسماً كبيراً من الناخبين الأميركيين يظهرون عدم اهتمام بهؤلاء المرشحين، ما يشرح سبب ابتعاد السياسيين عن تناول هذا الموضوع.
واجه سياسيون إسبان وفرنسيون في عام 2022 ردود فعل عنيفة بسبب ربطهم استهلاك اللحوم بالأزمة البيئية
ثم أجرى دراسة ثانية ليعرف الأسباب النفسية والاجتماعية التي تدفع الناخبين إلى التمسك بحقهم في استهلاك اللحوم من دون اتهامهم بالمساهمة في الإضرار بالمناخ العالمي. وجاءت النتيجة بعد تحليلها بما يفيد بأن الدافع إلى رفض الحملات التي تشوّه آكلي اللحوم والتأثير البيئي لمجتمعات آكلي اللحوم هو الحفاظ على إرث ثقافي إنساني من جهة خصوصاً من الناخبين المحافظين في أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا الذين يعانون من رهاب طعام الغرباء أو المهاجرين الجدد، فيحوّلوا الاستفاضة في استهلاك اللحوم وتربية المواشي في المزارع كدفاع نفسي في وجه ثقافات الطعام الآتية مع المهاجرين وتثبيتاً لقائمة طعام المجتمعات المحافظة.
وكان النائب الجمهوري عن تكساس روني جاكسون قد غرد عام 2022 حول اللحوم البديلة، “لن آكل أبداً واحدة من البرغر المزيفة المصنوعة في المختبرات، والتي حين تتناول الكثير منها ستتحول إلى ديمقراطي اشتراكي. اللحم الحقيقي هو لحم البقر بالنسبة إلينا”.
ووجدت الدراسة أن هؤلاء المعترضين من آكلي اللحوم يصنّفون النباتيين كمنحرفين عن معايير الجماعة، خصوصاً الذين توقفوا عن أكل اللحوم لمنع دمار البيئة، وليس لسبب أخلاقي أو ديني أو روحاني. وأن النباتيين الذين يحمون البيئة بتوقفهم عن أكل اللحوم يستفزون تقييم مجموعة آكلي اللحوم الإيجابي لنفسها، حين يشعرون بأن النباتيين البيئيين ينظرون إليهم كمدمّرين للبيئة، بينما يقومون هم بحمايتها. وهذا النوع من الاستفزاز القيمي لمعايير الجماعات لا يؤدي إلا إلى مزيد من التشبّث بالمواقف مهما كان نوعها.
أما السبب الثاني هو عدم تصديق هذا النوع من الناخبين تحديداً وهم من القوميين المتشددين في أوروبا ومن الجمهوريين في الولايات المتحدة، لما يشاع عن التغير المناخي، وهذا ما يؤكده انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من اتفاقية المناخ الموقعة في باريس منذ إعلان تنصيبه رئيساً في هذه الدورة كما فعل في دورة رئاسته السابقة. ويبرر الرئيس الأميركي الانسحاب بنفس المبررات التي يستخدمها ناخبوه، أي إن نظريات الاحتباس الحراري والتغيّر المناخي مجرد ترّهات سياسية لممارسة الضغط على اقتصادات دول بعينها.
أدى شغف الشعب الأميركي بلحم البقر إلى فقدان الحزب الديمقراطي سيطرته على الكونغرس عام 1946 في الانتخابات التي عرفت باسم “انتخابات لحم البقر”
كارتيلات اللحوم
في عالم السياسة الأميركية والأوروبية بات معروفاً أن الدفاع عن القضايا البيئية تبعد “الأصوات” ومكلفة انتخابياً، لذا لا بد يتم تجنب التطرق إليها، سواء لكسب الأصوات أو لعدم الإضرار بمكتسبات فئات اجتماعية كثيرة تستفيد من عالم استهلاك اللحوم والمنتجات الحيوانية، من المزارعين والعمال وأصحاب المصانع والمسوقين والمستهلكين، ما يجعل هذا القطاع العالمي كأنه غير موجود، على رغم حجمه الهائل وتأثيره الكبير.
وتقف على رأس هرم قطاع الإنتاج الحيواني العالمي، مصانع معلبات اللحوم ومصانع مشتقات الألبان العالمية المعروفة بحجمها الهائل، كشركة نستلة مثلاً، ما يجعل من إدارة هذا القطاع قوة سياسية مؤثرة تتمتع بنفوذ تنظيمي وتشريعي داخل المؤسسات الحكومية في الدول الصناعية. وتنفق صناعة المنتجات الحيوانية في الولايات المتحدة مبالغ ضخمة لدعم سياسات تضمن مصالحها، ولتمويل مرشحين لا يريدون التطرق إلى الموضوع. وتعتبر الحملات الإعلانية لمنتجات السوق الحيوانية الأكبر حجماً في المجال الاستهلاك الغذائي العالمي.
وعلى رغم أن ليس جميع السياسيين مقيدين بتمويل كارتل الإنتاج الحيواني، إلا أنهم لا يثيرون هذه القضية بدورهم ولو كانوا من أحزاب الخضر أو الأحزاب المدافعة عن البيئة أو من أقصى اليسار، في أوروبا وفي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وتبين أن من بين السياسيين الأميركيين الذين لا يتلقون دعماً من صناعة اللحوم نباتيون معروفون على المستوى الوطني، ولم يضمّن أي منهم أجنداتهم السياسية خلال الانتخابات موضوع استهلاك اللحوم المفرط في الولايات المتحدة وتأثيراته السلبية.
كذلك لم تتضمن برامج أقصى اليسار المهتم بالبيئة منذ فترة طويلة المشكلات البيئية للزراعة الحيوانية واستهلاك لحوم البقر والدجاج، على رغم تناولها لتأثير السيارات والمصانع وشبكات الطاقة والسكك الحديدية.