حرية ـ (4/2/22025)
اللواء الدكتور سعد معن الموسوي
في عصر يتسم بتسارع غير مسبوق في التطورات التقنية، باتت الثقافة الرقمية تشكل منظومة معرفية معقدة تتجاوز حدود الاستخدام البسيط للأدوات التكنولوجية لتصبح قوة فاعلة في إعادة تشكيل الوعي الإنساني وبنية المجتمعات. إن دراسة هذا التحول تتطلب تفكيكاً عميقاً للعلاقات المتشابكة بين الإنسان والتقنية والمعرفة، بما يكشف عن أبعاد غير مرئية للتأثير الرقمي على الهوية الفردية والجماعية.
الثقافة الرقمية ليست مجرد انتقال من الورق إلى الشاشة أو من الاتصال التقليدي إلى العالم الافتراضي، بل هي تحوّل في بنية إنتاج وتوزيع المعرفة. إنها تتحدى المفاهيم التقليدية للثقافة بوصفها ثابتة أو مرتبطة بجغرافيا محددة، وتعيد صياغتها ضمن فضاء افتراضي عابر للحدود. هذا التحول يفرض إعادة النظر في مفهوم السلطة والمعرفة، حيث لم تعد السلطة تقتصر على المؤسسات السياسية أو الأكاديمية،انما أصبحت متموضعة في الخوارزميات التي توجه اختيارات الأفراد وتؤثر في سلوكهم دون وعي مباشر منهم.
من منظور علمي، يتجلى هذا التحول في التغيرات التي طرأت على طرق التعلم واكتساب المعرفة. أظهرت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد (2018) حول تأثير البيئات الرقمية على آليات التفكير النقدي، أن الأفراد الذين يتعرضون لمحتوى رقمي مكثف يميلون إلى معالجة المعلومات بسرعة على حساب العمق التحليلي. هذه النتيجة تفتح الباب لنقاش فلسفي حول العلاقة بين السرعة والفهم، حيث يبدو أن الثقافة الرقمية تعزز نوعاً من “الوعي اللحظي” الذي يُفضّل الاستجابة الفورية على التأمل العميق.
لكن تأثير الثقافة الرقمية لا يقتصر على المعرفة فقط، بل يمتد ليشمل الهوية الإنسانية ذاتها. الهوية لم تعد كيانا صلباً يُعرّف وفق معايير ثابتة، بل أصبحت شبكة من العلاقات الرقمية المتغيرة باستمرار. في هذا السياق، يمكن فهم الثقافة الرقمية كعملية ديناميكية لإنتاج الذات في سياقات متعددة، حيث تتداخل الذوات الرقمية مع الذوات الواقعية لتخلق هويات هجينة يصعب تصنيفها ضمن القوالب التقليدية.
هذا التشابك بين الذات والتقنية والمعرفة يستدعي تأملاً في البعد الأخلاقي للثقافة الرقمية. فبينما توفر هذه الثقافة إمكانيات غير مسبوقة للتعبير والتواصل، إلا أنها تخلق أيضاً تحديات تتعلق بالخصوصية، والهوية الرقمية، وتأثير الخوارزميات على حرية الاختيار. إن قدرة الفرد على مقاومة هيمنة هذه الخوارزميات تتطلب مستوى عالي من الوعي النقدي، وهو ما يجعل من الثقافة الرقمية ليس مجرد موضوع للدراسة، بل فضاءً للنضال الفكري من أجل الحفاظ على استقلالية الذات الإنسانية.
إن هذا المقال لا يسعى فقط لوصف مظاهر الثقافة الرقمية، بل لتقديم إطار تحليلي يمكن الباحثين من فهم ديناميكيات هذا التحول العميق. فالثقافة الرقمية ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هي مشروع مستمر لإعادة تعريف الإنسان في عصر تتداخل فيه الحدود بين الواقعي والافتراضي، وبين الطبيعي والمصطنع، وبين المعرفة والسلطة. هذا الإطار يقدم دعوة للتفكير في الثقافة الرقمية كأداة لفهم المستقبل، ليس فقط من خلال ما تقدمه من إمكانيات، بل أيضاً من خلال ما تطرحه من أسئلة وجودية حول معنى أن نكون بشراً في عالم صار فيه الإنسان جزءاً من نظام معلوماتي عالمي لا يتوقف عن التطور.