حرية ـ (4/2/22025)
أندريه كوليسنيكوف
بعد ثلاثة أعوام من إطلاقه “عمليته العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، يواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم خياراً وشيكاً يلوح في الأفق. هو على الملأ يظهر تفاؤلاً. إذ قام عبر الوسائل العسكرية بإبعاد بلاده من شفير الهاوية، ودافع عن سيادتها، أو بالأحرى ما يعده سيادة. ولو لم يفعل ذلك، كما يؤكد، كان يمكن لروسيا أن تختفي من الوجود. وفي الأثناء تسجل معدلات الناتج المحلي الإجمالي الروسي نمواً – محققة زيادة بمعدل أربعة في المئة تقريباً، وفق بيانات رسمية – والرواتب لا تتنامى وحسب، بل تتماشى أيضاً مع الأسعار على رغم وصول معدل التضخم السنوي الآن إلى أكثر من تسعة في المئة. وخلف هذا المشهد الظاهر سجلت الموازنة العسكرية الروسية تضاعفاً خلال الأعوام الثلاثة الماضية، والنمو الاقتصادي العام للبلاد يبقى مدفوعاً على نحو أساس بالاقتصاد العسكري، فالقطاع الاستهلاكي إذ نسبة التضخم تسجل حتى مستويات أعلى، يعاني الركود.
بيد أن هذه المعطيات تبدو مقبولة للمواطنين الروس حتى الآن. وحقق الكرملين من جهته مزيداً من السيطرة على المجتمع حتى مع السماح لعدد من جوانب الحياة الخاصة بالاستمرار دون موانع. والحرب على رغم استمرار ارتفاع كلفها تسير بوضوح وفقاً لما تتصوره روسيا، إذ يقول بوتين إن القوات الروسية “حررت” في الأقل 189 منطقة في أوكرانيا عام 2024، والدفاعات الجوية الغربية عاجزة عن مواجهة الصواريخ الروسية الأحدث. ويظهر الشعب الروسي إشارات إنهاك جراء الحرب، لكن عموماً هناك ثقة كاملة بجميع التقارير الإيجابية عن النجاحات العسكرية. إذ بحسب نتائج استطلاع أجراه “مركز ليفادا” المستقل، فإن نسبة التأييد الواقعي أو المعبر عنه “للعملية العسكرية الخاصة” تستقر على معدل 75 في المئة تقريباً (من الشعب الروسي)، وهذا يتضمن 45 في المئة ممن قالوا إنهم يؤيدون بلا تردد العمليات العسكرية، و30 في المئة يؤيدونها إلى حد ما (على رغم أن أكثر من ثلث الروس قالوا أيضاً إن عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وهو الواعد بإنهاء الحرب بسرعة، قد تكون جيدة لروسيا، ونسبة أكبر من هذه حتى رأت أن هذه العودة لن تؤثر في شيء).
لكن الحال في الحقيقة ليست على ما يرام فيما تدخل روسيا العام الجديد. إذ إن بوتين باستخدامه القوة الصلبة فقد القوة الناعمة. كما أنه من خلال محاولته إعادة بناء الإمبراطورية الروسية، يفقد تأثير روسيا في الأراضي التي كانت لها سابقاً. وفي سعيه إلى زيادة المسافة الفاصلة بين حدود روسيا و”ناتو” حقق العكس تماماً، فحلف شمال الأطلسي بات، كما يحذر الكرملين بقلق، “على الأبواب”. والجبهة الداخلية هي الأخرى ليست مستقرة. فالاقتصاد بات موجهاً بصورة متزايدة نحو الحرب وهيمنة الدولة، إذ يفرض البنك المركزي سعر فائدة قياسياً يبلغ نسبة 21 في المئة – وهو ضروري لكبح التضخم – مما يدفع بعض الشركات إلى حافة الإفلاس.
والكرملين، عبر منحه الأولوية لمسألة الأمن، جعل حياة الروس أقل أماناً. إذ بالنسبة إلى كثر باتت الحياة اليومية في روسيا عبارة عن انتظار وصول مسيرات العدو، أو انتظار الأجهزة الأمنية إن كانوا مناوئين الحرب. الأعراف الاجتماعية تآكلت بفعل تطبيع العنف، وأصبح مفهوم الوطنية مرتبطاً بالاستعداد لبيع النفس لحفر الخنادق مقابل مكافآت ورواتب متزايدة. والرقابة التي دمرت وسائل الإعلام الروسية المستقلة انتشرت تدريجاً في قطاعات التعليم والمسرح والسينما والنشر وحتى في سياسات عمل المتاحف. وتتعرض اليوم فئات اجتماعية بأكملها للوصم والاضطهاد، من المهاجرين والنشطاء المدنيين إلى العلماء والمثقفين، الذين غالباً ما يدرجون في قائمة “العملاء الأجانب”. إن أية مقارنة بين بوتين وأسلافه السوفيات لن تكون لمصلحته، فالاتحاد السوفياتي بعد ستالين كان يفخر بـ”سبوتنيك”، أما روسيا بوتين فتفخر بصاروخها الفرط الصوتي الأحدث “أورشنيك”.
وهناك مشكلة أكبر تتلخص في المستقبل. فبعد أن أوصل البلاد إلى هذا الحد، من غير الواضح ما إذا كان بوتين وفريقه يستطيعان التراجع. إن نزع الطابع العسكري عن الاقتصاد وتخفيف تعبئة الجمهور، من شأنهما تقويض النظام الذي ينهض بحكم بوتين. فعلى رغم ارتفاع كلف النزاع يحتاج بوتين إلى حرب دائمة للحفاظ على ما يسميه باحثو الاجتماع الموالون له “إجماع دونباس”، أي الغالبية الروسية التي تدعم الأعمال العسكرية ونهج السلطة الذي يزداد ارتباطاً بشخص الحاكم في الكرملين. هنا إذاً تكمن المعضلة التي يواجهها بوتين عام 2025، إنهاء الحرب سيكون بنفس خطورة شنها.
روما الصغرى
خلال الأعوام التي قادت إلى “العملية العسكرية الخاصة” (في أوكرانيا)، عمل بوتين ومؤيدوه على إحياء الفكرة الروسية القديمة عن “روما الثالثة”، وهي التصور الذي يرى أن بوسع دولة روسية مثالية ممارسة تأثير حاسم على “عالم روسي” ممتد. وافترض هذا التصور أن تكون الإمبراطورية الجديدة متمتعة بقوة كبيرة جداً بحيث يمكنها أيضاً التحكم بالتطورات الحاصلة خارج مجالها الإقليمي. وهذه الرؤية تعثرت.
خذوا مثلاً الانهيار السريع لسوريا بشار الأسد خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) 2024. إذ لأعوام جرى تقديم تدخل روسيا في سوريا على أنه قصة نجاح تظهر قدرة نظام بوتين، مثل سلفه النظام السوفياتي، على تقرير مصير الدول البعيدة آلاف الأميال من الكرملين. وكثيراً ما استخدمت سوريا لتبرير التوسعية الروسية، ووفرت الحرب ضد الفصائل المناهضة للأسد نموذجاً للدعاية السياسية الروسية المتمحورة اليوم حول أوكرانيا، بيد أن هذه السردية انهارت الآن، على رغم أنها حتى اللحظة لم تهز المعدلات العالية لتأييد بوتين في أوساط الروس.
كما أن خسائر بوتين في هذا السياق لا تقتصر على سوريا. فأرمينيا التي كانت ذات يوم “الشريك الاستراتيجي” لروسيا في القوقاز – البلد الذي كان بحماية موسكو ومعتمداً على روسيا بصورة شديدة في قطاعات اقتصادية عدة – جرى التخلي عنها وسط غبار حربها الأخيرة مع أذربيجان. ففي خريف عام 2023 لم يكن بإمكان روسيا سوى غض الطرف عما يحصل، فيما كانت القوات الأذرية المسلحة جيداً تستولي على جيب ناغورني – كاراباخ الأرمني، وتطرد بين ليلة وضحاها أكثر من 100 ألف أرمني منه. واليوم تعمل أرمينيا على إبرام ميثاق شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية، وتسعى إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي. ويُقال إن ثمة “كيمياء” تجمع بوتين بالرئيس إلهام علييف زعيم أذربيجان منذ فترة طويلة، لكن بعد أن أسقطت الدفاعات الجوية الروسية طائرة الركاب الأذرية فوق غروزني خلال أواخر ديسمبر (كانون الأول) 2024، باتت تلك الصداقة المفترضة بين هذين المستبدين موضع شك. ناهيك بأن علييف الآن وطد تحالفه مع زعيم إقليمي قوي آخر، هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وتركيا من جهتها تمثل في الواقع مشكلة أخرى، إذ منذ أن فرض الغرب عقوبات واسعة على روسيا عام 2022، اعتمد الكرملين على علاقته الودية مع أنقرة لمعالجة المعاملات المالية وتأمين عدد من الواردات الضرورية للحياة اليومية في روسيا. لكن تركيا تتصرف كما يحلو لها. فقد دعا أردوغان إلى إعادة شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا، وفي سوريا قام بدعم المتمردين الذين أسقطوا حليف بوتين، بشار الأسد، والذين باتوا راهناً يسيطرون على البلاد. إذ حتى مع تظاهر أردوغان بأنه صديق لبوتين، قام يتجاهله في دمشق. أما مهمة تركيا اليوم، وفق أحد الخبراء الأتراك، فتتمثل في استيعاب روسيا، حتى وهي تستفيد من التعاون البراغماتي معها.
الكرملين عبر إعطائه الأولوية لمسألة الأمن جعل حياة الروس أقل أماناً
ثم هناك إسرائيل. لأعوام عديدة اجتمع بوتين دورياً برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامن نتنياهو، الذي يعده رجلاً قوياً على نسقه. وفي الوقت عينه، فإن تاريخ أوكرانيا الطويل في معاداة السامية وإرث الهولوكوست في البلاد سمحا لبوتين، ولغاية فبراير (شباط) 2022 في الأقل، باحتلال مكانة أخلاقية عالية في نظر عدد من الإسرائيليين. ليس هناك عدد كبير من اليهود في روسيا، إذ شهدت أعدادهم تراجعاً متزايداً منذ بداية الحرب في أوكرانيا. فكثير من المثقفين اليهود غادروا البلاد، وعديد ممن بقوا استحصلوا على جواز سفر إسرائيلي في حال اضطروا إلى مغادرة البلاد.
وتاريخياً اقترن صعود النزعة القومية الروسية بمعاداة السامية، على رغم أن العدو الأساس اليوم وفق دعاية الكرملين السياسية ليس اليهود والصهونية، بل “ناتو” والكتلة “الأنغلو–ساكسونية” التي يخدمها الحلف المذكور، وفق زعم الدعاية البوتينية، بيد أن المواقف العامة في روسيا تجاه اليهود خصوصاً تجاه إسرائيل، شهدت تدهوراً ملحوظاً. والروس غير مهتمين على نحو خاص بحال الفلسطينيين ومصيرهم، لكن وبما يبدو كاستجابة انعكاسية، فإن أولئك الذين يؤيدون ويدعمون بشدة حرب روسيا في أوكرانيا، يميلون أيضاً لتأييد “حماس” و”حزب الله” ضد إسرائيل (في استطلاع مشترك لـ”مركز ليفادا” و”مجلس شيكاغو” أجري خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2024، رأى 38 في المئة من الروس أن الولايات المتحدة ودول “ناتو” أكثر من يتحمل المسؤولية تجاه سفك الدماء والاضطراب المستمرين داخل الشرق الأوسط، أما نسبة الروس الذين قالوا إن إسرائيل تتحمل مسؤولية النزاع القائم فبلغت تقريباً ثلاثة أضعاف عدد الذين لاموا “حماس” والفلسطينيين).
حتى إن الدول التي تدور في فلك روسيا منذ زمن بعيد باتت اليوم تشكل مصدر قلق بالنسبة لبوتين. خذوا مثلاً الحالة الصغيرة، لكن المذهلة، لأبخازيا، المنطقة المنشقة عن جورجيا. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وبعد أن ساد الحديث عن خطة من شأنها منح روسيا نفوذاً أكبر في اقتصادهم، اقتحم الأبخازيون مبنى برلمانهم وأسقطوا حكومتهم. واقتصر رد الكرملين على حظر البرتقال اليوسفي الأبخازي، ونصح السياح الروس بعدم زيارة المنطقة.
في الوقت عينه، تعثرت مختلف المنظمات متعددة الأطراف التي أسهمت روسيا على مدى العقدين المنصرمين في تشكيلها وإطلاقها. مجموعة “بريكس” مثلاً، وهي منظمة من القوى غير الغربية التي أسستها روسيا مع البرازيل والصين والهند عام 2009، أضافت مزيداً من الأعضاء في كتلتها، لكنها فشلت في تحقيق نتائج ملموسة كافية. والمشكلة أن بوتين يدعي أنه يبني نظاماً عالمياً بديلاً، لكن النظام العالمي إما أن يكون موجوداً أو غير موجود. فهو لا يمكن أن يكون بديلاً، وهو مستحيل من دون الغرب. إلى ذلك فإن الأعضاء الآخرين في “بريكس” وفي المجموعات والمنظمات الأخرى التي يفترض أن تبقي دول الاتحاد السوفياتي السابق في فلك بوتين، لديهم مصالح متعددة خاصة بهم وتتعلق بدولهم، وهم حريصون على التعاون مع الصين وأوروبا والولايات المتحدة كحرصهم على التعاون مع العاصمة الإمبراطورية السابقة (أي موسكو). وفي هذا الإطار ليس ثمة بلد آخر غير روسيا أقسم واعداً بـ”روما الثالثة” أي بإعادة إحياء الإمبراطورية، حتى تلك البلدان التي تعج ترساناتها بصواريخ فرط صوتية جديدة. باختصار، إن توسع الإمبراطورية الوهمية هذه أدى إلى إضعاف دولة المستبد الرجعية، بدلاً من تقويتها.
جنود لا معلمون
بعد ربع قرن له في السلطة يبدو بوتين اليوم وعلى نحو متزايد أكثر انفصالاً عن الواقع. فهو، كما لاحظ أحد المطلعين، “يعيش في عزلة”. إذ إنه يرى عدداً من العيوب الهيكلية المتضاعفة في روسيا اليوم كإنجازات، وليس علامات تشير إلى اعتلال الواقع الاقتصادي للبلاد. ورأى اقتصاديون أن القوى العاملة تعاني راهناً من نقص يقدر بنحو 4.8 مليون عامل، وذلك إلى جانب تراجع طويل الأمد في عدد السكان الذين هم في سن العمل، مع وجود مئات آلاف “المغادرين” – أي الأشخاص الذين غادروا روسيا منذ عام 2022 – والذين ذهبوا إلى الخنادق أسهموا في الاستنزاف الاقتصادي أكثر. هذا ولا يوجد في الإطار إحصاءات موثوقة لحجم الخسائر المسجلة، لكن هذه الخسائر ستؤثر في الواقع الديموغرافي وسوق العمل في البلاد لعقود مقبلة. إذ إن المدارس الروسية وحدها وفق بعض التقديرات قد تفتقر إلى ما يناهز نصف مليون معلم. وثمة مشكلات توظيف مماثلة، وإن كانت أقل حدة تعانيها القطاعات الطبية وقطاعات غيرها.
ويعيش الاقتصاد المدني في روسيا حال تعثر. وقطاع البناء يشكل مثالاً رئيساً في هذا الصدد، إذ بسبب انخفاض الطلب والارتفاع الكبير في الكلف – ارتفعت أسعار مواد البناء بنسبة 64 في المئة بين عامي 2021 و2024 – تباطأ على نحو دراماتيكي معدل الشروع في بناء المساكن الجديدة. وتشمل القطاعات المتعثرة الأخرى قطاع نقل البضائع الذي تفاقمت أزمته بسبب تباطؤ نظام السكك الحديد، وقطاع النقل البري الذي يعاني بسبب ارتفاع كلف الوقود ونقص السائقين، وقطاع استخراج المعادن، وقطاع الزراعة الذي كان يمثل فخر نظام بوتين. وفي الإجمال لم تعد الصادرات مصدراً للنمو الاقتصادي. طبعاً الاستهلاك المحلي يستمر، لكن التوقعات تبقى غامضة بسبب الارتفاع المتواصل في الأسعار. ورسمياً بلغ التضخم في روسيا عام 2024 معدل 9.52 في المئة. ومن الواضح هنا أن الحكومة بغية تسهيل الأمور نفسياً على السكان لم ترغب في أن يأتي المعدل السنوي المذكور رقماً من خانتين، إلا أن أسعار منتجات الفاكهة والخضراوات ارتفعت بنسبة 22.1 في المئة، وارتفع سعر الزبدة بنسبة تجاوزت الـ36.2 في المئة. أما بالنسبة للقطاعات غير الغذائية فقد ارتفعت أسعار الخدمات بنسبة 11.5 في المئة، وسعر البنزين بنسبة 11.1 في المئة، والأدوية بنسبة 10.6 في المئة. ومن المستحيل في السياق إبقاء السكان بمنأى عن تأثيرات كل تلك التطورات.
وبغض النظر عن ذلك يسير اقتصاد الحرب بأقصى سرعة، إذ تشير الإحصاءات إلى زيادة الإنتاج الصناعي في القطاعات التي تزود قطاع الدفاع بالمعدات والمكونات الوسيطة، مثل قطاع المعدن وقطع الآلات والعربات والمعدات الكهربائية وأجهزة الكمبيوتر والإلكترونيات. وتواصل الحكومة في السياق مد القطاع الصناعي العسكري بالمال، وهي وعدت بتحسين الآفاق المهنية وزيادة الرواتب للأشخاص الذين ينضمون إلى هذا القطاع، إذ من المهم لبوتين أن يظهر للشباب أن الطريق للحياة المهنية الناجحة يمر في الحرب، بيد أن عملية مد الجيش المتواصلة بالعناصر جاءت بكلفة باهظة، إذ تنفق الحكومة اليوم وفقاً للتقديرات ما يصل إلى 23 مليار دولار سنوياً، وذلك فقط لجذب مجندين جدد. وبدأت بعض مناطق البلاد منذ بداية عام 2025 زيادة المخصصات للأشخاص الذين وقعوا عقداً عسكرياً، مما يكشف عن مدى عدم شعبية هذا “العمل”. كذلك تقوم الدولة بتشجيع الشباب على الالتحاق بمؤسسات التعليم المهني الثانوي التي تقدم التدريبات اللازمة للاختصاصات المطلوبة في القطاع شبه العسكري. ولتلبية الطلب على المهندسين في المجمع الصناعي العسكري، اهتم الكرملين بشدة في تعزيز الاختصاصات الفنية بقطاع التعليم العالي أيضاً.
وهذه الأمور جميعها أثارت شكوكاً إزاء المدة التي يمكن أن تبقى فيها احتياطات الموازنة الروسية صامدة في ظل الحرب. هل ستبدأ الموارد بالنفاد عام 2025؟ وثمة أيضاً خطر حصول كوارث من صنع الإنسان، إذ تتجاهل الحكومة البنية التحتية المدنية المتداعية في البلاد. فحوادث مثل خروج القطارات عن مسارها وانقطاع نظام التدفئة، وتعطل الطائرات المحلية، وأعطال مختلفة في مرافق وقطاعات أخرى، باتت تتكرر اليوم على نحو ينذر بالخطر. فخلال ديسمبر (كانون الأول) 2024، تعرضت ناقلتان روسيتان قديمتان محملتان بالمحروقات لضرر شديد إثر عاصفة ضربت مضيق كيرتش الفاصل بين روسيا وشبه جزيرة القرم، مما أدى إلى تسرب آلاف الأطنان من النفط في البحر والتسبب بكارثة بيئية ضخمة. وجنحت إحدى الناقلتين جراء الحادثة فيما انشطرت الأخرى إلى قسمين، وذلك بعد أن خدمتا لأكثر من 50 عاماً. وخلال الوقت عينه، بالمنطقتين الحدوديتين الروسيتين بيلغورود وكورسك، وفي مناطق البلاد الداخلية مثل تتارستان باتت هجمات المسيرات الأوكرانية حوادث روتينية. ولا شيء من هذه الأمور طبعاً يعزز شعور المواطنين الروس العاديين بالأمان.
العالم المنقسم من جديد
من خلال تخصيص كل شيء للحرب أوصل بوتين الروس وعلى نحو متزايد إلى حال إنهاك منها. وعلامات الإنهاك أو الإرهاق تلك تتبدى في مختلف أوساط الشعب الروسي، إذ تظهر استطلاعات أجراها مركز ليفادا اليوم غالبية روسية واضحة تؤيد قيام محادثات سلام، ووصلت نسبتها خلال شهر نوفمبر إلى 57 في المئة، المعدل الذي يقارب النسبة الأعلى لمؤيدي السلام منذ بدء الحرب (انخفض هذا المعدل قليلاً إلى 54 في المئة خلال شهر ديسمبر [كانون الأول]، لكن نسبة الروس الذين أفصحوا عن معارضتهم للسلام بقيت دون تغيير لأشهر عدة، عند معدل 37 في المئة). وبالنسبة لغالبية مؤيدي السلام هناك شرطان مهمان يستمر التمسك بهما، يتمثلان بوجوب احتفاظ روسيا بـ”الأراضي الجديدة” التي استولت عليها منذ عام 2022، وبعدم انضمام أوكرانيا إلى “ناتو”. وأظهر الاستطلاع أنه إن تم استيفاء هذين الشرطين فإن إنهاء الحرب سيرضي شريحة كبيرة من المجتمع الروسي التي ستعد الأمر “انتصاراً”.
والآمال في حصول محادثات سلام ارتفعت مع انتخاب ترمب، على رغم أن الجمهور الروسي العام كما النخب يعربون عن شكوكهم في أية نتائج فورية بهذا الاتجاه. فخلال أكتوبر 2024 وافق 37 في المئة من المشاركين باستطلاع مركز ليفادا على الفكرة القائلة إن انتخاب ترمب سيكون مفيداً لروسيا، فيما رأى قرابة 33 في المئة أن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة قد تتحسن في عهده، لكن هناك نسبة أكبر حتى، بلغت 46 في المئة، قالت إن نتائج الانتخابات الأميركية لن تحدث أي تغيير.
إن علامات التوتر العام إزاء مظاهر العسكرة المثابرة في المجتمع وتجاه التحديات الاقتصادية، لا تعني أن الروس ينقلبون على بوتين. غير أنها علامات تشير بوضوح إلى أن الكتلة الكبيرة من الأشخاص الذين يدعمون الحرب عموماً هم في الوقت نفسه يتوقون لنهايتها. من هنا وبهذا المعنى لا ينبغي فهم الرأي العام في روسيا بوتين على أنه كتلة متراصة ثابتة، بل هو أشبه بحمم بركانية بطيئة الحركة، قد تبدل اتجاهها مع تبدل العوامل الخارجية (المحيطة). وذاك ربما ما يقلق الكرملين. لقد كان مستشارو الكرملين يناقشون خلال نوفمبر 2024، كيفية جعل “الغالبية الهادئة” من الروس تنظر إلى السلام على أنه انتصار، ويبحثون في ضمان المعاملة الجيدة لأولئك الذين سيعودون من الخنادق. ومن بين الأخيرين سيكون هناك عدد من الأسرى السابقين، والمعوقين جسدياً، والذين يعانون اضطرابات ما بعد الصدمة. إذ ينبغي، وفقاً لفكرة بوتين، أن يؤمن للذين خاضوا القتال مساراً سريعاً للدخول في الوظائف الإدارية عبر برنامج خاص. أما المسؤولون المدنيون من جهتهم فليسوا متحمسين كثيراً لاحتمال حصول هكذا أمر ومنافسات من هذا النوع.
إذاً، مهمة الكرملين لعام 2025 تتمثل في الحفاظ على هدوء الشعب الروسي. وهذا سيكون ضرورياً بصرف النظر عما إذا كان بوتين مستمراً في حرب الاستنزاف وسط حالة الركود والنقص في قوى العمل، أو إن كان سيسمح بحصول اتفاق سلام – دون استسلام كامل للعدو – ويسعى عبر طرق جديدة إلى تعزيز الغالبية المؤيدة له. وعلى رغم أن وقف “العملية الخاصة” سيكون بالنسبة لبوتين بكلفة استمرارها، فإن هناك مخرجاً يتمثل بإمكانية مواصلته حرباً دائمة ضد الغرب، بمنحى بارد لا حار. فالأمر الأساس بالنسبة له يتمثل بعدم الشعور بهزيمة، حتى ولو جزئية. غير أن المشكلة هنا هي أن الحرب الدائمة التي لا تنتهي يمكن، عاجلاً أم آجلاً، أن تولد انطباعاً بالركود، إن لم يكن بالهزيمة. والأمر نفسه قد يحصل بالنسبة للاقتصاد المتعسكر. فخلال عام 2025 سواء حصل وقف إطلاق نار أم لم يحصل، لن يكون ممكناً تجنب إحساس أن بوتين بات في طريق شائك. وهو قد يتمكن من الممطالة لفترة من الزمن، لكن، وحتى في مجتمع ثابت في لامبالاته، كم لديه من الوقت؟
بوتين وبرهانه كل شيء على الحرب أنهك مواطنيه منها على نحو متزايد
خلال الأعوام الثلاثة الماضية بدأت روسيا في دخول الفصل الأخير لانهيار إمبراطورية لم تقم فقط خلال القرون السابقة بتوسعة حدودها عبر معظم أوروبا وآسيا، بل قامت أيضاً بإخضاع شعبها نفسه. فهي كانت بمثابة استعمار ذاتي. وذاك المسار يتكرر اليوم مرة أخرى، لأن معركة بوتين الراهنة تدور على جبهتين، خارجية وداخلية. فالفكرة القديمة التي لم تُدمر بعد عن روسيا، تنتقم من أجيال جديدة بريئة تضحي بحياتها في سبيل عظمة لا يمكن استعادتها، إذ حتى مع عمل الإمبراطورية المتخيلة على توسعة و”استعادة وتعزيز” أراضيها في ذهن بوتين وأذهان المحيطين به، فإن روسيا بنهاية المطاف لم تعد جسماً إمبراطورياً.
من هنا ووفق المنحى نفسه، فإن اتفاق السلام لن يرضي بوتين إلا إذا قرر أن روسيا القديمة استعيدت، وأن العالم انقسم بين القوى العظمى مرة أخرى، وهذا يشكل مزيجاً من ميونيخ ويالطا [في إشارة إلى اتفاق ميونيخ عام 1938 ولقاء يالطا بين الحلفاء عام 1943]، أي صفقة لشراء السلام وتثبيت الحرب الباردة الجديدة رسمياً. لكن هذه الإمبراطورية الروسية المتشكلة من جديد ستكون إمبراطورية فقط في ذهن بوتين. إذ سيجري التنصل منها في كل مكان آخر. وفي الأثناء تبقى كل صفقة لإنهاء النزاع في أوكرانيا بعيدة المنال نظراً إلى التباعد الشديد في وجهات نظر الطرفين في شأن التنازلات التي ستكون مطلوبة. لكن إن حصلت تلك الصفقة فعلاً، فلن يكون كافياً لبوتين أن يعيد تقسيم أوروبا مع ترمب، وأن يبقي روسيا في تحالف وثيق مع الصين، ويواصل ممارسة ألعابه مع “الأكثرية العالمية”. وجل ما يحتاج إليه بوتين لإتمام صورته “العادلة” للعالم هو أوكرانيا، وليس إلى دول البلطيق أو فنلندا أو بولندا، إذ إنه يفتقر للموارد المادية والديموغرافية ولاحتياطات صبر الشعب الروسي، المطلوبة لهذا النوع الأخير من التوسع.
لقد بدأ بوتين بالفعل، حتى من الآن، بإنشاء حال الانقسام التي يتصورها، وهو بالسياق لا يعد غرب أوكرانيا ضمن “أراضيه” فعلاً، لأن ذاك الغرب على عكس القرم والجزء الشرقي من البلاد غربي ثقافياً وتاريخياً، من ثم غريب بالنسبة له. وفي المقابل، وبحال قيام حرب باردة جديدة، قد يدخل الغرب عندها أيضاً حقبة احتواء جديدة. على أن الأمور هذه المرة ستكون أكثر تعقيداً بكثير مما كانت عليه في السابق. إذ بدل قوتين عظميين عقلانيتين بالإجمال، بات العالم الآن رهينة لثلاثة قادة خطرين لا يمكن التنبؤ بما سيقومون به، بوتين وترمب وشي جينبينغ.