حرية ـ (5/2/22025)
هناك بالتأكيد عدة قواسم مشتركة بين عملين أوبراليين يأتي أولهما من صقلية الإيطالية، والثاني من بوهيميا التشيكية، لكن من دون أن يكون ثمة تشابه بينهما. الأول هو أوبرا “الفارسة الريفية” للإيطالي ماسكانيني، والثاني “خطيبة للبيع” (أو “الخطيبة المباعة”) للتشيكي بدريك سميتانا. أما القاسم المشترك الأكثر بروزاً هنا، فيكمن في كون كل من العملين يعد الوحيد الشهير في المجال الأوبرالي لمؤلفه، حتى وإن كان لكل من المؤلفين أعمال كثيرة أخرى. وينطبق هذا خصوصاً على سميتانا (1824-1884) الذي تفوق شهرته شهرة أي موسيقي آخر من الشرق الأوروبي، لكن بالنسبة إلى عمل واحد فقط من نتاجاته هو القصيدة السيمفونية “بلدي” ومن ضمنها خصوصاً مقطوعة “المولداف” التي من الواضح أن إسرائيل حين احتلت أرض فلسطين لتبني “دولتها”، لم تتردد من دون السطو على تلك القطعة الموسيقية البديعة لتجعلها موسيقى “نشيدها الوطني”، لكن هذه ليست حكايتنا هنا. حكايتنا تتعلق بأوبراه الكبيرة الشهيرة الوحيدة “خطيبة للبيع” التي لا يعرف له العالم الخرجي، أي خارج بلاده، أية أوبرا غيرها بل لا بد من أن نقول إنها ليست أوبرا على أية حال، بل هي في الأصل أوبريت خفيفة. ولها في هذا الإطار حكاية أخرى سترد في السياق التالي.
بدريك سميتانا (1824-1884): موسيقى بديعة في خدمة الشعب
تغييرات متتابعة
فالحقيقة أن سميتانا الذي كان حين قدم هذه الأوبرا في براغ عام 1866 للمرة الأولى غير معروف بما فيه الكفاية حتى في بلده، لم يقدمها بالشكل الذي ستعرف به لاحقاً وحتى اليوم حيث ينظر إليها باعتبارها أعظم عمل أوبرالي تشيكي على الإطلاق، بل كانت حينها مجرد مغناة صغيرة تنتمي إلى أسلوب الأوبرا-كوميك. وكانت تتألف من 22 مقطوعة موسيقية راقصة تتخللها حوارات مسرحية غير مغناة. وكانت الغاية منها موسقة نص كان قد كتبه الشاعر التشيكي كارول سابينا ويعد فولكلورا قومياً يعتد به. مما يعني أن كل شيء إنما صيغ يومها للاستفادة من شهرة ذلك النص ومكانته في أفئدة الشعب المحلي. غير أن جمال الموسيقى التي وضعها سميتانا سرعان ما لفت نظر المعنيين من ثم حين قيض لذلك العمل أن يقدم لاحقاً في سانت بطرسبورغ ثم في باريس، طولب سميتانا بأن يحدث تغييرات في البنية الموسيقية كما في بنية ذلك العمل ككل، جعلته شيئاً آخر تماماً، ولم يعد يليق به اعتباره “أوبرا هزلية”، خصوصاً أنه تحول من فصلين إلى ثلاثة وجعل فيه الموسيقي مكاناً للكورس، وخلق لحظات مدهشة من الغناء الثنائي طعمت الموسيقى والحوارات بمزيد من المعاني الاجتماعية التي تطبع عادة ذلك النوع من الفولكلور المحلي الذي راح سميتانا يمعن في اكتشافه وتطويره والاستفادة من تفاعل الشعب معه. ولعل أغرب ما في الأمر أن العمل الذي راح يتكون أكثر وأكثر من مقطوعات متفرقة لصقت إلى بعضها بعضاً، لم يبد عليه ذلك في النهاية، بل اتسم بتماسك ووحدة أسلوبية مدهشة طبعته بوحدة عز نظيرها في عمل من ذلك النوع.
غلاف أسطوانة أوبريت “خطيبة للبيع”
حكاية غرام كالعادة
كما جرت العادة في مثل هذا النوع من الأعمال المغناة، التي لدينا في أعمال الأخوان رحباني اللبنانيين كثير مما يسير على منوالها، تنطلق الحكاية كلها من قصة حب وزواج في الريف التشيكي. الحب هو ذاك القائم بين الحسناء مارنكا، وحبيبها الشاب المجهول الأصل جينيك، والزواج هو ذلك الذي تحضر القرية للاحتفال به بين مارنكا نفسها والفتى الثري إنما الأحمق فاشيك الذي يتطلع أهله سادة القرية وبخاصة أبوه ميشاً، إلى تزويجه من مارنكا غير آبهين بأنها هي لا تريد ذلك. بالتالي وسط الاحتفالات المقامة في القرية التي يشارك فيها السكان جميعاً وقد ارتدوا أفضل ما عندهم من ثياب وحلي، يضحكون ويغنون ويرقصون فرحين وكأن العرس هو عرس كل واحد وواحدة منهم، لا يتسع وقتهم كي يبالوا بأشجان جينيك، لكن خصوصاً من دون أن ينتبهوا إلى الحزن المخيم على مارنكا. وفي تلك الأثناء سنعلم نحن أن جينيك الذي يعيش حياته في القرية بائساً وحيداً لا يعرف أحد من هو أبوه، لا يمكنه القيام بأي تصرف. كل ما في الأمر أنه يقف صامتاً عاجزاً بينما تنفرد مارنكا متنكرة بفاشيك واصفة له بلؤم مدروس، الفتاة التي يجدر به أن يتزوجها وهي فتاة لا تشبهها هي نفسه على الإطلاق مما يجعل فاشيك على صغر عقله يقرر التخلص من هذه الخطبة وقد قرر ملاحقة ممثلة وصلت مع فريق مهرجين أتوا أصلاً للمشاركة في الاحتفال. وفي تلك الأثناء يكون عدد من أعوان ميشا قد التقوا الفتى جينيك بعدما أدركوا أن ماركا تحبه ونقدوه 300 كورون مقابل أن يعلن على رؤوس الأشهاد تخليه عن حبيبته. فيقسم زاعقاً، أنه أجل إن مارنكا لن تتزوج إلا ابن ميشا. وهكذا يحسم الأمر وتكون مارنكا قد صدمت وخاب أملها تماماً حين يتم إخبارها بقسم جينيك… وها هي تشهد مذهولة “خطيبها الآخر” يطارد الممثلة اللعوب ملاحقاً إياها من مكان إلى آخر خلال ما تبقى من الاحتفالات.
الحقيقة والنهاية السعيدة
ولكن كما الحال دائماً في هذا النوع من الأعمال الفنية، لئن كانت مارنكا قد شعرت بأقصى درجات العار إذ علمت أن حبيبها قد باعها مقابل 300 كورون، ها هي حقيقة مذهلة تنكشف في اللحظات الأخيرة: ليس جينيك في الحقيقة سوى الابن الذي أنجبه ميشا من نزوة له سابقة. جينيك كان يعرف ذلك وينتظر اللحظة المناسبة لإعلان حقيقته. وهكذا تتضاعف الفرحة إذ تشمل هذه المرة جينيك وخصوصاً مارنكا وقد فهمت ما حدث وأدركت اللعبة التي لعبها حبيبها من أجلها… فهو كان أكد في قسمه أن ابن ميشا هو وحده الذي سيكون عريس مارنكا، وهو نفسه ابن ميشا ومن هنا احتفظ بحبيبته وبقسمه في الوقت عينه. وواضح هنا مرة أخرى أننا أمام موضوع في غاية البساطة، غير أن المسألة ليست هنا. المسألة في مكان آخر تماماً. في الموسيقى التي تعمد سميتانا أن يجعل منها نوعاً من مزيج شديد الجمال والرقي من مختلف الأجواء الشعبية المعروفة في شتى أنحاء ومناطق تلك الأمة. ومن الواضح أن ذلك الموسيقي المجتهد، الذي كان في بحثه بين منطقة وأخرى من مناطق بلاده، يمشي على الدروب التي كان شقها في ذلك الحين، وفي مكان غير بعيد جداً، أولئك الموسيقيون الروس الذين شكلوا الجماعة التي سميت “جماعة الخمسة” جاعلين هدفها، من خلال مجابهة تغريب الموسيقى الروسية على يد تشايكوفسكي ورفاقه من “المنفتحين على الغرب أكثر مما ينبغي”، العودة إلى الجذور القومية المحلية من خلال الموسيقى في حراك ليس روسيا هنا تماماً بالطبع لكنه سلافي إلى حد كبير. ومن هنا دلالة النجاح الكبير الذي حققته تلك الأوبريت الطريفة وانطلاقاً منها، الموسيقى التي أنتجها سميتانا، لكن أيضاً من بعده بيلا بارتوك وأمثاله من مبدعين جعلوا إبداعهم في خدمة وحدة الشعب وتمسكه بقيم تقف متصدية لما هو “مستورد” ربما في نوع من ضيق أفق منغلق، لكنه أفاد الإبداع الفني في تلك المناطق من العالم، وليس في مجال الإنتاج الموسيقي وحده.