حرية ـ (5/2/22025)
سناء عبد العزيز
هل يمكن أن تصبح الأنانية فضيلة في يوم من الأيام؟ سؤال يثير الجدل منذ أن دافعت آين راند عن فضيلة الأنانية باعتبارها جوهر تحقيق الذات، والوسيلة الأكيدة لتحرير الجميع من تبعات التضحية التي عادة ما تنتظر رد الجميل أو حتى الاعتراف به، وتجلب شعوراً لا يطاق بالذنب حال نكرانه. لكن ماذا يحدث عندما تتعارض هذه الفكرة مع الواقع اليومي للعلاقات العائلية والالتزامات العاطفية؟ وكيف يمكن الإنسان أن يوازن بين استقلاليته وتوقعات الآخرين من دون أن يفقد ذاته؟
مثل هذه الأسئلة وغيرها، يلتقطها الكاتب الأميركي ستيفن مكولي بمهارة، في روايته الجديدة “أنت لا تتصل إلا عندما تقع في ورطة” You Only Call When You’re in Trouble، مثيراً عدداً من القضايا الاجتماعية والثقافية الملحة، لا سيما في ما يتعلق بالبنية العائلية الحديثة، والضغوط المهنية الملحة، ومدى تأثير ذلك في إعادة تعريف جدلية الأثرة والإيثار في العصر الراهن.
رحلة العائلة
رواية “انت لا تتصل إلا عندما تقع في ورطة”
وُلد ستيفن مكولي عام 1955 في ضواحي بوسطن، وسط بيئة تركت بصمتها العميقة على أعماله. تجلى هذا التأثير في معظم شخصياته التي غالباً ما تعاني من صراعات داخلية تتعلق بالهوية والمسؤولية والحرية، وتعيش حالة دائمة من الشعور بعدم الانتماء. يقول في حوار سابق: ” أعتقد أن التأثير الأكبر عليّ كان إحساسي المستمر بالغربة. حتى القراءة، التي أحببتها منذ الطفولة، بدت أمراً غريباً لأسرتي، بحيث لم يكن أحد منهم يقرأ من أجل المتعة. كان الأمر محبطاً، وكأنني أمارس عادة مريبة: لماذا لا تجلس معنا لمشاهدة التلفاز؟”.
لم يكن مكولي مجرد قارئ شغوف، بل تأثر بكتّاب شكّلوا رؤيته السردية، مثل إيفلين ووه، وجين أوستن، وإديث وارتون، واستلهم منهم الحس النقدي وسخريتهم اللاذعة. ووجد في أعمال جون أبدايك وآن تايلر مصدر إلهام لطريقته في تناول العلاقات العائلية، بخاصة في سياق الطبقة المتوسطة الأميركية.
أصدر مكولي سبع روايات، تصدّرت قوائم الأكثر مبيعاً، من بينها “موضوع عاطفتي” The Object of My Affection، و”الطريق السهل للخروج” The Easy Way Out، و”حقيقي بما فيه الكفاية” True Enough . وتم تحويل ثلاثة من أعماله إلى أفلام روائية. وصفته صحيفة “نيويورك تايمز بوك ريفيو بأنه “الابن السري لإديث وارتون وودي آلن”، ومنحته وزارة الثقافة الفرنسية وسام فارس الفنون والآداب، تكريماً لمسيرته الأدبية.
الروائي الأميركي ستيفن ماكولي
في روايته الثامنة “أنت لا تتصل إلا عندما تقع في ورطة” الصادرة عن دار “هولت” للنشر، يكتب مكولي بروح ساخرة تتسلل إلى أكثر اللحظات تعقيداً، فيجعل الأزمات العائلية تبدو مألوفة للقارئ، بل وأحياناً مضحكة بصوت عال: “كنت أحاول أن أشرح له كيف أنني لا أملك فكرة عن كيفية التعامل مع هذا الموقف، فقال: هل تعرف، أعتقد أنني إذا كنت لا أستطيع مساعدتك في هذه الحالة، سيكون من الأفضل لي أن أذهب وأصبح خبيراً في اختيار الجبن”.
تدور أحداث الرواية حول ثلاث شخصيات رئيسية؛ دوروثي: أم عزباء في الستين من عمرها، تستعد لافتتاح مركز استجمام في وودستوك، نيويورك، بالتعاون مع مؤلفة كتب مساعدة ذاتية. ثم سيسيلي ابنة دوروثي، أستاذة جامعية في الثلاثنن عمرها، تواجه فضيحة مهنية في جامعتها بسبب إدعاء فتاة بالتحرش بها، وأخيراً توم شقيق دوروثي، مهندس معماري متخصص في تصميم المنازل، ويعتبر بمثابة الأب البديل لسيسيلي والمسؤول الرسمي عن أسرة دوروثي التي على وشك إفشاء سر عن حقيقة الأب.
إنهم نموذج للعائلة غير التقليدية، يعكس تفكيك الأدوار الأسرية، بحيث لم تعد العائلة تستند إلى البنية الأبوية التقليدية، بل إلى شبكات دعم بديلة تتكون من أفراد يختارون الارتباط بما يتماشى مع الاتجاهات الثقافية التي تشهد إعادة تعريف مفهوم الأسرة.
الخط الفاصل بين العطاء والتضحية
يمثل هذا المثلث الصراع بين الواجب العائلي، الذات الفردية، والعلاقات الصحية. توم يجد نفسه مراراً في موقف المنقذ غير الطوعي لدوروثي، فهي تلجأ إليه فقط عند وقوعها في الأزمات، مما يجعله يعيش في دائرة مستمرة من تحمل مسؤولية مشكلات ليست مشكلاته بالضرورة. فجأة يتعرض لموقفين واحدهما أصعب من الآخر، يتمثل الأول في إلغاء أحد العملاء مشروعاً مربحاً كان يراه “فرصته الأخيرة لترك بصمة على الكوكب المحتضر”. في الوقت نفسه، يهجره رفيقه القديم، بينما الطرفان الآخران لا يكترثان بما يمر به، على رغم أنه يحبهما بشدة، إلا أنه يدرك أيضاً مدى استنزافه من كونه الركيزة العاطفية والمالية لهما. فهو دائماً يضع نفسه في المرتبة الثانية بعد احتياجاتهما.
هكذا يجد نفسه عالقاً بين رغبته في عيش حياة مستقلة وبين شعوره العميق بالمسؤولية في هذا المثلث العاطفي المعقد، عندما تتحول التضحية إلى قيد، والأنانية إلى ضرورة، مما يثير تساؤلات حول الخط الفاصل بين العطاء والتضحية بالنفس، وبين المسؤولية والعبء العاطفي غير المبرر.
وفقاً لفلسفة آين راند، فإن تحمل مشكلات الآخرين لدرجة تعيق حياتك هو نوع من الاستعباد الطوعي. بمعنى آخر، حين تجعل هموم الآخرين تتجاوز أولوياتك، فأنت لا تمارس تعاطفاً صحياً بل تخضع لاستغلال عاطفي قد يكون واعياً أو غير واعٍ من الآخرين. ولكن ماذا لو كانت تضحية توم المطلقة تنبع من وهم الحاجة إلى تبرير وجوده من خلال الآخر. أي أنه قد يشعر بأنه لا يمتلك قيمة ذاتية مستقلة، فيبحث عن تأكيد ذاته عبر خدمة الآخرين، كما ذهب إلى ذلك كل من سارتر وكامو.
هل يمكننا تصنيف توم كشخص يعاني من متلازمة المنقذ Savior Complex؟ في الرواية، لا يبدو أن بطلنا يصل إلى نقطة الانفصال الكامل عن هذا الدور، لكنه يبدأ في إدراك أن حياته يجب ألا تكون امتداداً لحياة أخته. تمثل هذه اللحظة تحوله نحو “الأنانية المستنيرة”، أي إدراكه أنه يستطيع أن يكون أخاً جيداً من دون أن يكون أسيراً لمشكلاتها: “وهكذا يبدأ رحلة ستغير حياة الجميع وتُظهر جمال أو خلل الروابط التي تربط العائلات معاً وأحياناً تخنقهم.”
الخفة في معرض الثقل
يتحرك السرد بين الداخل والخارج، فيلتقط الكاتب بمهارة، تيار الوعي الداخلي لشخصياته، بما يجعلهم جميعاً ظرفاء ومثيرين للشفقة، مما يقوض مسعى توم في التخلي. فعلى رغم ما يصدره العنوان من إدانة للآخر، فإن كل شخصية تكتسب صوتاً فريداً يعكس تعقيداتها النفسية والتحديات التي يواجهها الإنسان المعاصر عبر الفصول المتناوبة. على جانب آخر، يتألق ذكاء ماكولي في توظيف المواجهات الكلامية بين توم ودوروثي وسيسيلي كمرايا لعلاقاتهم المتشابكة، فيستبين التوتر بين من يسعى إلى التحرر ومن لا يتوقف عن طلب المساعدة. مع ذلك، لا يوجد في الرواية أخيار أو أشرار في المطلق، بل محض شخصيات معيبة نابضة بالحياة، تكافح لتجد توازنها في عالم لا يمنحها اليقين.
يتعزز هذا الشعور من خلال بنية السرد غير الخطية التي تتحرك بين الحاضر والماضي، كاشفة طبقات جديدة من الشخصيات مع كل انتقال زمني. وهكذا يتأرجح القارئ بدوره بين مشاهد متناقضة: من المنازل التي تبدو هادئة بينما تضج بالصراعات المكبوتة، إلى الفوضى العائلية التي تتفجر في لحظات غير متوقعة. في هذا النسيج، لا تقتصر الرواية على العلاقات العائلية وحدها، بل تطرح أسئلة أوسع حول الاستقلال والمسؤولية الاجتماعية ومعايير النجاح في العصر الحديث.
كل هذه العناصر تندمج في نثر مكولي الذي يجمع بين السلاسة والعمق، فتتحول التفاصيل اليومية الصغيرة إلى إشارات دالة على أزمات كبرى، ويجد القارئ نفسه معلقاً بين الضحك والتأمل، بين الخفة والثقل، في رحلة تكشف هشاشة الروابط التي تجمعنا وتفرقنا في آنٍ واحد.