حرية ـ (8/2/22024)
داليا محمد
قبل بضعة أيام وبينما كنت أجلس إلى مائدة العشاء وأتناول طبقاً يبدو للوهلة الأولى بسيطاً، وجدت نفسي أتأمل مكوناته: الكينوا القادمة من جبال الأنديز، مع قطع من السلمون النرويجي، تعلوهما رشة من بذور الشيا المكسيكية، إلى جانب الطبق كان هناك كوب عصير مصنوع من التوت الأزرق المستورد من كندا، للحظة، توقفت عن الأكل ورحت أتساءل: كل هذه المكونات التي لم أسمع عنها في طفولتي ولم تكن جزءاً من المائدة التي نشأت عليها في بيئة عربية متوسطية، كيف أصبحت فجأة ضرورية على طاولتي؟
![تنوع 2.png تنوع 2.png](https://www.independentarabia.com/sites/default/files/thumbnails/image/2025/02/08/1089678-1537865599.png)
يشير مصطلح التنوع الغذائي إلى تنوع الأطعمة التي يستهلكها الفرد لضمان حصوله على مجموعة متنوعة من العناصر الغذائية الأساس
كنت أتذكر كيف كانت أمي تجهز الأطباق التقليدية بمكونات بسيطة لا تتجاوز زيت الزيتون والحبوب والبقوليات والخضراوات الموسمية واللحوم المحلية. واليوم أصبحت كلمة “التنوع الغذائي” تلاحقنا في كل مكان، تطرح كقاعدة ذهبية للصحة المثالية، لكن هل نحن في حاجة فعلاً إلى كل هذه الأطعمة المستوردة؟ أم أن الأمر مجرد اتجاه تغذوي آخر نتبعه من دون التوقف للتفكير فيه؟ وهل التنوع الغذائي ضرورة حقيقية أم مجرد موضة عصرية؟ وهل يستحق الأمر استيراد مكونات من بيئات بعيدة لتلبية حاجاتنا الغذائية، أم أن الغذاء المحلي يكفينا تماماً؟
ما التنوع الغذائي؟
يشير مصطلح التنوع الغذائي أوDietary Diversity إلى تنوع الأطعمة التي يستهلكها الفرد لضمان حصوله على مجموعة متنوعة من العناصر الغذائية الأساس. بدأ هذا المصطلح يكتسب اهتماماً متزايداً في العقود الأخيرة، بخاصة مع تصاعد العولمة الغذائية والاهتمام بالصحة العامة، وتظهر الدراسات أن التنوع في النظام الغذائي يرتبط بتحسين الحالة التغذوية والوقاية من الأمراض المزمنة.
![تنوع 3.png تنوع 3.png](https://www.independentarabia.com/sites/default/files/thumbnails/image/2025/02/08/1089676-1170103970.png)
في المناطق الباردة اعتمد السكان على الأطعمة الغنية بالطاقة مثل اللحوم والأسماك الدهنية والحبوب والدرنات
لكن على مر التاريخ اعتمدت المجتمعات البشرية بصورة أساس على الأطعمة المتوافرة في بيئاتها المحلية، وكان النظام الغذائي لكل مجتمع يتكيف مع الظروف المناخية والجغرافية المحيطة به.
ففي المناطق الباردة اعتمد السكان على الأطعمة الغنية بالطاقة مثل اللحوم والأسماك الدهنية والحبوب والدرنات التي يمكن تخزينها لفترات طويلة خلال فصل الشتاء، أما سكان المناطق الاستوائية فقد استفادوا من وفرة الفاكهة والمكسرات والخضراوات الغنية بالسوائل والفيتامينات.
وكانت هذه الأنظمة الغذائية متكاملة مع بيئاتها، وتكيفت أجسام البشر معها على مدى آلاف الأعوام، ووفقاً لدراسة نشرتها جامعة “ألتو” الفنلندية، فإن أقل من ثلث سكان العالم يمكنهم حالياً تلبية حاجاتهم الغذائية من الإنتاج المحلي.
كيف وصلنا إلى التنوع الغذائي؟
شهدت العلاقة بين الإنسان وبيئته الغذائية تحولات جذرية في العصر الحديث، نتيجة لعوامل رئيسة عدة أهمها العولمة، فمع توسع التجارة العالمية أصبحت الأطعمة التي كانت مقتصرة على مناطق معينة متاحة على نطاق واسع. على سبيل المثال الأفوكادو الذي كان يزرع أساساً في أميركا اللاتينية، والأناناس من المناطق الاستوائية، وبذور الشيا من أميركا الوسطى، أصبحت الآن جزءاً من الأنظمة الغذائية في مختلف أنحاء العالم، ووفقاً لتقرير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الفاو” صادر عام 2024، أدى هذا الانتشار إلى تحسين التنوع الغذائي وتقليل نسبة سوء التغذية عالمياً من 12.7 في المئة عام 2000 إلى 9.2 في المئة عام 2022.
من ناحية أخرى أدت الحياة الحديثة إلى تغييرات كبيرة في أنماط العمل والنشاط البدني، ومع زيادة الوظائف المكتبية وقلة الحركة الجسدية تغيرت حاجاتنا الغذائية، وتشير دراسات إلى أن هذه التحولات أسهمت في انتشار الأمراض المزمنة غير المعدية، مثل السمنة والسكري وأمراض القلب، ووفقاً لمجلة “المعرفة العلمية”، فإن هذه التغيرات في أنماط الحياة والنظم الغذائية نتجت من التطور التكنولوجي والعولمة، مما أثر بصورة كبيرة في صحة الإنسان.
في الماضي لم يكن الناس على دراية بوجود مغذيات مثل “أوميغا-3″، أو مضادات الأكسدة أو فيتامين “د”، اليوم، بفضل التقدم العلمي نعلم أن بعض الأطعمة تحوي كميات عالية من هذه العناصر، مما يجعلها محط اهتمام على رغم أنها ليست جزءاً من النظام الغذائي التقليدي، مثلاً باتت الأسماك الدهنية مثل السلمون الغنية بـ”الأوميغا-3” طبقاً أساساً لدى الراغبين في الحفاظ على صحة القلب والدماغ.
وقد يكون أحد الأمثلة البارزة على أهمية النظام الغذائي المحلي والمتوازن هو الملكة إليزابيث الثانية، فطوال حياتها التي امتدت إلى 96 عاماً، اعتمدت الملكة على نظام غذائي صحي ومتوازن قائم بصورة كبيرة على المنتجات الموسمية المحلية. وشمل نظامها الغذائي الفاكهة والخضراوات الطازجة والعضوية التي تزرع في المزارع الملكية، إضافة إلى الشاي اليومي الذي حافظت عليه كعادة غذائية، ووفقاً لكبير الخدم الملكي السابق، غراند هارولد، كان هذا الالتزام بالغذاء المحلي والموسمي عاملاً مهماً في تمتع الملكة بصحة جيدة وطول عمرها.
هل من الضروري تناول أطعمة خارج البيئة المحلية؟
ليست الإجابة عن هذا السؤال بسيطة بنعم أو لا مطلقة، بل تعتمد على عوامل عدة أولها الحاجات الغذائية، فإذا كانت البيئة المحلية توفر جميع العناصر الغذائية التي يحتاج إليها الجسم، قد لا تكون هناك حاجة كبيرة إلى الأطعمة المستوردة، على سبيل المثال يعتمد سكان المناطق الباردة مثل الدول الإسكندنافية تقليدياً على الأسماك الدهنية الغنية بـ”الأوميغا-3″، لذا قد لا يحتاجون إلى بدائل مثل بذور الشيا.
ومع ذلك في تلك المناطق التي تشهد شتاءً طويلاً وظروفاً بيئية صعبة قد يكون من المفيد إدخال أطعمة غنية بفيتامين “س” مثل الأناناس والحمضيات لتعويض النقص الناتج من قلة التعرض للشمس ومحدودية البيئات الزراعية.
كذلك تؤدي التفضيلات الشخصية دوراً كبيراً في مسألة اتباع نمط غذائي متنوع أم لا، إذ يختار بعض الأشخاص التنوع الغذائي كجزء من أسلوب حياتهم، وقد يكون التنوع في الأطعمة في استكشاف نكهات جديدة أو تحسين تجربة تناول الطعام اليومية، وقد لا تكون إضافة الكينوا أو الأفوكادو مثلاً إلى النظام الغذائي بدافع الضرورة، بل من باب التذوق والرفاهية.
من ناحية أخرى لا بد من أخذ التحولات البيئية والصحية في الاعتبار عند الإجابة عن هذا السؤال، إذ قد يؤثر تغير المناخ والاضطرابات البيئية في قدرة بعض المناطق على إنتاج غذاء كاف ومتنوع، في مثل هذه الحالات يصبح استيراد الأطعمة أمراً حتمياً لسد الفجوة الغذائية.
مثلاً في جزيرة غوادلوب، وهي منطقة فرنسية في البحر الكاريبي، أدى تغير المناخ إلى تحديات كبيرة في الإنتاج الزراعي المحلي، وتشمل هذه التحديات ارتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط هطول الأمطار وزيادة تواتر الأعاصير، مما أثر سلباً في المحاصيل الغذائية.
ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة “لو موند” عام 2024 أدت هذه العوامل إلى انخفاض إنتاج محاصيل مثل الطماطم والأفوكادو وسمك الكرسول، مما أسفر عن ارتفاع أسعارها في الأسواق المحلية، وعلى سبيل المثال ارتفع سعر الكيلوغرام من الطماطم المحلية بنسبة 30 في المئة مقارنة بالعام السابق، مما جعلها أقل تنافسية مقارنة بالمنتجات المستوردة.
إضافة إلى ذلك أدى ارتفاع كلف المدخلات الزراعية والخسائر الناجمة عن الكوارث المناخية إلى زيادة اعتماد غوادلوب على استيراد الأطعمة لتلبية حاجات سكانها، حالياً، تستورد الجزيرة نحو 80 في المئة من حاجاتها الغذائية، مما يجعلها عرضة لتقلبات أسعار الأسواق العالمية ويؤثر في الأمن الغذائي للسكان.
كذلك فإن التحولات الصحية مثل ارتفاع نسبة الأمراض المزمنة قد تجعل من الضروري إدخال أطعمة غنية بعناصر غذائية محددة لدعم صحة الإنسان. وتشير دراسات إلى أن نقص فيتامين “د” شائع بين السكان في المناطق التي تشهد قلة تعرض لأشعة الشمس، حيث يعاني نحو 40 في المئة من سكان أوروبا نقص هذا الفيتامين، وفقاً لدراسة نشرت في مجلة “لانسيت للسكري والغدد الصماء”، ولتعويض هذا النقص يعتمد السكان بصورة متزايدة على أطعمة غنية بفيتامين “د”، مثل الأسماك الدهنية كالسلمون والتونة، أو الأطعمة المدعمة التي قد لا تكون متوافرة محلياً، وتُستورد من دول أخرى.
ووفقاً لتقرير صادر من منظمة الصحة العالمية، فإن الأمراض غير السارية مثل السكري وأمراض القلب، التي تسبب 71 في المئة من الوفيات عالمياً، تتأثر بشدة بالنظام الغذائي. وتتطلب الوقاية من هذه الأمراض أو علاجها تناول أطعمة غنية بمضادات الأكسدة مثل التوت و”أوميغا-3″ من بذور الشيا أو الأسماك، وهي أطعمة قد تكون بعيدة من البيئة المحلية.
في الولايات المتحدة أظهر تقرير “المعهد الوطني للصحة” أن إدخال أغذية مدعمة بفيتامين “د” أسهم في تقليل حالات نقص الفيتامين بين البالغين بنسبة 15 في المئة، وفي الهند أظهر بحث أجري عام 2021 أن استيراد السلمون من النرويج أسهم في زيادة استهلاك “أوميغا-3” بنسبة 20 في المئة بين السكان الأثرياء، مما أدى إلى تحسن صحة القلب لديهم.
وإذا كان الشخص يعاني حساسية تجاه أطعمة محلية معينة، مثل منتجات الألبان أو الغلوتين، فقد يلجأ إلى بدائل مستوردة، مثلاً يمكن استخدام حليب اللوز أو حليب الصويا كبدائل لحليب الأبقار، وتشير مؤسسة “راند” البحثية إلى أهمية تطوير سياسات تدعم توفير بدائل غذائية آمنة للأشخاص ذوي الحاجات الغذائية الخاصة.
هل يمكن الاستغناء عن الأطعمة المستوردة؟
الإجابة هي نعم، إذا كان النظام الغذائي المحلي متوازناً، وإذا كان السكان يحصلون على العناصر الغذائية الأساس من أطعمة تنمو في بيئتهم، فلا حاجة إلى تناول الأطعمة المستوردة، ويمكن تعويض أي عنصر غذائي من مصادر محلية، لكن هذا يتطلب تخطيطاً جيداً.
أما إذا كانت هناك فجوة غذائية، فالإجابة لا، في البيئات التي تفتقر إلى تنوع طبيعي أو في حالات صحية معينة قد تصبح الأطعمة المستوردة خياراً عملياً لسد النقص، كذلك يلعب العامل الاقتصادي دوراً كبيراً في استيراد الأغذية، إذ يكون إنتاج بعض الأطعمة في بلدانها الأصلية أقل كلفة بكثير من محاولة زراعتها أو إنتاجها محلياً، على سبيل المثال استيراد الموز من دول استوائية مثل الإكوادور أرخص من إنشاء بنية تحتية لزراعته في دول ذات مناخ غير ملائم.
ووفقاً لمنظمة التجارة العالمية يستورد عدد من الدول الأغذية لتوفير الكلفة الاقتصادية، إذ تتيح التجارة العالمية تقليل الكلف للمستهلكين مقارنة بالإنتاج المحلي الذي قد يتطلب استثمارات باهظة، وتعد مصر من أكبر مستوردي القمح في العالم، إذ تستورد نحو 12 مليون طن سنوياً لتلبية حاجات سكانها، ويعود السبب في ذلك إلى أن إنتاج القمح محلياً يحتاج إلى مساحات زراعية كبيرة وموارد مائية ضخمة، وهي تحديات تواجهها مصر بسبب محدودية الأراضي الزراعية القابلة للري وشح المياه، وهكذا يكون استيراد القمح من دول مثل روسيا وأوكرانيا أقل كلفة من إنتاجه محلياً، ووفقاً لتقارير وزارة الزراعة المصرية، فإن كلفة استيراد القمح أرخص بنسبة تصل إلى 20-30 في المئة من كلفة زراعته محلياً، مما يجعل الاستيراد خياراً اقتصادياً أكثر جدوى.
في المرة المقبلة وأنا أتناول طبقاً متبلاً بنكهة العولمة، عليَّ تذكر أنه وعلى رغم أن كل مكون فيه يحمل قصة من أرض بعيدة أو قريبة، فإنها تتقاطع جميعها في هدف واحد: توفير العناصر الغذائية التي يحتاج إليها جسدي.
في النهاية، سواء كانت الأطعمة محلية أو مستوردة، تبقى الأولوية لتلبية حاجاتنا الصحية والغذائية بما يناسب بيئتنا وظروفنا الفردية.