حرية ـ (10/2/22025)
طوني فرنسيس
تدخل المنطقة العربية في طوفان دونالد ترمب بعدما أدخلتها إيران عبر حركة “حماس” في “طوفان الأقصى” وطوفانها الثاني يبدو أدهى وأخطر.
ربما لم يدر في خلد إيران عندما سلحت وحرضت “حماس” وبقية المنظمات التي أسستها وسلحتها ومولتها تحت عنوان مواجهة إسرائيل، أن يلجأ بعضها إلى شن حربه الخاصة، بحسب توقيته الخاص، مثلما فعلت “حماس” يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لكنها بالتأكيد كانت على دراية تامة بأن أمراً كهذا سيحصل.
في الأشهر السابقة على “طوفان الأقصى” كانت طهران تلح على إنجاز نظرية “وحدة الساحات” في إطار ما يسمى “محور المقاومة”، وعملت بدأب على وضع هذه النظرية موضع التطبيق العملي، عبر تكليف حسن نصرالله الأمين العام السابق لـ”حزب الله” الذي اغتالته إسرائيل، مهمة التنظير للساحات الموحدة وجمع أطرافها في بيروت وتحديد أهدافها التي في مقدمها تحرير القدس والصلاة فيها.
أدار المرشد الإيراني علي خامنئي عملية إحكام الطوق حول إسرائيل في ما يشبه “حلقة النار” بحسب تسمية المسؤولين الإسرائيليين، ولم يخف المحيطون به أن استكمال هذا الطوق يتضمن دفع الضفة الغربية إلى الانتفاضة على الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الوطنية في آن واحد، وصولاً إلى بناء توازن ردع شامل بين طهران وتل أبيب عبر المنظمات الحليفة، هذا التوازن كانت إيران اعتقدت أنها أنجزت قسماً منه بتسليحها وتمويلها ميليشيات “حزب الله” في لبنان، وبقي استكماله مشروطاً بالإمساك بالوضع الفلسطيني، وتحريك الأوضاع في الأردن، خصوصاً أن القاعدة السورية كانت متوافرة مع الوجود الإيراني الكثيف في سوريا تحت شعار دعم نظام بشار الأسد.
تنكرت إيران الخامنئية رسمياً لعملية “حماس” بعيد حصولها بساعات. وذهب محمد جواد ظريف الركن الأساس في حكومة مسعود بزشكيان، أخيراً، إلى حد تحميلها مسؤولية نسف لقاء أميركي- إيراني كان مقرراً في التاسع من أكتوبر، بعد يومين من الهجوم.
يطرح هذا الموقف الإيراني الـ”ظريف” تساؤلات حول ما كانت تريده إيران فعلياً من نظرية “وحدة الساحات”، وهل أنها كانت تسعى إلى شن معركة شاملة ضد إسرائيل، أو تعمل على بناء بنية تهديد لإسرائيل، والدول العربية، تستعملها في مفاوضاتها التي لم تنقطع مع إدارة الرئيس جوزيف بايدن؟
نسف “طوفان الأقصى” الاستراتيجية الإيرانية من أساسها المعلن. سقطت وحدة الساحات في حلقتها الأهم. الضفة لم تتحرك، و”حزب الله” في لبنان، الركن الأبرز في المحور الإيراني المجاور لإسرائيل، أسند إليه، هو الذي كان يهدد باجتياح الجليل، الاكتفاء بحرب مشاغلة وإسناد لغزة، لا يفترض، في الرؤية الإيرانية، أن تتطور إلى حرب شاملة.
إزاء “الطوفان” الجنوبي و”الإسناد” الشمالي، وفي سنة الانتخابات الأميركية الحاسمة، انصرفت إسرائيل إلى خوض حرب إبادة وتهجير وتدمير في غزة، ألحقتها بعد أشهر بحرب “اجتثاث” لـ”حزب الله” أجبرته في نهاية أكتوبر الماضي على توقيع اتفاق أشبه بالاستسلام أمام الآلة الحربية الإسرائيلية.
انتهت عملية “المحور الإيراني” في غزة ولبنان إلى تفوق عسكري إسرائيلي كاسح ظهرت نتائجه في غزة ولبنان وامتدت آثاره إلى سوريا مع إسقاط نظام الأسد وطرد القوات الإيرانية منها، لكن النتائج لم تقف عند هذا الحد. فالطوفان الذي أرادت منه إيران تغيير وجه المنطقة تحقيقاً لمصالحها وتوازناتها، أسفر عن استباحة إسرائيلية شاملة مهدت لطوفان آخر يقوده دونالد ترمب، بدأت معالمه بالظهور منذ اليوم الأول لتسلمه مهامه في البيت الأبيض.
حول ترمب إسرائيل إلى مجرد أداة عسكرية تمهد الطريق أمام مشروعه الضخم لترحيل الفلسطينيين من غزة وبناء “ريفييرا” خاصة به فوق أراضيها. صحيح أن الرئيس الأميركي ركز على القطاع الذي دمرته إسرائيل، لكن رؤيته تهدد بإنهاء قضية الشعب الفلسطيني على حساب شعوب عربية أخرى خصوصاً في مصر والأردن، وهي نقيض لما قررته المواثيق الدولية وشرعة حقوق الإنسان والمبادرات العربية والدولية من أجل إرساء سلام وطيد في المنطقة.
يستند ترمب في طرح رؤيته إلى “الإنجازات” العسكرية الإسرائيلية وتراجع النفوذ الإيراني، وهو إذ يعود لطرح اتفاق جديد مع إيران يبدو كمن يمزج الهجمة الإسرائيلية في مواجهة ما تسميه تل أبيب “حلقة النار” الإيرانية، لتدفيع الفلسطينيين ثمناً باهظاً نتيجة سياسة الطرفين الإسرائيلي والإيراني معاً.
طوفان “حماس” كان صاعقاً في عملية التفجير الكبرى التي قادت إلى الوضع الراهن. وطوفان ترمب الذي لم تتضح كل معالمه بعد، يهدد بإعادة تشكيل المنطقة، في ما يشبه تركيبها قبل قرن على يد الثنائي مارك سايكس وزميله جورج بيكو وبعدهما اللورد أرثر بلفور.
تخطى ترمب في خطته لغزة أحلام نتنياهو نفسه. بل إنه “أذله” لدى مفاجآته بالقول إن أميركا ستضع يدها على القطاع، كما تقول صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، “ما فعله ترمب مع نتنياهو (في البيت الأبيض) كمن يقول يا صغيري، دع أبي ينظف الفوضى التي أحدثتها هنا في غيابي”.
دهش نتنياهو، يقول محللون إسرائيليون، عندما قال ترمب إن “أميركا ستتولى السيطرة على غزة”. ومثار الدهشة أن الرئيس الأميركي حول الجيش الإسرائيلي بكلمات إلى مجرد موظف لدى الإدارة في واشنطن عليه إنهاء مهامه بنجاح.
تنسجم طروحات الرئيس الأميركي مع شعار يرفعه مفاده أنه “لن يبدأ حروباً بل هو فقط ينهيها”، لكن نتنياهو الذي لا يتجرأ على مواجهة ترمب في مشروعاته يحاول المساهمة في إعادة ضبط جدول الأعمال المشترك. منطقه يقول إن “معالجة جدية لإيران ستسهل لاحقاً على إدارة ترمب خلق أثر الدومينو لتطبيع يضم، ليس فقط السعودية، بل دولاً إسلامية وعربية أخرى مثل إندونيسيا وماليزيا وسوريا ولبنان والكويت وعمان”.
بهذا المعنى ستستوجب الأحلام التي يحملها ترمب، يرى نتنياهو، حروباً مفتوحة على جبهات عدة في فلسطين وضد “حزب الله” في لبنان من جهة، وضد إيران من جهة أخرى. في فلسطين لحرق الأرض أمام ساكنيها وإجبارهم على الرحيل، وفي إيران، لضبطها ضمن حدودها وربما لإسقاط نظامها، وفي الوقت نفسه منع “حزب الله” من لعب أي دور في حماية هذا النظام.
بعد سنة ونيف على ما بدا وكأنه تفوق إيراني إقليمي، جاءت غزوة “حماس” لغلاف غزة لتنهي هذه الصورة. “انتهى الانتصار التكتيكي لإيران بهزيمة استراتيجية” تقول “فورين أفيرز” وتضيف، “أصبحت إيران نفسها الآن أكثر عرضة للخطر من أي وقت مضى، وهدفها الأكثر أهمية هو الحفاظ على نظامها”.
لقد واجه العرب طويلاً المشروع الإسرائيلي ودفعوا، مع الشعب الفلسطيني، أثماناً كبيرة في دعم قضية هذا الشعب ودفاعاً عن حقه في تقرير مصيره على أرضه، وفي العقود الأربعة الأخيرة كان عليهم، في الوقت نفسه مواجهة التفتيت المذهبي الإيراني وتجارته في الشأن الفلسطيني ومواجهة مشاريع إسرائيل في الضم والإلحاق والتهجير وتقسيم الإرادة الوطنية الفلسطينية، وهم يجدون أنفسهم اليوم في مواجهة مع نتائج سياستي الطرفين (إسرائيل ونظام الملالي) التي جعلت ترمب يفقد أعصابه، ربما، مللاً من مراوحة حربية في المشرق لا يستسيغها عقل المقاول صاحب المشروعات العقارية.
لا مجال أمام الدول العربية غير التشدد في موقفها المبدئي من القضية المركزية فلسطين كما في تمسكها بشروط علاقات حسن الجوار. لقد كان “بيان الفجر” السعودي أول موقف عربي حاسم رداً على مشروع ترحيل الفلسطينيين من غزة، وتمسكاً بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. وعلى هذا الموقف، ومواقف عربية ودولية مماثلة يمكن أن يتم البناء، ربما عبر قمة عربية عاجلة، لبحث جدي مع الإدارة الأميركية في شروط إخراج المنطقة من أزماتها، فطوفان الأقصى ليس ضرورياً أن يستكمل بطوفان يذهب بمن تبقى من شعوب ودول وثروات أمة تستحق الحياة والسلام والازدهار.