حرية ـ (12/2/22025)
إليوت أبرامز
يواجه الرئيس الأميركي دونالد ترمب اليوم شرقاً أوسط تتجسد فيه أخطار وفرص لم تكن موجودة قبل ثمانية أعوام حينما دخل البيت الأبيض للمرة الأولى، وتتمثل الأخطار الكبرى بتقدم إيران نحو الحصول على أسلحة نووية، والعلاقات الوطيدة التي نسجتها الجمهورية الإسلامية مع روسيا والصين. أما الفرص الكبرى، فظهرت من تدمير إسرائيل لـ”حزب الله” و”حماس”، وهجماتها الناجحة على إيران، وانهيار نظام بشار الأسد في سوريا.
وليس من أدنى شك في شأن جدية الأخطار، لكن على العموم، فإن الفرص المحتملة تفوق السلبيات المحتملة. في الواقع، لم يقدم الشرق الأوسط منذ فترة طويلة بيئة بهذه الصورة المواتية للمصالح الأميركية.
قبل عام ونصف عام، بدا أن السياسة الخارجية لإيران ناجحة بصورة هائلة. وعمل برنامج إيران النووي بصورة ثابتة على إنتاج اليورانيوم المخصب، وباتت كمياته تكفي لصنع قنابل عدة ذرية في عام 2024. وبصورة كبيرة، أحجمت واشنطن عن تطبيق عقوباتها التي فرضتها بنفسها، على إيران. واشترت الصين 90 في المئة من النفط الإيراني، مما عزز بصورة كبيرة من القدرات المالية للنظام. وغدت العلاقات السياسية والعسكرية لطهران مع روسيا والصين أكثر قرباً، وضمنت حمايتهما ضد أي تحرك في مجلس الأمن، وكذلك نالت المال والامتنان من شحنات الأسلحة التي أرسلتها إلى موسكو. وبدا أن إسرائيل عاجزة عن حل مشكلة “حلقة النار” المكونة من وكلاء إيران وحلفائها، أي “حزب الله” في لبنان و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” في غزة، والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا، والحوثيين في اليمن.
لكن منذ ذلك الحين، قلبت إسرائيل الطاولة على رؤوس اللاعبين. نجت “حماس” من حرب إسرائيل على غزة الذي أعقب هجمات شنتها تلك الحركة في أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وبقيت “حماس” مسيطرة هناك، لكنها لن تعود لتشكل أي تهديد عسكري جدي لإسرائيل. كما دمر الإسرائيليون قيادة “حزب الله” وأعطوا لبنان فرصة لاستعادة سيادته. وذهب نظام الأسد، ويبدو أن الطريق الذي كان يمتد من إيران عبر سوريا إلى لبنان – وإلى الجماعات الإرهابية وأنصارها في غزة والأردن والضفة الغربية – في طريقه إلى الإغلاق.
يستطيع ترمب الاستفادة من الوضع الراهن شرط أن تبدي إدارته رغبة في التخلي عن الهدف التقليدي المعتاد في الشرق الأوسط، ألا وهو “الاستقرار”، وتسعى بدلاً من ذلك إلى إحداث تغييرات دراماتيكية ستصب في مصلحة أمن الولايات المتحدة وحلفائها. على مدار عقدين، ترجم ما دعاه صناع السياسية الأميركيين “استقراراً” بالمحافظة على وضعية تسيطر فيها “حماس” على غزة كلياً، وهيمنة “حزب الله” على لبنان، وتقدم في البرنامج النووي لإيران. كان المصطلح الأفضل لهذا الوضع هو “التآكل”، إذ كان تأثير الولايات المتحدة يتراجع بصورة مستمرة وأصبح حلفاؤها أقل أماناً.
والآن، ثمة فرصة أمام الولايات المتحدة لوقف تلك العملية مع السعي إلى التركيز على هدف “التعزيز” بمعنى تضخيم مصالح أميركا وحلفائها، والعمل بفاعلية على إضعاف خصومها. وقد تأتي النتيجة على هيئة منطقة تتناقص فيها التهديدات، وتصبح تحالفات الولايات المتحدة أقوى.
فخ طهران
العائق الرئيس أمام ظهور شرق أوسط أفضل هو سعي إيران إلى امتلاك السلاح النووي، لقد صرح ترمب الآن بوضوح أن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بالنجاح في هذا المسعى. المرشد الأعلى لإيران، علي خامنئي، يبلغ الآن 85 سنة. وعندما يتأمل السنوات الأربع المقبلة، فلسوف يغرى (وينصح) بالمسارعة نحو حيازة القنبلة النووية بوصفها الطريقة الوحدية لضمان بقاء النظام بعد رحيله. وأوضح ترمب أن تلك الخطوة بالتحديد تحمل التهديد الأشد جدية، لأنها ستفضي إلى زيادة عزلة إيران وكذلك، إذا اقتضى الأمر، هجوم عسكري أميركي. لجعل هذه التهديدات أكثر صدقية مما كانت عليه في الآونة الأخيرة، يجب على واشنطن البدء في التخطيط والتحضير، والتدريب على مثل هذا الهجوم، بالتنسيق مع إسرائيل.
كثيراً ما فضل ترمب حلاً تفاوضياً للتوتر بين الولايات المتحدة وإيران، ولا يزال على هذا الموقف. كان الهدف من حملته “الضغط الأقصى” في 2019-2020 ليس تغيير النظام، ولكن التوصل إلى صفقة جديدة وشاملة لتحل محل الاتفاق الفاشل الذي أبرمه الرئيس باراك أوباما في 2015. في وقت سابق من هذا الأسبوع، كتب ترمب على حسابه في “تروث سوشال” أنه بدلاً من الهجوم الأميركي – الإسرائيلي لمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية، يفضل “اتفاق سلام نووي موثوق يسمح لإيران بالنمو والازدهار بسلام.”
من الواضح أن ترمب لا يزال منفتحاً على احتمال (وإن كان ضئيلاً) أن يقبل خامنئي المسن – بعد أن شهد انهيار استراتيجية “حلقة النار”، وأخذ في اعتباره إمكان فرض عقوبات اقتصادية قاسية، ومدركاً لاحتجاجات شعبه – باتفاق يوقف البرنامج النووي الإيراني ويوقف المدفوعات والشحنات العسكرية إلى وكلاء إيران. ولكن يجب على ترمب أن يعي الفخ الذي قد ينصبه له خامنئي: مفاوضات جديدة وهمية تهدف إلى جر واشنطن إلى محادثات تستمر لسنوات، مع محاولة المفاوضين الإيرانيين جذب ترمب بإغراء صفقة ناجحة وجائزة نوبل للسلام في نهاية الطريق، بينما ينمو البرنامج النووي الإيراني في الخفاء.
ليست الولايات المتحدة وحيدة في مواجهتها مع إيران
بغية تجنب ذلك الفخ، عمد ترمب بصورة صحيحة إلى إعادة فرض عقوبات اقتصادية أميركية شديدة من شأنها حرمان إيران من مصادر عدة. ويتوجب عليه أيضاً أن يحث “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” على طلب جولات تفتيش صارمة على المنشآت الإيرانية. ويجب أن يصر ترمب على أن تتخذ إيران خطوات فورية وملموسة لإثبات تخليها عن هدفها النووي، مثل البدء في تصدير اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة (أو تخفيف تخصيبه إلى مستويات أدنى)، والموافقة على السماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش المواقع العسكرية التي رفضت طهران حتى الآن فتحها أمام المفتشين. وإذا رفضت طهران اتخاذ تلك الخطوات مع حلول الصيف الحالي، فعلى ترمب أن يحض فرنسا والمملكة المتحدة على تفعيل آلية “سناب باك” المقرة من مجلس الأمن، التي تقضي بإعادة فرض كل عقوبات الأمم المتحدة التي واجهتها إيران قبل انخراطها في صفقة الاتفاق النووي لعام 2015. وللتذكير، إن تلك الآلية من صنع ذلك الاتفاق، ولا يزال البريطانيون والفرنسيون أطرافاً فيها.
وستدعي إيران أن آلية “سناب باك” قد تنهي إمكان التفاوض، لكن يجب على ترمب ألا ينخدع بتلك الحيلة، إذ يبقى من المستطاع رفع عقوبات الأمم المتحدة والولايات المتحدة لاحقاً إذا تخلى النظام بصدق عن تطوير أسلحة نووية. وفي الحقيقة، لم تصل أية دولة إلى تخصيب اليورانيوم بمستوى 60 في المئة، على غرار ما فعلته طهران، من دون صنع أسلحة نووية، ما يصلح للتذكير بأن إجبار إيران على التخلي عن هذا المسار سيكون أمراً بالغ الصعوبة. وسيستلزم ذلك التهديد الجاد بعمل عسكري – قد يتطلب في النهاية تنفيذ هذا التهديد فعلياً.
في المقابل، ليست الولايات المتحدة وحيدة في مواجهتها مع إيران، وليست إسرائيل شريكتها الوحيدة في ذلك القتال. فحلفاء واشنطن في المنطقة جميعهم يعانون التخريب والعدوان الإيراني. غير أن استعداد الأصدقاء العرب لمقاومة إيران يتفاوت وفقاً لتقديرهم لمدى موثوقية الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، لم تعكس المفاوضات السعودية مع إيران، التي رعتها الصين في مارس (آذار) 2023، تحولاً جوهرياً في السياسة الخارجية السعودية، بل كانت آلية دفاعية منطقية في لحظة بدت فيها الولايات المتحدة ضعيفة. ولم يكن التحرك السعودي مؤشراً على قلق من نهج إدارة بايدن تجاه إيران فحسب، بل أيضاً نتيجة لفشل إدارة ترمب في الرد عندما هاجمت إيران “منشأة بقيق” النفطية الحيوية في سبتمبر (أيلول) 2019.
وإذا توصلت السعودية وغيرها من الدول العربية إلى حكم مفاده بأن الولايات المتحدة باتت الآن مصممة على وقف برنامج إيران في التسلح النووي والاستمرار في إلحاق الأذى بوكلاء إيران وإضعافهم، فإنهم سيغيرون سياساتهم وفق ذلك. وقد يغدو من الأسهل على واشنطن تكرار ذلك النوع من التعاون الذي وجد حينما أطلقت إيران مئات من الصواريخ على إسرائيل في أبريل (نيسان) 2024. وآنذاك، فشل ذلك الهجوم لأن عدداً من الدول العربية ساعدت جزئياً الولايات المتحدة وإسرائيل في التصدي له.
آن الأوان لإعادة التفكير
ومع ذلك، هناك حدود لما يمكن أن يتوقعه ترمب من السعوديين والدول العربية الأخرى. فعلى سبيل المثال، لا يزال من غير الواضح ما إن كانت السعودية مستعدة للانضمام بصورة كاملة إلى “اتفاقات إبراهام”، التي توسط فيها ترمب خلال ولايته الأولى وهدفت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية. وخلال حرب غزة، أكدت الحكومة السعودية (وولي العهد محمد بن سلمان نفسه) التزامها بدعم الحكم الذاتي الفلسطيني من خلال طرح مطالب واضحة بإقامة دولة فلسطينية.
ولكن تسليم الضفة الغربية إلى حكم فلسطيني سيادي، هو اقتراح خاسر في أعين معظم الإسرائيليين ممن يعتقدون بأن الانسحاب الإسرائيلي من غزة في 2005 كون الظروف التي أتاحت لـ”حماس” أن تصبح أكثر قوة، وفي النهاية، أن تنفذ هجوماً ضخماً في السابع من أكتوبر (تشرين الأول). وحينما يتعلق الأمر بالمسألة الفلسطينية، سيغدو من الصعوبة بمكان ردم الفجوة بين ما يقول السعوديون أنهم يحتاجون إليه، وما يمكن أن يقدمه السياسيون الإسرائيليون. ولأن التوافق بين السعودية وإسرائيل سيغير ليس فقط الشرق الأوسط، بل أيضاً علاقة إسرائيل بالعالم الإسلامي ككل، ينبغي على إدارة ترمب أن تستكشف إلى أي مدى يمكنها المضي في هذا الاتجاه. وعليها العمل مع أعضاء في الحزبين الأميركيين السياسيين بغية تقصي أشكال الترتيبات الدفاعية بين الولايات المتحدة والسعودية، التي قد تنال موافقة الكونغرس. وتتجسد أحد الإمكانات في معاهدة على غرار تلك التي تربط دول حلف الـ”ناتو”، أو تقديم ضمانات دفاعية أقل شمولاً، مثل منح المملكة وضع “حليف رئيس من خارج الناتو” وضمان أهليتها للحصول على أنظمة أسلحة متطورة.
وفي الوقت نفسه، ومن دون تبني مطلب إقامة دولة فلسطينية كهدف حتمي ومحدد بجدول زمني، يجب على واشنطن أن تجد طرقاً لجعل فكرة الحكم الذاتي الفلسطيني أقل تهديداً لإسرائيل – في الأقل داخل الضفة الغربية. فالفساد وعدم الكفاءة وانعدام الشعبية في السلطة الفلسطينية، إلى جانب نفوذ “حماس” وشعبيتها، تجعل الإسرائيليين ينظرون إلى أي توسيع للحكم الذاتي الفلسطيني على أنه خطر. لكن في أي سيناريو بخلاف الضم الإسرائيلي الكامل للضفة الغربية ضمن “حل الدولة الواحدة”، وهو خيار يرفضه معظم الإسرائيليين، لا بد من وجود كيان فلسطيني شرعي وفعال يتولى الحكم – وإن لم يكن بالضرورة السلطة الفلسطينية التي تأسست بموجب اتفاقات أوسلو.
وفي ذلك السياق، ومن دون تبني الطلب المتعلق بدولة فلسطينية باعتبارها هدفاً محتماً ضمن إطار زمني، يتوجب على واشنطن إيجاد طرق لأن تكون فكرة الحكم الذاتي للفلسطينيين أقل تهديداً لإسرائيل، أقله في الضفة الغربية. إن الفساد وانعدام الكفاءة وعدم شعبية السلطة الفلسطينية وتأثير “حماس” وشعبيتها، تعمل كلها بصورة مفهومة كي تجعل الإسرائيليين ينظرون إلى زيادة الحكم الذاتي للفلسطينيين، بوصفها خطراً. لكن في أي سيناريو بخلاف الضم الإسرائيلي الكامل للضفة الغربية ضمن “حل الدولة الواحدة”، وهو خيار يرفضه معظم الإسرائيليين، لا بد من وجود كيان فلسطيني شرعي وفعال يتولى الحكم – وإن لم يكن بالضرورة السلطة الفلسطينية التي تأسست بموجب اتفاقات أوسلو.
![2.jpg 2.jpg](https://www.independentarabia.com/sites/default/files/thumbnails/image/2025/02/10/1090032-1741286968.jpg)
قوات عسكرية إسرائيلية على حدودها الشمالية. يناير 2025
ولن تقبل إسرائيل والولايات المتحدة مشاركة “حماس” في أي صورة من صور الحكم الذاتي الفلسطيني، ولقد تحدثت إدارة بايدن كثيراً عن “سلطة فلسطينية معاد تشكيلها” بوصفها الخيار الأفضل، لكنها لم تفعل شيئاً يمهد لوجود ذلك الأمر. وقبل 20 سنة، طالبت إدارة جورج دبليو بوش (التي كنت جزءاً منها)، بصورة ناجحة، بإصلاحات فعلية من السلطة الفلسطينية. وضغطت الولايات المتحدة بشدة لمصلحة تعيين مسؤولين يتمتعون بالنزاهة والكفاءة (من ضمنهم سلام فياض الذي تولى رئاسة الوزراء في السلطة الفلسطينية بين عامي 2007 و2013)، وتبني معايير الإدراة المالية، وصرف عدد من المسؤولين الأشد فساداً من صفوف “فتح” المسيطرة على السلطة الفلسطينية. واليوم، يتوجب على الولايات المتحدة وبلدان عربية محورية أن تطالب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بتغييرات مماثلة. وقد ينجم عن مثل تلك الضغوط، مرة أخرى، وجود سلطة فلسطينية أفضل. ويجب على إدارة ترمب الإصرار على أن يستعمل حلفاء واشنطن العرب تأثيرهم في السلطة الفلسطينية، وأن تستجيب تلك السلطة لمطالباتهم بوصفها شرطاً مسبقاً لاستمرار دعم الولايات المتحدة.
سواء أكان المرء يؤيد التقدم نحو إقامة دولة فلسطينية خلال السنوات المقبلة أم يعتقد أن إقامة دولة فلسطينية كاملة يشكل خطراً لا يمكن تجاوزه على كل من الأردن وإسرائيل والفلسطينيين أنفسهم، ينبغي لجميع الأطراف أن تدعم هدف تحسين الحكم للفلسطينيين. لكن أي توسيع للحكم الذاتي الفلسطيني سيتطلب تغييرات فورية في الوضع الراهن. لقد أصبحت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي تقدم المساعدات الدولية للفلسطينيين، مؤسسة مخترقة تماماً بسبب صلاتها بـ”حماس”، كما أن تعريفها للاجئين الفلسطينيين كفئة تتوسع بلا حدود مع كل جيل جديد يتناقض جوهرياً مع الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية. وعلى إدارة ترمب، التي أوقفت تمويل الولايات المتحدة لـ”أونروا”، أن تصر على استبدالها بجهود تعاونية من وكالات الأمم المتحدة الفعالة، مثل برنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وكذلك ينبغي أن تكون مساهمة إسرائيل في هذا الجهد بتدعيم قوانينها ضد المستوطنين ممن يرتكبون أعمالاً إجرامية ضد الفلسطينيين، سواء عبر تدمير المحاصيل أو أعمال العنف ضد الأفراد. كما يجب عليها منع الجماعات الاستيطانية من إعلان أراض في الضفة الغربية كأراض إسرائيلية من دون أي سند قانوني أو قرارات رسمية من الحكومة.
أما اقتراح ترمب بأن تتولى الولايات المتحدة “السيطرة” على غزة وإعادة بنائها بينما يعيش سكانها في أماكن أخرى، فأضاف بعداً جديداً للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. وكاقتراح عملي، فهو غير قابل للتنفيذ. لكنه قد ينظر إليه بصورة أفضل على أنه انعكاس لحقيقة أنه لا يوجد أي مخطط واقعي لغزة. فمنذ عام 2005، عندما انسحبت إسرائيل من المستوطنات والقوات العسكرية في غزة، حاولت كل من إسرائيل والولايات المتحدة والأمم المتحدة شراء ولاء “حماس” بالتوازي مع التعامل مع مسؤولين فاسدين في السلطة الفلسطينية. وأسفر هذا النهج عن انعدام أي تقدم، بل إنه أدى في النهاية إلى هجمات السابع من أكتوبر. وعلى رغم غرابة فكرة ترمب، فإن طابعها غير التقليدي قد يقود إلى إعادة تفكير جذرية في الاستراتيجية الأميركية وربما في السياسات العربية والإسرائيلية أيضاً.
مشرق جديد؟
إلى الشمال من إسرائيل، يجدر النظر إلى إضعاف “حزب الله” بوصفه خطوة أولى نحو مشرق جديد مختلف جداً، وليس كإنجاز مكتمل. ويجدر بأن تتمثل الخطوة التالية لترمب بانضمام لبنان إلى “اتفاقات إبراهام”.
كثيراً ما تعاملت السياسة الأميركية، على مدى عقود، مع ضعف المؤسسات اللبنانية وفسادها باعتبارهما أمراً طبيعياً وحتمياً. كما قبلت واشنطن صورة مشوهة من القومية اللبنانية تصور إسرائيل كعدو، بينما يحتفى بخضوع لبنان لسيطرة إيران وسوريا. على ترمب أن يطالب القوات المسلحة اللبنانية بمنع أي وجود مسلح لـ”حزب الله” في الجنوب، وحراسة حدود لبنان لمنع تدفق الأسلحة الإيرانية. وإذا فشلت في الانتشار الكامل في جنوب لبنان ولم تبدأ عملية نزع سلاح “حزب الله”، فيجب على واشنطن تعليق مساعداتها الكبيرة للجيش اللبناني.
سينتقد بعضهم أن قطع الدعم عن القوات المسلحة اللبنانية سيضعف موقفها، لكن كما لم يؤد تمويل السلطة الفلسطينية بلا شروط إلى النجاح، فإن الدعم غير المشروط للجيش اللبناني العاجز لم يكن سوى هدر للموارد، بينما ازداد “حزب الله” قوة. على ترمب أيضاً أن يصر على أن يتفاوض لبنان مع إسرائيل لحل النزاعات الحدودية البرية والبحرية، ببساطة، ينبغي أن يعتمد الدعم الدبلوماسي والسياسي والمالي الأميركي للبنان على مدى سعيه إلى استعادة سيادته. وكلما زاد الضغط، بما في ذلك عبر التعاون الأميركي مع دول الخليج وفرنسا، زادت احتمالية نجاح القادة اللبنانيين الراغبين في بناء حكومة سيادية تستجيب لمطالب شعبها.
أما في سوريا، فلا يزال من المبكر تحديد صورة الحكومة التي ستنشأ بعد سقوط نظام الأسد. لكن من غير المبكر تحديد الهدف الأميركي هناك: قيام حكومة شرعية تستند إلى إرادة شعبية، تنهي التدخل السوري في لبنان وتسعى إلى السلام مع جميع جيرانها، بما في ذلك إسرائيل. ويجب أن يكون دعم واشنطن لأية حكومة سورية جديدة مشروطاً بأفعالها، وليس بخطابات الرئيس أحمد الشرع أو مظهره بملابس غربية جديدة. هل ستنهي سوريا أو تقلص بصورة كبيرة حجم وطبيعة الوجود الروسي في قاعدتيها الرئيستين، قاعدة حميميم الجوية والقاعدة البحرية في طرطوس؟ كيف ستتعامل حكومة الشرع مع الأقليات، وخصوصاً الأكراد وميليشيات قوات سوريا الديمقراطية التي دعمتها الولايات المتحدة طويلاً؟ وهل ستسعى إلى وقف تمويل وتسليح إيران لـ”حزب الله” عبر الأراضي السورية؟ يجب أن يستند نهج ترمب إلى إجابات هذه الأسئلة.
في هذه الأثناء، سيكون من الغباء الشديد سحب ترمب لنحو ألفي جندي أميركي متمركزين في سوريا لأنهم موجودون لقتال تنظيم “الدولة الإسلامية” الإرهابية (داعش)، وللحفاظ على احتجاز عشرات الآلاف من مقاتلي داعش السابقين وعائلاتهم. كما يجب أن تكون سياسة الولايات المتحدة الحفاظ على الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية بقيادة الأكراد إلى أن يتم تأمين وضع الميليشيات (سواء كقوة مستقلة أو كجزء شبه مستقل من الجيش السوري) وأمنها المستقبلي.
نجحت إسرائيل في إضعاف “حماس” و”حزب الله” (ولكن لم تقض عليهما)، وفي المقابل يستمر الحوثيون الذين هم وكلاء آخرين لإيران، في استعمال أسلحة إيرانية لتهديد الملاحة الدولية وسفن الأسطول الأميركي في البحر الأحمر. زعم الحوثيون أنهم يعملون دعماً للفلسطينيين، لكن من غير الواضح ما إذا كان قرارهم الأخير تعليق معظم هجماتهم يعكس الهدنة في غزة فقط، أم أن هناك خوفاً من رد فعل أميركي أقوى تحت قيادة ترمب. في كلتا الحالتين، يجب على ترمب أن يوضح لإيران أنه إذا تعرضت أية سفينة حربية أميركية لأضرار أو إذا أصيب أو قتل أميركي بسبب هذه الأسلحة، سيكون هناك رد عسكري فوري ضد إيران. ويجب عليه أن يخبر الحوثيين أنه إذا استأنفوا هجماتهم على الشحن الدولي، فإن القوات الأميركية ستهاجم منشآتهم وتوقف جميع شحنات الأسلحة الموجهة إليهم.
الوعد الزائف بالاستقرار
شهدت علاقات الولايات المتحدة مع إسرائيل ذرى مرتفعة خلال سنوات بايدن، لكنها خبرت بعض الانخفاضات أيضاً. ففي حين دعم بايدن حرب إسرائيل ضد “حماس”، سعى أيضاً إلى تهدئة منتقدي إسرائيل من اليسار (حتى داخل وزارة الخارجية والبيت الأبيض) من خلال الاستمرار في الشكوى من أداء إسرائيل في تلك الحرب، وتأخير بعض المساعدات العسكرية الأميركية (بما في ذلك الجرافات المدرعة وبعض الذخائر)، وفرض عقوبات على عشرات من الجماعات والأفراد الإسرائيليين المستوطنين. من ناحية أخرى، قام ترمب بسرعة بإطلاق الشحنات المحتجزة وإزالة العقوبات، مما أشار إلى أنه من غير المحتمل أن تقوم إدارة ترمب أبداً بحجب أو تأخير المساعدات العسكرية لإسرائيل. فالقوة العسكرية لإسرائيل. في نهاية المطاف، تشكل القوة العسكرية الإسرائيلية عنصر تضخيم للقوة الأميركية وتعزز مصالح الولايات المتحدة.
ولكن ينبغي على ترمب أيضاً أن يمضي إلى أبعد من إعلان الدعم الكامل لإسرائيل ومعارضة التسلح النووي الإيراني، على مدار عقود كان من المتعارف عليه أن التوافق العربي – الإسرائيلي مستحيل حتى تحل القضية الفلسطينية، ولكن اتفاقات إبراهام التي أبرمها ترمب أثبتت العكس. اليوم، يجب عليه أن يسعى إلى ما هو أبعد من الاستقرار الزائف الناتج من الجمود المستمر مع إيران، وأن يركز على تحويل المنطقة من خلال البناء على التغييرات التي حققتها إسرائيل بالفعل من إضعاف “حماس” في غزة و”حزب الله” في لبنان إلى إظهار الضعف العسكري لإيران وعملها على الإطاحة بنظام الأسد.
لدى الولايات المتحدة الآن فرصة لإبقاء إيران وحلفائها في حال من عدم التوازن، ومرد ذلك أن الحل الحقيقي الوحيد لمسألة الجمهورية الإسلامية يكمن في انهيارها. ويتوجب على الولايات المتحدة وحلفائها تصعيد حملة من الضغوط عليها، لمصلحة الشعب الإيراني الذي يرغب في نهاية النظام بشدة أكثر من أي طرف آخر. ويتوجب أن تتضمن تلك الضغوط تعرية قمع النظام وإساءاته ضد حقوق الإنسان، وكذلك شن حرب سياسية على النظام عبر النقد المستمر لإخفاقاته الاقتصادية ووحشيته، ودعم جيران إيران إذا هددتهم، وتقديم العون (المعلن والخفي) لجهود الإيرانيين في الاحتجاج ضد نظام يمقته معظمهم بوضوح.
وتصلح علاقات الرئيس رونالد ريغان مع الاتحاد السوفياتي للتذكير بإمكان الانخراط في مفاوضات عملية مع دولة عدوة من دون التخلي عن الحدة في الصراع الأيديولوجي. وباستطاعة رئيس أميركي أن يتحدث مع خصم متسلط من دون التنازل عن المبادئ الأخلاقية، ولا التخلي عن دعم شعب يتطلع إلى التحرر من نظام قمعي، ويتظاهر تكراراً في الشوارع على رغم الأخطار.
ويجب على الولايات المتحدة أن تنظر إلى مثل تلك المفاوضات، بوصفها تكتيكاً في صراع طويل من أجل السلام في الشرق الأوسط. ويشكل الأمر الأخير هدفاً لا ينال إلا إذا حل مكان الجمهورية الإسلامية، حكومة شرعية في أعين الشعب الإيراني وتنبذ وكلاءها الإرهابيين، وكراهيتها للولايات المتحدة وإسرائيل، وكذلك الحال بالنسبة إلى رغبتها في الهيمنة على بلدان أخرى في المنطقة. وإلى أن يصل ذلك اليوم، يجب ألا يتقلص الوجود العسكري الأميركي في المنطقة. وبغية تسريع وصول ذلك اليوم، ينبغي لترمب الاستفادة إلى أقصى حد من التقدم الذي أحرزته واشنطن، ويعود جزء كبير من تحققه للفعل الإسرائيلي. وخلال أربعة أعوام، قد يستطيع ترمب أن يخلف وراءه شرقاً أوسط بأصدقاء لواشنطن أكثر قوة، وأعداء لها أشد ضعفاً مما كانوا أبداً.
إليوت أبرامز، زميل بارز في دراسات الشرق الأوسط في “مجلس العلاقات الخارجية”، وشغل مواقع متقدمة في “مجلس الأمن القومي” ووزارة الخارجية خلال عهدي الرئيسين رونالد ريغان وجورج دبليو بوش، وعمل كممثل رئاسي خاص لفنزويلا وإيران إبان الولاية الأولى لترمب.