حرية ـ (13/2/22025)
داليا محمد
في خطوة غير مسبوقة منحت المفوضية الأوروبية الضوء الأخضر لتسويق مسحوق ديدان، الوجبة المعالجة بالأشعة فوق البنفسجية، مستخرج من يرقات خنفساء Tenebrio molitorكطعام جديد داخل دول الاتحاد الأوروبي، ويسمح القرار بإدخال هذا المسحوق في مجموعة متنوعة من المنتجات الغذائية مثل الخبز والجبن والمعكرونة وحتى المربى، مما يفتح الباب أمام مصادر بروتين غير تقليدية تهدف إلى تعزيز الاستدامة البيئية.
وحصلت شركة “نوتري إيرث” الفرنسية على حقوق حصرية لتسويق هذا المنتج لمدة خمسة أعوام، وسط جدل واسع النطاق حول مستقبل هذه الأطعمة.
وعلى رغم مصادقة الهيئة الأوروبية لسلامة الغذاء على أن مسحوق الديدان آمن للاستهلاك، فقد أثار القرار اعتراضات سياسية قوية داخل البرلمان الأوروبي، ولا سيما من ممثلين إيطاليين اعتبروا هذه الخطوة تهديداً للهوية الغذائية الأوروبية.
فهل تمثل هذه الأطعمة الجديدة مستقبل الغذاء المستدام أم أنها ستصطدم بجدار المقاومة الثقافية والاجتماعية؟
صراصير مقلية (رويترز)
ما الأطعمة الجديدة؟
وفقاً للوائح الاتحاد الأوروبي تعرف الأطعمة الجديدة بأنها تلك المنتجات أو المكونات التي لم تستهلك على نطاق واسع في دول الاتحاد قبل عام 1997، وتشمل هذه الفئة أغذية جديدة طُورت عبر تقنيات مبتكرة، أو أغذية مستخرجة من مصادر غير تقليدية مثل الحشرات والطحالب أو اللحوم المزروعة مخبرياً، والهدف الأساس من هذه اللوائح هو ضمان سلامة المستهلكين، مع تشجيع الابتكار في قطاع الأغذية لمواجهة التحديات البيئية المتزايدة.
ومن أبرز الأمثلة الحديثة على الأطعمة الجديدة طحين الصراصير Acheta domesticus، الذي ووفق على إدخاله في منتجات غذائية مثل المخبوزات والمعكرونة، وكذلك اللحوم المزروعة مخبرياً التي يتوقع أن تحدث ثورة في سوق البروتين البديل. ويشير تقرير صادر من منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة إلى أن الحشرات تعتبر مصدراً غنياً بالبروتين والألياف والمعادن، في وقت تتطلب زراعتها موارد أقل بكثير مقارنة بالماشية التقليدية، مما يسهم في تقليل البصمة الكربونية بنسبة تصل إلى 80 في المئة.
وعلى صعيد اللحوم المزروعة، تشير دراسة نشرتها مجلة “نيتشر”، عام 2021، إلى أن هذه التقنية يمكن أن تقلل استخدام الأراضي الزراعية بنسبة 95 في المئة مقارنة بتربية المواشي التقليدية، مما يجعلها خياراً محتملاً للتخفيف من أزمة الأمن الغذائي العالمية.
في الوقت نفسه تقدمت شركات مثل “موزا ميت” الهولندية بطلب للحصول على موافقة الاتحاد الأوروبي لتسويق دهون اللحم المزروع، وهي خطوة قد تمهد الطريق لاعتماد هذه المنتجات في الأسواق الأوروبية قريباً.
فوائد غذائية واستدامة بيئية واعدة
وتعد الأطعمة الجديدة، مثل مسحوق ديدان الوجبة، مصدراً غنياً بالبروتين العالي الجودة والفيتامينات الأساس مثل فيتامين “ب 12″، إضافة إلى معادن مهمة مثل الحديد والزنك. ووفقاً لدراسة نشرت عام 2022 في “مجلة علوم وتكنولوجيا الأغذية” تحوي ديدان الوجبة نسبة بروتين تصل إلى 60 في المئة من وزنها الجاف، لذا فهي بديل مغذٍّ وصحي للبروتينات الحيوانية التقليدية، إضافة إلى ذلك تظهر أبحاث أخرى أن المعالجة بالأشعة فوق البنفسجية تزيد من محتوى فيتامين “د” في مسحوق ديدان الوجبة، مما يعزز قيمته الغذائية بخاصة في المجتمعات التي تعاني نقص هذا الفيتامين.
أما من ناحية الاستدامة البيئية فتعتبر الأطعمة الجديدة خطوة مهمة نحو تقليل البصمة الكربونية لقطاع الغذاء. على سبيل المثال يتطلب إنتاج كيلوغرام واحد من ديدان الوجبة أقل من 10 في المئة من كمية المياه والأراضي اللازمة لإنتاج كيلوغرام واحد من لحم البقر، وفقاً لتقرير صادر عام 2021 من منظمة الأغذية والزراعة العالمية، كذلك فإن انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة من تربية الحشرات أقل بكثير مقارنة بالماشية، مما يسهم في مكافحة تغير المناخ.
إضافة إلى ذلك تؤدي هذه الأطعمة دوراً مهماً في الحد من المخلفات الغذائية، إذ يمكن للحشرات التغذي على بقايا الطعام أو المنتجات الزراعية غير الصالحة للاستهلاك البشري وتحويلها إلى بروتين صالح للأكل، هذا النهج الدائري لا يحسن من كفاءة سلسلة الإمداد الغذائي فحسب، بل يسهم أيضاً في تقليل هدر الطعام بنسبة 30 في المئة، كما أشار تقرير صادر من “مجلس معلومات الأغذية الأوروبي” عام 2023.
بين ريادة الابتكار والتقاليد العريقة
على الصعيد العالمي أصبحت هولندا واحدة من الدول الرائدة في تطوير صناعة الأغذية البديلة، بما في ذلك البروتين المستخرج من الحشرات، فهي موطن لعديد من الشركات الناشئة المتخصصة في إنتاج طحين الصراصير ووجبات الحشرات، مثل “بروتكس”، و”كريكا إنتو فود”، التي تعمل على تسويق هذه المنتجات كحل مستدام لمشكلة الأمن الغذائي العالمي. ووفقاً لتقرير صادر من منظمة الأغذية والزراعة العالمية، من المتوقع أن تصل قيمة سوق الحشرات الصالحة للأكل عالمياً إلى 4.63 مليار دولار بحلول عام 2027، مع ارتفاع الطلب على مصادر البروتين البديلة.
وفي الوقت نفسه تعتبر بعض الثقافات في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية تناول الحشرات جزءاً من تقاليدها الغذائية القديمة. على سبيل المثال، في تايلاند، تعد أطباق الجراد والديدان المقلية وجبات خفيفة شائعة، وتُباع على نطاق واسع في الأسواق المحلية، أما في المكسيك فإن “الشابولينز” (الجراد المحمص) يعد من المأكولات التقليدية ويستخدم في عديد من الأطباق مثل “التاكو”. وتشير إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة إلى أن أكثر من 2.5 مليار شخص حول العالم يتناولون الحشرات بصورة منتظمة كجزء من نظامهم الغذائي.
ويعكس هذا التباين بين الابتكار في الدول الغربية والتقاليد العريقة في الثقافات الأخرى كيف يمكن للأطعمة الجديدة أن تبني جسوراً بين الماضي والمستقبل، مع توفير حلول عملية ومستدامة لمواجهة التحديات الغذائية العالمية.
بين الفرص والتحديات
ومع تزايد الضغوط على الموارد الطبيعية وارتفاع عدد سكان العالم إلى نحو 10 مليارات نسمة بحلول عام 2050، يمكن للأطعمة الجديدة أن تؤدي دوراً حاسماً في حل مشكلة الأمن الغذائي. ووفقاً لتقرير صادر من منظمة الأغذية والزراعة، سيتطلب إطعام سكان العالم مزيداً من الابتكار، وتعد مصادر البروتين البديلة، مثل الحشرات واللحوم المزروعة مخبرياً، من بين الحلول الواعدة. وهذه الأغذية ليست فقط غنية بالبروتينات والفيتامينات الأساس، بل تُنتج أيضاً بكفاءة عالية تقلل من استهلاك الموارد وتحد من انبعاثات الكربون بنسبة تصل إلى 80 في المئة مقارنة بالإنتاج التقليدي للحوم.
وتشير توقعات نمو السوق العالمية إلى أن سوق الأغذية البديلة ستشهد ازدهاراً كبيراً في الأعوام المقبلة، ووفقاً لتقرير صادر من شركة “ألايد” لأبحاث السوق، من المتوقع أن تصل قيمة سوق البروتين البديل عالمياً إلى 35.5 مليار دولار بحلول عام 2027، مدفوعة بزيادة الوعي بالاستدامة وتغيير أنماط الاستهلاك لدى الأجيال الشابة، وتقود شركات كبرى مثل “إمبوسبل فودز” و”بيوند ميت” هذا التحول، مع توفير بدائل لحوم نباتية تحظى بقبول متزايد بين المستهلكين.
ومع ذلك فإن التحديات لا تزال قائمة، وأبرزها قبول المستهلكين هذه الأطعمة الجديدة. وتظهر تقارير صادرة من “منظمة المستهلك الأوروبية” أن نحو 48 في المئة من المستهلكين الأوروبيين يشعرون بالشك تجاه تناول الحشرات أو اللحوم المزروعة، ويعتبرونها غير مألوفة وغير متوافقة مع تقاليدهم الغذائية، وقد يؤدي التثقيف الغذائي وتحسين عملية التسويق دوراً في تغيير هذه النظرة تدريجاً.
وفي ظل صعود الأطعمة الجديدة، من المتوقع أن تواجه الأطعمة التقليدية تحولات في السوق، بعضها قد يؤدي إلى ارتفاع أسعارها، ويمكن أن يعزى هذا الارتفاع إلى عوامل عدة، منها زيادة كلف الإنتاج الزراعي التقليدي بسبب ندرة الموارد الطبيعية كالماء والأراضي الصالحة للزراعة، وارتفاع أسعار الطاقة والعمالة. في المقابل توفر الأطعمة الجديدة، مثل البروتينات المستدامة المستخلصة من الحشرات أو اللحوم المزروعة مخبرياً، خيارات أقل كلفة على المدى الطويل بفضل انخفاض حاجاتها من الموارد.
لكن، هل يعني هذا أن الأطعمة التقليدية ستختفي؟ لا، لن يحدث ذلك على الأرجح، بل ستتأقلم مع التغيرات في السوق، وستتحول المنتجات الغذائية التقليدية إلى دور تكميلي للأغذية الجديدة، مع تركيز متزايد على الزراعة المستدامة والمنتجات العضوية لتلبية حاجات شريحة من المستهلكين الباحثين عن الجودة العالية والتنوع الغذائي. ويضمن هذا المزج بين التقليدي والجديد استمرار التقاليد الغذائية، مع تعزيز التنوع في الخيارات المتاحة للمستهلكين الذين قد يفضلون المزج بين البروتينات البديلة والأطعمة التقليدية في نظامهم الغذائي.
وتشير توقعات مركز “غراند فيو” للأبحاث إلى أن سوق المنتجات العضوية ستواصل نموها بالتوازي مع توسع الأغذية البديلة، مما يعكس تزايد وعي المستهلكين بأهمية التغذية الصحية والممارسات الزراعية الصديقة للبيئة.
وفي نهاية المطاف، يبقى السؤال مطروحاً: هل نحن مستعدون لتبني هذه الابتكارات الغذائية؟ لا شك أن الأطعمة الجديدة تفتح أبواباً واسعة نحو مستقبل غذائي أكثر استدامة وابتكاراً، لكنها في الوقت نفسه تثير تساؤلات حول الهوية الثقافية والقيم الأخلاقية والدينية المرتبطة بالطعام، وقد يجد الأشخاص النباتيون والخضريون صعوبة في تقبل هذه البدائل إذا تضمنت مصادر حيوانية، حتى وإن كانت مستدامة.
وربما يكمن الحل في تحقيق توازن ذكي بين التقدم التكنولوجي في صناعة الغذاء والحفاظ على التقاليد الغذائية الراسخة التي تشكل جزءاً من ثقافتنا، في السابق كنا نخشى تسلل دودة من أوراق الخس في طبق السلطة، أما الآن، فعلينا أن نرحب بفرح بمشتقات اليرقات والديدان الجالسة على الصحن بكل ثقة قرب البطاطا المقلية!