حرية ـ (15/2/22025)
شريف الشافعي
تتعاطى الأعمال الفائزة بجوائز ابن بطوطة في فروعها المتنوعة هذا العام مع الرحلة بمعناها الأوسع. فالسفر ليس مجرد التنقل من موضع إلى موضع مصحوباً بالتدوين والتسجيل، وإنما الرحلة اكتشاف وانخطاف ومكابدة، وانفتاح جديد جريء على الذات والآخر في تفاعلهما الخلاق، وقراءة متعمقة فلسفية للمشاهد الدينامية والظواهر والعلاقات والمشاعر، وقنص حدسي استبطاني للأصداء والخفي والمسكوت عنه من التفاصيل واللحظات الثرية المحمّلة بأنفاس الحياة.
فضاءات متنوعة
تتوزع جوائز العام الـ23 على سبعة مغاربة ومصريين اثنين وسعودي ولبناني وأردني، والكتب صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ففي مجال الرحلة المحققة فاز كل من “رحلة الهشتوكي… هداية الملك العلّام إلى بيت الله الحرام” لأبي العباس الهشتوكي (تحقيق: عبدالهادي الكديوي، المغرب) و”شفاء الغرام في حج بيت الله الحرام وزيارة قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام” لمحمد الحجوجي الدمناتي (تحقيق: حرية الريفي، المغرب) و”سياحة البلدان” لمصطفى الحموي الدمشقي (تحقيق: طه الشاذلي علي، مصر) و”الرحلة المكية… فرنسا- الحجاز-الجزائر” لأحمد بن العياشي (تحقيق: محمد الأندلسي، المغرب).

الكتب الفائزة بالجائزة (المؤسسة العربية)
وفي الرحلة المعاصرة فاز كل من “باريس التي عشتُ… دفتر يوميات” (عيسى مخلوف، لبنان) و”الفتوحات البوهيمية… رحلات في بلاد التشيك والمجر وإيطاليا” (محمد سالم عبادة، مصر)، وفي الرحلة المترجمة فاز “رحلة إلى مصر وسوريا” لقسطنطين فرانسوا فولني (ترجمة: عصام محمد الشحادات، الأردن)، وفي اليوميات فاز “على وقع خطوات كريستوفر كولومبوس… رحلة إلى أميركا الجنوبية” (محمد خطابي، المغرب) و”ما أحمله معي… حياة وأسفار وتصورات أخرى” (مشعان المشعان، السعودية)، وفي الدراسات “الرحلة الأميركية إلى الديار الطنجية” (عبدالعزيز جدير، المغرب) و”الرحالون المغاربة وفرنسا… في عصر الحماية (محمد النظام، المغرب) و”صدى المشاهد… تشكُّل المشاعر في الرحلة المعاصرة (عبدالرحمن التمارة، المغرب).
جسارة واقتحام
ماذا تعني الرحلة وأدبياتها وسردياتها لدى المنخرطين في ممارسة هذا اللون الإبداعي القديم الحديث؟ سؤال تتشعب إجاباته بطبيعة الحال بتعدد أقلام الفائزين بجوائز ابن بطوطة (2024 – 2025)، ولكن الذي يجمع الأعمال المتوجة بالتكريم تلك الجسارة في الرؤية والاقتحام في التناول والتأني في التحليل والإمعان في استقطار رحيق الرحلة إلى أقصى حد ممكن على كل المستويات، بحيث تتحول السُّفرة الاعتيادية إلى مائدة استثنائية عامرة بالقطاف، التي تتجاوز سبع فوائد محدودة للسفر عددها الأقدمون.
هذه النزعة إلى تفجير الرحلة بالدلالات والمعاني والإشارات الجلية والكامنة يتوقف عندها الشاعر نوري الجراح مدير عام “المركز العربي للأدب الجغرافي” المشرف على جائزة ابن بطوطة، مشيراً إلى وعي مبدعي أدب الرحلة ومحققيه ومترجميه المتنامي بخطورة هذا الأدب، وأهميته في استكشاف نظرة العربي إلى ذاته في علاقته بثقافته، وإلى الآخر في اختلافه الثقافي، ومن ثم تظهير تطور الوعي بالاختلاف من خلال دراسة الظواهر الناجمة عن السفر والتواصل مع الآخر. ويلفت الشاعر السوري في بيان الجائزة إلى أن هذه الأعمال، خصوصاً في اليوميات والرحلة المعاصرة، تبتعد وفق هذا التصور عن الطابع الوصفي، لتنجرف صوب التعبير عن ذات الرحالة في علاقته بنفسه وبالعالم، يأتي ذلك، على اعتبار أن الرحلة في جوهرها مغامرة فكرية وروحية، تعكس تفاعل الذات مع الآخر من منظور فكري وأدبي يكرس صورة الرحالة شاعراً وأديباً.
هذا الوعي بمفهوم الرحلة وقيمة أدبها التفاعلي يبرهن بحد بيان الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي راعي الجائزة، على أن ميل العربي نحو السفر وتدوين الرحلة يعبر عن نزوع أصيل لدى الثقافة العربية للتواصل والتعرف والحوار مع الآخر بوصفه شريكاً حضاريّاً، وينفي عن العربي تلك الصورة النمطية الظالمة التي ترميه بالانغلاق.
مساحات وقفزات
تغطي الأعمال والمخطوطات الفائزة بجائزة ابن بطوطة مساحات واسعة من الأسفار في مختلف بقاع العالم، قديماً وحديثاً، وتشتبك في إبحاراتها الاستقصائية وقفزاتها التخييلية مع الخرائط المادية والروحية للمكان والزمان، وطوبوغرافيا الإنسان.
في عمله “ما أحمله معي… حياة وأسفار وتصورات أخرى”، على سبيل المثال، يستفيض السعودي مشعان المشعان في القبض على الظلال الخيالية الناجمة عن الرحلة في تشكلاتها وأطيافها، صانعاً من التحرك منفرداً في الرحلة تعددية باذخة تغذيها التأملات “هل تسافر وحدك؟! أجبته بعقلي مع حركة القطار الرتيبة: نعم، أما لمَ؟ فلأنني أظهر الجانب الخيالي مني في السفر، فالخيالي لا يمل من تكرار فعل الأشياء، أو فعلها وممارستها لساعات طوال.”
وهو في تنقلاته المرهفة، يمضي محفوفاً بالأصداء القادمة من كل شيء حوله، حتى من الصمت نفسه “أستسلم لدفء القهوة، أحتاج إلى صمتها المهيب، أحتاج إليها لمجابهة خوار العمليّين الفارغين، وثرثرة الموظفين الحاذقة، أصحاب القهوة المُرَّة. أريد أن أصغي إلى صوت الموسيقى الهامس في المتاحف والمقاهي والأرصفة، صوت تغريد العصافير في الحدائق، صوت أمواج البحر المتلاطم”.
وفي عمله “باريس التي عشتُ… دفتر يوميات”، يستدعي اللبناني عيسى مخلوف الأسماء البارزة المحفورة في ذاكرة عاصمة النور، من أمثال جان جينيه وبورخيس ورولان بارت وإدوارد سعيد وآدم حنين وصلاح ستيتية وآسيا جبّار، وغيرهم. ويعود بصورة خاصة، مثلما يوضح في مخطوطه، إلى العقدين الأوّلين من وجوده في باريس، في أواخر القرن الماضي.
هو يقرأ فلسفة المكان من خلال مصابيحه المستنيرة، ويرتد إلى أوقات خصيبة يصعب أن تتكرر “حين كانت المدينة تتوهج بألف لون، على المستويين الثقافي والإبداعي، وكانت تتعدد فيها روافد الآداب والفنون، وتصب في فضائها الواسع آتية إليها من جميع الأماكن، بما فيها العالم العربي، قبل أن يخفت صوت الفكر على المستوى العالمي، ويتراجع الحس النقدي، وتتلعثم الآداب والفنون، تحت ضربات المال المنتصر الذي يلغي كل ما يتعذّر تسليعه وتحويله أداة للمنفعة المادية”.
ومن جهته، يستلهم المصري محمد سالم عبادة في فتوحاته البوهيمية (رحلات في بلاد التشيك والمجر وإيطاليا) الفتوحات التصوفية لدى محيي الدين بن عربي، موسّعاً دائرة الرحلة في مغامراته في بلاد التشيك والمجر وإيطاليا، ويصير معنى الفتح لديه هو الإمعان في السفر، بحيث يفتح العالم بروحه، ويفتح العالم روحه على الناحية الأخرى أيضاً، بحد تعبيره.
وهو يتخطى في مخطوطه مجرد نقل الصور والمشاهد الحية وتفاصيل الوقائع اليومية ووصف الأمكنة بعمرانها وطبيعتها ومعالمها ومتاحفها ومكتباتها وأسواقها، ليتطرق بتحليله الموضوعي ومزاجه الإبداعي الفردي إلى طبائع البشر وسلوكياتهم وخلفياتهم الحضارية وتركيبتهم الإنسانية، قارئاً ملامحهم في مراياه، ومكتشفاً ذاته في مراياهم.
وفي مجال الدراسات، يطارد المغربي عبدالرحمن التمارة في عمله “صدى المشاهد” تشكُّلات المشاعر في الرحلة المعاصرة، ذاهباً في أطروحته إلى أن أحداث الرحلة تكشف عن جوهر إبداعي قوامه السّرد الحركي، باعتبار الحركة فعلاً ديناميّاً يخلص الذات من ثبات وسكون في جغرافية خاصة، فيحفزها على سرد ما عاشته أو تعيشه في رحلتها من تجارب جديدة، وبوصف السرد الحركي يندرج ضمن فعل أدبي، تصحبه رؤية فكرية أساسها الملاحظة الذكية والوصف البارع والتأمل الدقيق، ويخضع لتعابير لغوية وبنيات أسلوبية وشبكة معجمية محكومة بشعرية الملاءمة للخطاب الرحلي على مستوى المشاعر والأحاسيس العميقة.