حرية ـ (15/2/22025)
رفيق خوري
تغيرت الدنيا في البيت الأبيض منذ عودة الرئيس دونالد ترمب إلى المكتب البيضوي وسط أكثرية جمهورية في الكونغرس، وليس حوله سوى مجموعة ضيقة من الأثرياء في سلطة أوليغارشية حذّر منها الرئيس جو بايدن في خطابه الوداعي.
قرارات غير مألوفة في الداخل بما يتجاوز تفكيك الدولة “الإدارية والعميقة”، ومواقف لا معقولة ولا مقبولة في الخارج والآتي أعظم، فالحلول عنده ارتجالية من النوع الذي يجعل الأزمات أكبر وأخطر، والسياسات تنطلق من عقلية الصفقات التجارية. مشكلة الخلاف على “اليوم التالي” بعد حرب غزة لها “حل مبتكر” لا يخطر على بال: استملاك أميركا لغزة بعد تهجير أهلها كعقار معروض للتطوير. مساحة إسرائيل ضيقة: تتوسع عبر ضم الضفة الغربية، حرب أوكرانيا كلفت أميركا حتى اليوم 94 مليار دولار وأوروبا وآسيا وبقية الشركاء 148 مليار دولار، حسب وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن: الحل هو أن تصبح أوكرانيا روسية.
دولة فلسطينية: يمكن أن تُقام على أراضي السعودية الواسعة، لا دول، لا شعوب، لا حقوق وطنية بل مقايضات وصفقات، والواقع أن “أميركا دخلت عصر اللاعقل” كما يقول أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدولية صاحب كتاب “ظل ترمب الطويل” جوناثان كيرشنر، وما كان صاحب كتاب “خسارة اللعبة الطويلة” فيليب غوردن يبالغ عندما قال خلال الحملة الانتخابية كمستشار الأمن القومي للمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس “إن ولاية ثانية لترمب ستجعل ولايته الأولى تبدو معتدلة وحكيمة”.
ذلك أن المعادلة في سياسة ترمب في الشرق الأوسط قائمة على الخلل والاختلال والاحتلال. نتنياهو يدمر في غزة، وترمب يشتري ويعمّر، نتنياهو يقول إنه يعمل لكي “تكون إسرائيل دولة عظمى عالمية مزدهرة وقوية”، وترمب يهديه كل ما يلزمه من أسلحة ومال ودعم سياسي وعسكري. و”حل الدولتين” الذي تبنته الإدارات الأميركية وإن لم تحققه، جعله ترمب “حل الدولة الواحدة”: إسرائيل الكبرى على أرض فلسطين من البحر إلى النهر. وهذه “فانتازيا” سياسية لكنها بالغة الخطورة، فكيف يمكن إلغاء الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع والشتات، ولو منعت أميركا وإسرائيل إقامة دولة فلسطينية بالقرار السياسي أولاً، وبالعمل على الأرض ثانياً، عبر امتلاك أميركا لغزة وضم إسرائيل للضفة الغربية؟ وهل هذه نهاية لقضية عمرها قرن أم بداية جديدة لفوضى وصراعات وحروب في فلسطين والمنطقة؟
ذلك أنه لا مستقبل لغزة وحدها، ولا للضفة الغربية وحدها، فلا غزة تستطيع تحرير فلسطين بقوة “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ولا الضفة تستطيع الحصول على دولة فلسطينية بقيادة “فتح”.
ومن الضرورات بعد دمار غزة وبقاء “حماس” كقوة، إنهاء الانقلاب العسكري الذي قامت به “حماس” وفصلت القطاع عن الضفة وأقامت سلطة مستقلة عن السلطة الوطنية الفلسطينية، هما معاً في ظل الاحتلال الإسرائيلي، فما تكشف على مدى أعوام هو أن انقلاب “حماس” لم يكن مجرد خلاف أو صراع مع “فتح” بل خطة ضمن مشروع كبير عنوانه التحرير لكنه ضمن الإستراتيجية الإيرانية والمشروع الإقليمي الطموح للجمهورية الإسلامية، وهذا المشروع تلقى ضربة إسرائيلية قاسية في غزة، وضربة قوية في لبنان عبر “حزب الله”، وانهار النظام السوري الحليف لإيران، لا بل إن نائبة المدير في مؤسسة “بروكنغز”، سوزان مالوني، وصفت ما حدث بأنه “كسر إستراتيجية إيران الإقليمية”، ثم حذرت من أن “إيران ضعيفة ليست أقل خطورة”.
واللعبة الكبيرة مع إيران هي أساس ما تسمى رؤية ترمب للشرق الأوسط الجديد الذي يتخلص من الحروب، وفانتازيا شراء غزة وضم الضفة الغربية هي مجرد مقدمات إلى جانب سياسة الاندفاع الأميركي والإسرائيلي نحو “قطع الأذرع الإيرانية المسلحة” في لبنان والعراق واليمن وغزة، لإضعاف إيران و”احتوائها” وربما السعي إلى ضربها وتغيير نظامها لا مجرد سلوكها.
والمؤكد أن طهران تعمل على إستراتيجية مضادة كشف جزءاً منها قائد الحرس الثوري الجنرال حسين سلامي بالقول “إن الوضع في سوريا لن يبقى على ما هو عليه”، وليست مصادرة أسلحة مهربة إلى “حزب الله” عبر الأراضي السورية سوى إشارة إلى أن سلاح “حزب الله” لم يفقد دوره في لبنان بالنسبة إلى طهران، ومع الدعوة الأميركية إلى شرق أوسط بلا حروب، يؤكد الواقع دعوة معاكسة إلى مزيد من الحروب والصراعات.
ومن المهم مبادرة مصر إلى دعوة الدول العربية إلى قمة طارئة في القاهرة لمواجهة خطة ترمب وخطط نتنياهو بعد قمة خماسية في السعودية، لكن الأهم هو ألا تكتفي القمة بالرفض في بيان ختامي بل أن تقدم خطة قومية لليوم التالي في غزة وإعادة الإعمار والإصرار على دولة فلسطينية.
خطة لها أسنان وتمويل وقدرة على المواجهة في الصراعات، لا مجرد أفكار على الورق.
كان وزير الخارجية الأميركي دين راسك يقول “الأفكار ليست سياسات”، لكن من الوهم الحديث عن سياسات من دون أفكار، فالمهم تحويل الأفكار إلى سياسات، ولدى العالم العربي كثير من الأفكار وقليل من السياسات، والوقت حان لأن يأخذ العرب موقعهم الطبيعي والقوي في اللعبة مع ثلاث قوى إقليمية وثلاث قوى دولية.