حرية ـ (15/2/22025)
جوناثان بيركشاير ميلر
في وقت سابق من هذا الأسبوع، بدا أن إدارة ترمب ماضية في تنفيذ تهديدها بفرض تعرفة جمركية شاملة بنسبة 25 في المئة على جميع الصادرات الكندية إلى الولايات المتحدة. وادعى الرئيس دونالد ترمب أن كندا تدين للولايات المتحدة “بكثير من المال، وأنا متأكد من أنهم سيدفعون”. وأضاف “قد نعاني بعض الألم على المدى القصير، والناس يتفهمون ذلك. ولكن على المدى الطويل، تعرضت الولايات المتحدة للاستغلال من كل دول العالم تقريباً”.
وسارعت أوتاوا إلى الرد فأعلنت مجموعة من التعريفات الانتقامية تستهدف منتجات أميركية بقيمة 150 مليار دولار، بما في ذلك الأجهزة والمعدات والسلع الزراعية. وحذر رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو من أن “التعريفات الجمركية ضد كندا ستعرض الوظائف [الأميركية] للخطر، مما قد يؤدي إلى إغلاق مصانع تجميع السيارات الأميركية وغيرها من المنشآت الصناعية”. ولكن بعد سلسلة من المكالمات الهاتفية مع ترمب، تمكن ترودو في اللحظة الأخيرة من تأمين تعليق فرض هذه التعريفات الجمركية لمدة 30 يوماً. (كما حصلت المكسيك، التي واجهت تهديداً مماثلا من ترمب، على مهلة إرجاء موقتة).
وفي المقابل، عرض ترودو سلسلة من الإجراءات لتعزيز أمن الحدود الكندية، بما في ذلك مجموعة متنوعة من الاستثمارات التي أعلنت سابقاً لزيادة القوى العاملة وتحسين قدرات المراقبة بهدف الحد من الهجرة غير الشرعية ومكافحة تهريب الفنتانيل [مسكن أفيوني قوي يستخدم طبياً لتخفيف الألم الشديد، لكنه أيضاً يعتبر من أخطر المخدرات غير المشروعة بسبب قوته العالية وخطورته في التسبب بجرعات زائدة مميتة].
يعد هذا التأجيل خبراً ساراً، وخصوصاً بالنسبة إلى الكنديين، الذين كانوا ليعانوا ضرراً اقتصادياً مباشراً لو نفذ ترمب تهديده. ولكن من نواح أخرى، وقع الضرر بالفعل. فقرار ترمب بمعاقبة جارة الولايات المتحدة وحليفتها وأحد أقرب شركائها الاقتصاديين بطريقة عادة ما تستخدم مع الخصوم، يمثل خطوة غير مسبوقة تشير إلى تحول جذري في نهج واشنطن تجاه تحالفاتها. والمعاملة التي خص بها كندا هي مجرد مؤشر لما قد يواجهه حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا. في الأيام الأخيرة، وجه ترمب انتقادات لتايوان بسبب فائضها التجاري مع الولايات المتحدة، وحذر الاتحاد الأوروبي من أن التعريفات الجمركية “قد تفرض عليه قريباً”.
والواقع أن عقيدة إدارة ترمب القائمة على الإكراه الاقتصادي بالقوة المباشرة، الذي ينفذ من خلال التعريفات الجمركية والأوامر التنفيذية واستغلال الهيمنة المالية الأميركية، يهدد بتحويل العلاقات عبر الأطلسي ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ إلى تعاملات قائمة على المصالح البحتة. وستلحق هذه السياسة الضرر بجميع الأطراف المعنية، وتساعد خصوم الولايات المتحدة مثل الصين وروسيا. على المدى القصير، يتمثل النهج الأكثر براغماتية بالنسبة إلى كندا (وكذلك بالنسبة إلى حلفاء الولايات المتحدة الآخرين، عندما يحين دورهم) في التعامل مع تهديدات ترمب بطريقة مدروسة ومتزنة. لكن قول هذا أسهل من فعله، إذ إن السياسة الداخلية غالباً ما تحفز ردود فعل مدفوعة بالكبرياء أو القومية. ويتعين على الكنديين وغيرهم مقاومة إغراء الرد بعنف، فبينما تعد التحركات المضادة والتدابير الانتقامية ضرورية، فإن المبالغة في رد الفعل لن تؤدي إلا إلى الإضرار بمصالح كندا الاقتصادية والأمنية على المدى الطويل.
رجل الصفقات
يعتمد نهج ترمب في السياسة الخارجية على عقلية الصفقات التي تقوم على مبدأ المكسب والخسارة، إذ تمثل القوة الاقتصادية الأداة الأساسية لإدارة الدولة. أما الدبلوماسية التقليدية وإدارة التحالفات فتدفعان إلى الهامش لصالح أجندة حمائية عدوانية تعطي الأولوية للمكاسب الاقتصادية الفورية على حساب الاستقرار الاستراتيجي الطويل الأجل. وعلى رغم أن عدداً كبيراً من حلفاء أميركا اعتادوا على الانتقادات من واشنطن في شأن اختلال موازين التجارة والإنفاق الدفاعي، فإن ترمب هو أول رئيس أميركي في العصر الحديث يترجم هذه التذمرات إلى حرب اقتصادية مباشرة ضد شركاء الولايات المتحدة، باستخدام أسلحة مخصصة تقليدياً لمواجهة خصوم واشنطن.
إن خطاب ترمب يظهر بوضوح أن إدارته تنظر إلى جميع العلاقات الاقتصادية، بما فيها تلك التي تربطها بحلفائها، باعتبارها علاقات تنافسية بطبيعتها وتتطلب إعادة التفاوض باستمرار تحت تهديد العقوبات المالية. ويخلق هذا النهج حالة من عدم اليقين بين شركاء الولايات المتحدة كما يثير مخاوف من أن التزام واشنطن بالأمن الجماعي والتعاون الاقتصادي يبدو مشروطاً بالمكاسب الآنية قصيرة الأجل الناجمة عن الصفقات.
ويزعم المدافعون عن ترمب أن نهجه ضروري لمعالجة اختلال التوازن التجاري وإجبار الحلفاء على أخذ التزاماتهم الأمنية على محمل الجد، لكن العواقب الطويلة الأجل لسياسته الاقتصادية العدائية كانت في الغالب سلبية على جميع الأطراف المعنية. على سبيل المثال، أدت التعريفات الجمركية التي فرضتها إدارة ترمب على واردات الصلب والألمنيوم الكندية في عام 2018 إلى اتخاذ تدابير انتقامية أضرت بالشركات والمستهلكين الأميركيين من دون تحقيق مكاسب استراتيجية تذكر.
لكن التداعيات تمتد إلى ما هو أبعد من المسائل الاقتصادية، ذلك أن شن حرب اقتصادية على الحلفاء يزعزع الثقة ويهدد بتفكيك هياكل الأمن عبر الأطلسي ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ التي دعمت الاستقرار العالمي لعقود من الزمن. وإذا فرضت واشنطن تعريفات جمركية على حلفائها الأوروبيين والآسيويين، فإنها ستخلق فجوة بينها وبينهم سيستغلها خصوم مثل الصين وروسيا بحماسة. على سبيل المثال، تسعى بكين إلى تعميق الانقسام بين الولايات المتحدة وأوروبا من خلال تقديم نفسها كشريك اقتصادي أكثر موثوقية.
ومن جانبها، تستغل موسكو التوترات عبر الأطلسي لإضعاف تماسك حلف الـ “ناتو”. هذه الشراكة الاستراتيجية المتنامية بين هاتين القوتين الاستبداديتين، التي يعززها التعاون العسكري والاتفاقات الاقتصادية والعداء المشترك تجاه الغرب، تمثل تحدياً مباشراً للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. ومن خلال تقويض ثقة الحلفاء بسبب سياسات اقتصادية عدوانية عشوائية، تخاطر واشنطن بعزل نفسها في وقت أصبح فيه الحفاظ على تحالفات قوية وموحدة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
حقائق صعبة
قد يكون نهج التعاملات المالية الذي يتبناه ترمب في التعامل مع التحالفات قصير النظر وغير مثمر، بيد أن انتقاده الأوسع لمسألة تقاسم الأعباء ليس بلا مبرر، إذ أخفق كثير من حلفاء واشنطن في الاستثمار بصورة كافية في دفاعهم، معتمدين على القوة العسكرية الأميركية كضمانة أمنية. وكندا مثال واضح على ذلك، إذ يبلغ إنفاقها الدفاعي نحو 1.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما تعاني قواتها المسلحة نقصاً مزمناً في الموارد، مما يجعلها غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها الأمنية داخل القارة، ناهيك عن تقديم مساهمات مستدامة في الخارج. وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ، قلصت دول حليفة رئيسة للولايات المتحدة، مثل اليابان، من إنفاقها العسكري وقدراتها الدفاعية لعقود، على رغم مواجهتها تهديدات مباشرة من الصين وكوريا الشمالية. لكن المثال الأكثر وضوحاً على هذا الخلل هو حلف الـ”ناتو”: فحتى وقت قريب، لم يتمكن معظم أعضائه، مثل كندا، من تحقيق هدف الإنفاق الدفاعي المتفق عليه البالغ اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
في المقابل، هناك مجموعة من الدول الاستبدادية الرجعية، لا تشمل الصين وروسيا فحسب، بل أيضاً إيران وكوريا الشمالية، تعمل على تعزيز التعاون والتنسيق في ما بينها بصورة أعمق من أي وقت مضى، مما يسهل على أي منها تهديد خصومها، ويمنح هذا التحالف الذي تشكله قدرة أكبر على تحدي النظام العالمي القائم على القواعد الذي تقوده الولايات المتحدة. يجب أن يكون هذا بمثابة تحذير لحلفاء واشنطن يحثهم على بذل مزيد من الجهود لتعزيز أمنهم الذاتي. لقد انتهى عصر التفوق العسكري الأميركي المضمون، القادر على تأمين الاستقرار العالمي بكلفة قليلة على شركائه، مما ينبغي على حلفاء واشنطن أن يدركوه هو أن الاستثمار في دفاعهم ليس مجرد تنازل لمطالب واشنطن، بل هو تكيف ضروري يفرضه عالم يزداد خطورة.
وبالنسبة إلى كندا، فإن ذلك يعني التعامل مع الأمن القومي والدفاع باعتبارهما من الأولويات القصوى، وليس مجرد بندين من بنود الموازنة. وتحتاج أوتاوا إلى تحديث قدراتها، وخصوصاً أصولها البحرية وقدرات المراقبة في منطقة القطب الشمالي، لإثبات موثوقيتها كمدافع في الخطوط الأمامية عن الجناح الشمالي لأميركا الشمالية. أما الحلفاء الآخرون، فعليهم اتخاذ خطوات مماثلة. يجب على الدول الأوروبية تسريع جهودها الرامية إلى تحديث جيوشها وتعزيز جاهزيتها القتالية وتقليل اعتمادها على القوات الأميركية. وكذلك هو الحال في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إذ ينبغي على دول مثل أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية تعميق التعاون الأمني وبناء قدراتها العسكرية لضمان استقرار المنطقة.
إن الحاجة إلى تقاسم الأعباء لا تقتصر على الإنفاق العسكري فحسب، في الواقع يتعين على الحلفاء أيضاً تعزيز قدرتهم الاقتصادية على الصمود في مواجهة الضغوط التي تمارسها الدول الاستبدادية، وهي ضغوط تفوق في خطورتها سياسات التنمر التي يتبناها ترمب. كذلك، يتعين على أولئك الحلفاء تقليل اعتمادهم على سلاسل التوريد الصينية، وتنويع مصادر الطاقة، وحماية البنية التحتية الحيوية من التهديدات السيبرانية وأعمال التجسس، إضافة إلى تنسيق استجاباتهم في مواجهة تكتيكات الضغط الاقتصادي التي تستخدمها بكين وموسكو.
يمكن لأوتاوا بدأ هذا المسار من خلال اتخاذ خطوات عدة أساسية لتعزيز أمنها الخاص، أولاً على رغم أن المناقشات مع إدارة ترمب في شأن التجارة والحدود (خصوصاً في ما يتعلق بمكافحة تهريب الفنتانيل) ستستمر، يجب إدراك أن الخلاف الحالي بين البلدين لا يتعلق بالتجارة فحسب، وأن على كندا زيادة إنفاقها الدفاعي لتعزيز صدقيتها في واشنطن، لكن الحرب التجارية التي كادت تندلع هذا الأسبوع، وقد تندلع الشهر المقبل، هي بمثابة تحذير لكندا ولحلفاء الولايات المتحدة الآخرين، لحثهم على تبني نهج أكثر إبداعاً في ما يتعلق بالتحالفات التجارية والمواقف الجيوسياسية. وبالنسبة إليهم جميعاً، تظل الولايات المتحدة شريكاً اقتصادياً وأمنياً وجودياً لا غنى عنه. لكن ذلك لا يمنع حلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك أولئك في أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، من السعي إلى إقامة شراكات في مجالات الطاقة والزراعة والأمن من دون الحاجة إلى واشنطن.
في عالم مثالي، كانت الولايات المتحدة لتشجع حلفاءها على الوفاء بالتزاماتهم الدفاعية أو تجاوزها من خلال الدبلوماسية والحوافز الأمنية والاستثمار المشترك في تقنيات الدفاع، بدلاً من اللجوء إلى التدابير الاقتصادية العقابية. ولكن هذا ليس العالم الذي يسعى ترمب إلى تشكيله، وكندا هي أول حليف يتذوق طعم ما ينوي ترمب فعله، لكنها لن تكون الأخيرة.
جوناثان بيركشاير ميلر هو مدير الشؤون الخارجية والأمن القومي والدفاع في معهد ماكدونالد لورييه في مدينة أوتاوا الكندية.