حرية ـ (18/2/22025)
يدرك رؤساء الوزراء أكثر من غيرهم أن الأمر لا يتعلق فقط بما يقولونه، بل بطريقة قيامهم بذلك. وبعضهم يحتاج إلى مساعدة أكبر من غيره، فبينما يتمتع أمثال توني بلير وبوريس جونسون بجاذبية طاغية وحضور آسر، نجد خطابات أمثال جون ميجور وكير ستارمر أقرب إلى عرض تقديمي جامد منها إلى خطاب ملهم ومؤثر، وهنا يأتي دور الخبراء.
أخيراً، جرى الكشف عن أن ستارمر استعان بالممثلة السابقة في فرقة “رويال شكسبير كومباني” ليوني ملنجر، لتحسين أدائه الخطابي. ولكن بالطبع، يبقى أحد أشهر التحولات السياسية في التاريخ ذلك الذي خضعت له مارغريت تاتشر، التي جعلت من تغيير صوتها مهمة شخصية لها، إذ اعتبر قاسياً لدرجة حالت دون ظهورها في بث رسمي للحزب. وبينما نعرف كثيراً عن تحولها إلى “المرأة الحديدية” التي وقفت أمام مقر رئاسة الوزراء في “داونينغ ستريت” بكل ثقة وقوة، إلا أن الطريقة التي وصلت بها إلى ذلك تظل محاطة بالغموض، ولا سيما الدور الذي لعبه أحد أعظم الممثلين في بريطانيا في إعادة تشكيل صورتها.
في بداياتها داخل مجلس العموم، كانت تاتشر ذات نبرة حادة وحضور متشنج وشخصية تفتقر إلى الجاذبية، لكنها عندما أصبحت وزيرة تعليم طموحة، أدركت أن لديها مشكلة، وأرادت إيجاد حل لها.
بطبيعة الحال، يسعى جميع السياسيين البارزين إلى إقناع الجمهور بأنهم يقدمون أنفسهم على حقيقتهم، لكن في عصر التلفزيون، نادراً ما يكون ذلك ممكناً، إن لم يكن مستحيلاً. غير أن تاتشر ودائرتها المقربة كانوا أكثر براعة في الحفاظ على سرها مقارنة بفريق ستارمر. ولم تتضح الصورة الكاملة للفضل الذي تدين به تاتشر لمدربها المسرحي العظيم، لورانس أوليفييه، إلا في السنوات الأخيرة.
خلال الحملة الانتخابية لعام 1979، أصبح التغيير في نبرتها وأسلوبها جلياً. وعندما التقاها الصحافي السياسي البارع في هيئة الإذاعة البريطانية مايكل كوكرل، وسألها مباشرة عن سبب تحول صوتها إلى نبرة أكثر نعومة، لم تنكر تاتشر الأمر، لكنها بعد لحظة صمت، قالت ببساطة إنها لا تستطيع تفسير ذلك بنفسها. ولم تبدأ الحقيقة في الظهور تدريجاً إلا عام 2012، أي قبل عام واحد من وفاتها.
قامت عائلة الراحلة كيت فليمنغ، المدربة الصوتية الشهيرة في المسرح الوطني، بإيداع أوراقها الخاصة لدى المؤسسة، وكانت هذه الوثائق تتضمن فواتير لقاء عملها مع حزب المحافظين بين عامي 1972 و1976. وعلى رغم أن اسم تاتشر لم يذكر بصورة مباشرة، إلا أن الفواتير غطت الفترة التي شغلت فيها منصب وزيرة التعليم تحت حكومة إدوارد هيث، واستمرت حتى بعد وصولها إلى زعامة الحزب عام 1975.
وحاول الموالون لـ تاتشر تبرير هذه الفواتير بالقول إن فليمنغ بدأت العمل معها بعد أن جمعت الصدفة بين غوردون ريس – خبير الصورة العامة لـ تاتشر، الذي تولى رسمياً منصب مدير حملتها الإعلامية عام 1978 – ولورانس أوليفييه على متن قطار متجه إلى برايتون. ووفقاً للرواية المتداولة، فقد باح ريس لـ أوليفييه خلال ذلك اللقاء الأول بينهما بقلقه من أن تاتشر لا تظهر بالصورة المناسبة أمام الجمهور. ويقال إن أوليفييه اقترح عليه حينها أن تستعين بخدمات فليمنغ، وهي ذاتها التي ساعدته في اكتشاف طبقاته الصوتية العميقة عندما أدى دور عطيل.
وفي محاولة للحفاظ على صورة تاتشر كـ”ربة منزل عادية”، تردد المقربون منها في الاعتراف بأنها التقت بـ أوليفييه بالفعل. لكن هذا التكتم انهار عندما كشف تيم بيل، أحد مستشاري صورتها العامة، في مقابلة أجريت معه قبل وفاته عام 2019، عن أن أوليفييه – الذي كان طوال حياته من أنصار حزب المحافظين – التقى بـ تاتشر فعلاً.
حتى بعد مرور عقود على مغادرة تاتشر منصبها، استمرت المحاولات للتقليل من شأن دور أوليفييه في تحولها. زعم بعضهم أن كل ما فعله أوليفييه خلال لقائهما لم يتعد الحديث المطول والممل عن مسيرته الفنية، لدرجة أصابت تاتشر بالضجر. فيما روى آخرون العكس، قائلين إن تاتشر هي من أثارت ملله. لكن من الواضح أن كلتا الروايتين تفتقران إلى الصدقية، فهاتان الشخصيتان القويتان، اللتان عاشتا حياتين بالغتي الثراء والتعقيد، لا شك في أنهما وجدتا بعضهما بعضاً شديدتي الجاذبية والإثارة للاهتمام.
سمعت للمرة الأولى عن قصة تعاون تاتشر وأوليفييه في مطلع الألفية، وأسرني الموضوع على الفور. إذ أخبرني الكاتب المسرحي الراحل رونالد هاروود، وهو صديق مقرب من غوردون ريس ورونالد ميلار كاتب خطابات تاتشر، أن لقاءاتهما لم تكن مجرد مصادفة عابرة، بل تكررت مرات عدة، كما أوضح لي أن السبب الحقيقي وراء استعانتها بأوليفييه هو من أجل دروس في التمثيل.
لم تكن هذه الدروس مقتصرة على تحسين نبرات صوتها فحسب، بل كانت بمثابة تدريب شامل على أداء الدور الذي ستتقمصه لاحقاً، بدءاً من وقفتها وحركاتها، وصولاً إلى مظهرها وأزيائها. وبمجرد أن اكتسبت مظهرها الجديد، متقنة أدق تفاصيله، تحولت إلى قوة لا يستهان بها.
لا شك أنه بمجرد مشاهدة تسجيلات تاتشر قبل لقائها بأوليفييه وبعده، تتبدد أي شكوك حول صحة ما رصده الصحافي كوكرل خلال حملتها الانتخابية. لقد أحدث أوليفييه، الذي اشتهر بأسلوبه المسرحي المؤكد واعتماده على تقمص الشخصية “من الخارج إلى الداخل”، تحولاً جذرياً في صورتها. كل تفصيل في مظهرها وسلوكها، من تصفيفة شعرها إلى طريقة إمساكها بحقيبتها، بدا وكأنه جزء من أداء مسرحي متقن.

ميريل ستريب في دور تاتشر في فيلم “المرأة الحديدية” الصادر عام 2011
لم أستطع التوقف عن تخيل كيف جرى التعاون بين هذين الشخصين، وكان ذلك الدافع وراء تأليفي لمسرحية “عندما التقت ماغي بلاري” When Maggie Met Larry، التي بثتها إذاعة راديو 4 احتفاء بمرور 50 عاماً على تولي تاتشر زعامة حزب المحافظين. وما يميز الدراما أنها تمنح الخيال حرية مطلقة، لدرجة أنني أضفت مشهداً يستلقي فيه أوليفييه حرفياً فوق رئيسة الوزراء المستقبلية! لم يكن ذلك بعيداً من الواقع، فقد كان أوليفييه، بطبيعته، مغازلاً لا يعرف الكل، مما أضفى على الأحداث توتراً درامياً مثيراً.
كما تسلط المسرحية الضوء على التناقضات الصارخة بين هاتين الشخصيتين الأسطوريتين، تاتشر المتحفظة التي لم تتزوج سوى مرة واحدة، وأوليفييه المستهتر الذي خاض ثلاث زيجات. إضافة إلى ذلك، كان لقاؤهما أشبه بتقاطع بين عالمين متباينين تماماً، زاده فرادة أن أوليفييه كان يعيش أفول نجوميته بينما كانت تاتشر في فجر مسيرتها السياسية.
بالطبع، طرحت على هارود سؤالاً حول سبب عدم كتابته مسرحية عن هذا الموضوع بنفسه. أجاب بنبرة مرهقة أن ريس أخبره بالقصة في سرية تامة، وأنه كان هو نفسه كان عضواً مخلصاً في حزب المحافظين. وأضاف هارود أنني أستطيع فعل ما أشاء بالقصة، لكن فقط عندما يموت جميع المعنيين بالأمر، بمن فيهم هو نفسه. وهكذا، بعد أن توفي صديقي المقرب عام 2020، رحت أتحدث عن الفكرة مع بعض الأشخاص وبدأت العمل على مسرحيتي.
غني عن القول إن المشروع برمته كان يعتمد على العثور على الممثلين المناسبين لتجسيد شخصيتي تاتشر وأوليفييه. بالنسبة إلى الأولى، كانت المعايير مرتفعة للغاية. إذ أبرزت باتريشيا هودج جانباً حسياً من تاتشر في فيلم “حرب الفوكلاند” The Falklands Play، بينما جعلت ميريل ستريب شخصيتها تبدو متسلطة ومتجهمة في فيلم “المرأة الحديدية” The Iron Lady، أما جانيت براون فقدمتها بأسلوب هزلي في فيلم “من أجل عينيك فقط” For Your Eyes Only ضمن سلسلة أفلام جيمس بوند. كما حاولت ليزلي مانفيل، وأندريا رايزبورو، وليندسي دانكن تسليط الضوء على تاتشر من خلال خطواتها الفاتنة في أحذيتها الجلدية اللامعة ذات الكعب العالي، وأخيراً تمكنت هارييت والتر من تجسيد جانب من الضعف الذي كان يميز تاتشر في مسرحية “براين وماغي” Brian and Maggie لـ جيمس غراهام.
ونظراً إلى أن العمل مكتوب للإذاعة، كان الأمر الأهم هو اختيار ممثلة قادرة على نقل شخصية مارغريت تاتشر من خلال صوتها فقط. من دون الحاجة إلى التشابه الجسدي، كانت فرانسيس باربر – وهي واحدة من الأسماء المحبوبة والموقرة في هذا المجال – اختياراً ملهماً لهذه المهمة.
على رغم آرائها اليسارية الصريحة، تمكنت بسرعة من تجسيد شخصية تاتشر، وتعترف الآن أن تلك التجربة جعلتها أكثر تفهماً لسياسية تاتشر التي كانت مثار جدل، بخاصة في ما يتعلق بمشاعر عدم الأمان التي كانت تراودها كامرأة كانت دائماً تحت الأضواء. تماماً كما كانت تاتشر الحقيقية بحاجة إلى مساعدة في صوتها، كان لدى فرانسيس أيضاً مدرب صوت خاص بها وهو ستيف نالون، الرجل الذي قام بتجسيد زعيمة حزب المحافظين صوتياً في البرنامج السياسي الهزلي الناقد “صورة طبق الأصل” Spitting Image.
بينما كان ديريك جاكوبى، يضفي عمقاً خاصاً على دور مدرب التمثيل في القصة في شخصية أحد تلامذة أوليفييه وأحد أصدقائه المقربين. وكعادته في الحرص على الكمال في أدق تفاصيل عمله، أراد أن يقرأ النص لأيام عدة في منزله بشمال لندن قبل أن نبدأ تسجيل المسرحية على مدار يومين في استوديو يقع في منطقة صناعية في أكتون خلال الصيف الماضي. وتحت توجيه متمكن من ريتشارد كليفورد، تمكن ديريك من تجسيد حب أوليفييه للفن المسرحي، معبراً عن قلقه الشخصي، وإحساسه الفكاهي المميز.
إذاً، ما الشيء الذي لم نره من قبل وتضيفه فرانسيس في تجسيد تاتشر” بالطبع، قد أكون منحازاً، ولكن يمكنني القول إنها قدمت لنا فهماً جديداً لـ تاتشر، فهماً عميقاً لم يكن موجوداً سابقاً، بحيث أصبحت رئيسة الوزراء السابقة في نظرنا مجرد تجسيد مسرحي متقن. وبعد 50 عاماً من وصولها إلى الحكم، لا يزال أداؤها على المسرح العالمي حاضراً في الذاكرة ولم ينس.