حرية ـ (18/2/22025)
أيمن الغبيوي
يمكننا معرفة ما إن كنت ماسونياً أو متديناً متطرفاً أو إن كنت محباً لونستون تشرشل أو لهتلر بإيماءات يدك وشكل أصابعها الخمسة، ذلك لأن ثمة لغة شكلتها “السبابة وأخواتها”، وهي “اللغة اليدوية” التي ابتكرتها أيادي القادة المنتصرين والشعوب الحانقة وعقائد الديانات وأتباعها وأرباب أربابها.
ربما إنها لغة أفصح من اللسان، جاءت حين لا يسع المرء الحديث أو لم يسعفه الموقف ولا الكلمات، فرفع الأصابع الخمسة ليس كطي أحدها ورفع أخرى، فثمة ديانات ومعتقدات وتوجهات سياسية وفوارق بين إصبع وآخر.
والأمر أخطر من ذلك أيضاً، إذ إن هناك أصابع إن لوحت بها في بلد ما قد تقودك إلى المحاكمة والسجن، وهذه حقيقة ليست من باب التهويل.
“اللغة اليدوية”، التي باتت تنافس لغة كرة القدم التي تشترك في معرفتها الشعوب المختلفة مواطنها ولغاتها، يمكن من خلالها لثائر عربي بجوار البحر المتوسط في أقصى شمال أفريقيا أن يعرف دلالات حركة يد ثائر داخل ميانمار جنوب شرقي القارة الصفراء (آسيا)، ويمكن للاثنين معاً معرفة دوافع غضب أميركي أسود يعيش في مدينة مينيابوليس شمال الولايات المتحدة الأميركية على ضفاف الأطلسي بحركة يده دون أن يتمتم بلسانه.
دعونا نتعرف معاً على اليد ودلالات أصابعها الخمسة في الأسطر التالية:
اليد المقبوضة
في أحد شتاءات الاتحاد السوفياتي الذي ورث الإمبراطورية الروسية عام 1917 ظهرت “اليد المقبوضة” خلال ثورة شيوعية اتسمت بالعنف حين أودت بحياة الملايين من البشر، وجاءت اليد المضمومة كما لو أنها شعلة من الغضب للثوار، وكانت تلك بدايات لغة تشكلت عنها واحدة من لغات اليد وإيحاءاتها الشهيرة.
ولم تعد اليد المضمومة قبل نحو 100 عام في الأقل مرتبطة بالشيوعية والروس الثائرين، ذلك لأنها امتدت وصولاً إلى حقبة الثورة الخمينية عام 1979 التي حولت إيران من نظام ملكي تحت حكم الشاه محمد رضا بهلوي إلى نظام إسلامي، بعد تدافع الملايين من البشر نحو ساحة شهياد (ساحة الحرية حالياً) داعين بقبضتهم إلى عودة آية الله الخميني من منفاه في الريف الفرنسي، وهو ما تحقق لاحقاً خلال العام نفسه.

اليد المقبوضة إشارة للقوة والتهديد
ومذ ذلك الحين باتت تعرف اليد المقبوضة كلغة ترفعها الشعوب في مختلف دول العالم لدلالات تنضوي تحت شعار “القوة والتغيير”، وأحياناً تشير إلى الولاء حين تكون المناسبة دينية كاتباع العمائم الملونة في بلاد فارس.
الإصبع الواحد
تختلف تأويلات رفع الأصبع الواحد (السبابة) نحو السماء من موضع إلى آخر، لكنك حين تكون مسلماً وعند احتضارك فإن أتباع الديانة المسلمة يفسرون هذا على أنه أمر يُنبئ عن حسن الخاتمة، وبأنك من أهل الجنة كما يقول بذلك موروثهم الديني، تماماً كما حدث مع ما يعرف بـ”رافع السبابة” في حادثة “هجوم المسجدين” في نيوزيلندا خلال مارس (آذار) 2019، حين توفي رجل ستيني متأثراً بجراحه إثر إصابته بخمس طلقات نارية من متطرف نيوزلندي. والذي اشتهر لاحقاً بسبابته التي عدها نشطاء دلالة على حسن الخاتمة والمآل.
لكن الأمر يتفاوت إن كنت في ميدان غاضب تملأه مسيرات الآلاف من البشر الحانقين، حيث يختلف رفع السبابة إلى السماء في معناه مشيراً إلى “التهديد والوعيد”، كما هو الحال حين تكون أمام شخص غاضب فإن أول ما قد تواجهه هو إصبع سبابته الذي ينذرك بلغة تهديد أقوى من الكلمات.
وكان أشهر من رفع سبابته أثناء خطاباته الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر حين كان يعد بـ”المجد العربي” ويتوعد معارضيه.
ودفع نجل الرئيس الليبي الراحل سيف الإسلام معمر القذافي ثمن التلويح بـ”سبابته” نحو مواطنيه، إذ أشارت تقارير صحافية إلى أنه لحظة القبض عليه قطع المسلحون طرفاً من إصبعه السبابة التي ظل يلوح بها للمتظاهرين مهدداً.

كثيراً ما لوح الأمين العام لحزب الله بسبابته نحو معارضيه
ولسبابة الأمين العام لجماعة حزب الله شهرة تضاهي شهرة أمينه حسن نصرالله، حتى أن مريديه وسموا في مواقع التواصل وسماً أطلقوا عليه “الأصبع المقدس” وهو الأصبع الذي كثيراً ما أشهره في وجه مواطنيه من التيارات المضادة لولاية الفقيه، قبل أن تغتاله إسرائيل في مخبئه في الضاحية الجنوبية من لبنان إثر غارة هزت الدرك الـ14 عشر تحت الأرض.
علامة النصر
وإن كانت اليد المضمومة تشير إلى القوة والإصبع الواحد إلى “الشهادة، والتهديد” فإن رفع إصبعين نحو السماء (السبابة والوسطى) يكون دلالة على (النصر)، مُجسِّدين حرف الـ(V). ويُروى أن عرابها الأول كان رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل حين أشار بيمناه ذات يوم مشرق بالنصر، وسميت بعلامة النصر لأن حرفها الأول يأتي اختصاراً لـVictory (أي النصر باللغة الإنجليزية).
ويختلف معناها اليوم عما قبل الحرب العالمية الثانية حين كانت تعد علامة مهينة، لكن بعد ذلك دعا سياسي بلجيكي عبر هيئة الإذاعة البريطانية الشهيرة BBC إلى كتابتها على الجدران واستخدامها كرمز للمقاومة.
والحركة التي تعد اليوم واحدة من أكثر إيماءات اليد الشائعة حول العالم لها معان مختلفة بحسب الجغرافيا والناس في مشارق الأرض ومغاربها، ففي بعض البلدان كدول “الكومنولث” يعد رفع السبابة والوسطى بمثابة إشارة هجومية.

وينستون تشرشل رافعا شارة “النصر”
وثمة حكاية أخرى تزعم أن قصة علامة النصر انطلقت خلال حرب المئة عام (بين فرنسا وإنجلترا 1337 – 1453)، حين اعتُقل رماة الأقواس الطويلة الفرنسيون وقُطعت أصابعهم السبابة والوسطى حتى لا يتمكنوا بعد ذلك من استخدام “القوس والسهم”، وهو ما خلده المناصرون لهم في ما بعد برفع السبابة والوسطى للدلالة على المقاومة.
ولم يكن تشرشل وحده من اشتهر بسبابته والوسطى، فالرئيس الـ37 للولايات المتحدة الأميركية ريتشارد نيكسون أيضاً استخدم الإشارة ذاتها حين كانت تحارب بلاده فيتنام، وأصبح ريتشارد يعرف بها واستخدمها أيضاً بعد مغادرته المكتب البيضاوي عام 1974.
وحتى يومنا هذا، حين يشعر المرء بنصر بعد اختبار في الجامعة أو حين يخرج طبيب بعد بضع ساعات من عملية جراحية معقدة، تجدهما يلوحان لعدسات الكاميرا بالإصبعين معاً وابتسامة المنتصرين.
الأصابع الثلاثة
لا يبدو أن قاموس اليد وأصابعها سيقف عند حد وزمن، ففي كل زمان تخرج حركة احتجاجية أو تظاهرة حاشدة بأصابع مختلفة لتغدو بعد ذلك رمزاً للاحتجاج والمقاومة، تماماً كما كانت إشارة الأصابع الثلاثة شائعة جنوب القارة الآسيوية في ميانمار، حين لوح بها المحتجون على الانقلاب العسكري الذي حدث خلال فبراير (شباط) 2022.
وكان المحتجون رفعوا أصابعهم الثلاثة الوسطى كنوع من التعبير عن رأيهم ورفضهم للانقلاب، وهي إشارة ظهرت للمرة الأولى في أفلام “Hunger Games”، وتشير إلى التضامن داخل عالم يحارب فيه الثوار من أجل الحرية ولمواجهة الظلم.

الممرضات أول من استخدم شعار الأصابع الثلاث في بداية الحراك بميانمار
واندلعت داخل يانغون كبرى مدن ميانمار تظاهرات ضد المجلس العسكري، حين أعلن الجيش انقلابه على الحكومة بعد ادعاءات تقول إن انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) شهدت ممارسات خاطئة وتزويراً، لكنها مزاعم “بلا أدلة” وفق الحكومة.
ولم تكن الإشارة التي تداولتها وسائل الإعلام المحلية والعالمية حديثة عهد، إذ ظهرت عام 2014 عقب استيلاء الجيش على السلطة داخل تايلاند لتصبح “الأصابع الثلاثة” رمزاً لمناهضة الانقلابات أينما كانت.
الأصابع الأربعة
خلال يونيو (حزيران) عام 2013 خرجت للعالم مفردة جديدة في لغة الأصابع، وهي إشارة الأصابع الأربعة التي اتخذها مناصرو الرئيس المصري الراحل محمد مرسي قبل عزله ومحاكمته حتى وفاته، رمزاً لهم.
وكان المعتصمون الذين رفعوا أصابعهم الأربعة يشيرون بذلك إلى مسجد رابعة العدوية، وهو بالجوار غير بعيد من الميدان الأشهر الذي يحمل الاسم نفسه.

فتيات يُلوِّحن بأصابع “رابعة” في دلالة على الانتماء للجماعة الدينية المتطرفة
وتعد الإشارة المثيرة للجدل مؤشراً إلى “الانتماء” للجماعة المصنفة كمنظمة إرهابية في بعض البلدان، فحين ترفع أصابعك الأربعة المتلاصقة وأنت في ميدان تقسيم التركي أو حتى في باحة شمال العاصمة مدريد الإسبانية فأنت على الأرجح تنتمي للجماعة الدينية المتطرفة، وهذا أمر قد يقودك إلى السجن داخل بعض البلدان.
وأسهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إشهار حركة “علامة رابعة” حين رفع يده عقب كلمة ألقاها داخل مدينة تُدعى بورصة غرب تركيا، وكان ذلك عقب كلمة قال فيها “ميدان رابعة العدوية أضحى رمزاً…” على حد وصفه.
اليد المشدودة إلى الأمام
الحال كذلك في بلدان مختلفة من العالم اليوم، إذ لا يمكنك أن تشير بيدك اليمنى المشدودة إلى الأمام مع إبقاء كفك مفتوحة وذراعك مستقيمة على طريقة “التحية النازية”، ورمزيتها تشير إلى “هتلر النازي”، إذ إنها باتت رمزاً للكراهية، تماماً كما حصل مع سائحين صينيين خلال أغسطس (آب) 2017 حين اعتقلتهما السلطات داخل العاصمة الألمانية برلين بعد أن أديا التحية التي جاءت عابرة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، تعبيراً عن طاقة زعيم الحزب النازي أدولف هتلر.

الزعيم النازي أدولف هتلر (أ.ف.ب)
وتمنع قوانين ألمانيا اليوم وفقاً لقانون القسم الجنائي (86 أي) أداء التحية، وتعدها دول بولندا وسلوفاكيا وإيطاليا جريمة جنائية.