حرية ـ (18/2/22025)
من المحتمل أن يعم الجنون الجماعي والفردي، أو يصبح أكثر شيوعاً في زمن الفضاء الرقمي وشبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، كما يروج أو يتوقع معظم المعنيين، سواء من أصحاب نظريات المؤامرة أو من علماء الاجتماع والنفس وعلم الجماهير والحشود أو من المعنيين بتقنيات شبكة الإنترنت والذكاء الاصطناعي ومستقبلهما.
هؤلاء يتفقون للمرة الأولى على أن جنوناً جماعياً بات قابلاً للشيوع والامتداد داخل سائر المجتمعات المتصلة بشبكة الإنترنت، لأن المعلومات المضللة وغير الصحيحة أو التي تترك تأثيراً كبيراً في أنواع مستعدة لتقبلها من جمهور الشبكة في لحظات، تسهم في انتشار ما يمكن وصفه بالهيستيريا الجماعية، على عكس ما كان يحدث في الماضي حين كانت الشائعة أو المعلومة تحتاج إلى وقت طويل للانتشار فيكون تأثيرها مخففاً سلفاً.
وهناك أمثلة تؤكد هذه المخاوف مثل انتشار الاعتقاد بأن الأرض مسطحة، وأن الصور من الفضاء أو النزول على القمر مزيفة، أو أن انتشار فيروس كورونا من صناعة المختبرات بقصد تقليل عدد البشر، أو أن اللقاحات تحتوي على رقائق تتحكم بالدماغ، وقد قامت تظاهرات ضخمة في مدن عالمية رافضة لتلقي اللقاح.
تأثير الفقاعات المعلوماتية Echo Chambers
يرى مختصون في علم نفس الجماعة على شبكة الإنترنت، أن الهلوسة الجماعية أو الجنون الجماعي توصيف لمرض جديد ينتج من عملية تسمى “الصدى في الغرفة”، والذي ينتج من تعامل الأشخاص مع مصادر معلومات في داخل أطر وغرف ومواقع على الشبكة تعرض ما يتوافق مع آرائهم وتجذب نوعاً معيناً من الناس، مما يعزز وحدة التفكير الجماعي ويقضي على التفكير النقدي، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث ما يسمى “الهلوسة الجماعية الفكرية”.
وكانت جماعة “كيو آنون” QAnonالأميركية برزت في المرحلة الماضية كمروج لنظريات غريبة بسبب التأثير المتبادل داخل المجموعة وارتفاع عدد أعضائها ومن ثم تلقيها الدعم في عهد الرئيس دونالد ترمب في دورته الرئاسية الأولى، وقد قامت هذه الجماعة بهجوم على مبنى الكابيتول بعد إعلان نتائج الانتخابات وهزيمة ترمب فيها، معتقدين أن نتائج الانتخابات مزورة، وأن الدولة العميقة الأميركية تمنع وصول ترمب للرئاسة، وعلى رغم اعتمادها العنف كوسيلة تعبير قام الرئيس ترمب بعد فوزه في الدورة الحالية بإطلاق سراح جميع أعضاء الجماعة. هذا يدل على أن الهلوسة الجماعية باتت تجد من يساندها وتلقى دعماً سياسياً وعملياً من رئيس الولايات المتحدة نفسه أو من غيره من السياسيين المحافظين أو التقليديين.
يقول بعض علماء نفس الجماعات في شبكات الإنترنت، أن الجنون أسهل انتشاراً من العقلانية عبر الشبكة، لأن العقلانية أقل إثارة عاطفية من الجنون مما يجعل انتشارها أصعب، وربما لوقف الجنون يجب اتباع طريقة “وداوني بالتي كانت هي الداء”، أي استخدام أدوات الإثارة نفسها التي تستخدم في التضليل والخرافات، ولكن في الاتجاه المعاكس.
وتردد صدى الصوت الموحد في الفضاء الرقمي يؤدي إلى انتشار ظاهرة الهلع الرقمي أو الذعر الجماعي Digital Mass Hysteria وتحديداً عبر إشاعة الأخبار الكاذبة والمضللة كما حدث حين انتشرت معلومات عن نقص السلع الأساسية خلال جائحة كورونا حين أدى انتشار الأخبار الكاذبة إلى شراء هستيري للكمامات والمعقمات وورق التواليت في كثير من الدول، ونشبت منازعات واشتباكات بالأيدي بين المتسوقين الهلعين داخل أروقة السوبرماكت التي فرغت من هذه البضائع خلال ساعات قليلة.
تم التبليغ خلال السنوات الماضية عن حالات هستيريا جماعية في مدارس ثانوية بالولايات المتحدة وأوروبا بسبب اعتقادات غامضة انتشرت عبر الإنترنت. وهناك بعض الحركات التي تبدأ كحركات منطقية على الشبكة ثم تتحول إلى هوس جماعي غير عقلاني تحت تأثير التضامن الجماعي العاطفي حول فكرة تكون منطقية في بداياتها، كما حدث مع جماعات معارضة اللقاحات، أو مجموعات منع قتل الحيوانات من أجل لحومها. إذ سرعان ما تحولت إلى جماعة غير عقلانية في طروحاتها تحت تأثير ضغط التوافق الجماعي حول فكرة “نحن ضد الآخرين”.
ما هو الجنون الجماعي الهستيري؟
في تعريفه الحديث هو حال نفسية واجتماعية تنتشر فيها أفكار وتصرفات غير عقلانية مدفوعة بالخوف أو الهستيريا أو المعتقدات الجماعية. وتعرف “الهستيريا الجماعية” Mass Hysteria بـ”الهستيريا الوبائية”، وهي ظاهرة تنتشر فيها أعراض جسدية أو نفسية غريبة وغير مفهومة بين مجموعة من الأشخاص من دون وجود سبب طبي حقيقي، وتقغ غالباً في البيئات المغلقة مثل المدارس والمصانع أو المجتمعات المعزولة، واليوم في المنعزلات التي تعشش داخل الفضاء الرقمي وتنتشر فيه بسرعة.
ويرتبط هذا النوع من الهستيريا بالقلق الجماعي والخوف من المجهول، كما حصل في حادثة “وباء الضحك” في تنزانيا عام 1962 حين بدأت طالبة بالضحك بشكل هستيري في مدرسة داخلية وانتقلت العدوى إلى مئات الطالبات واستمرت الظاهرة لأشهر من دون سبب طبي واضح. ووقعت حال هستيريا مشابهة في العصور الوسطى حين بدأت مجموعات من الناس في أوروبا بالرقص بلا توقف حتى الموت، وقد أرجعها بعض المؤرخين إلى التأثير النفسي الجماعي، أو لتسمم بأنواع من الفطر الذي يسبب الهلوسة. وقد شرح عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون الأمر في كتابه “سيكولوجية الجماهير” الصادر عام 1895 بأن الأفراد عندما يكونون في حشد كبير يصبحون أقل عقلانية وأكثر انقياداً للمشاعر والعواطف العنيفة، فالجماهير تتصرف بجنون تحت تأثير كاريزما القيادات وخطابها الأيديولوجي المتطرف. وقد تم تصنيف الهجوم على الكابيتول عام 2021 في هذا الإطار، وكذلك الهستيريا المالية للمضاربين في أسواق الأسهم بعد وقوع فقاعات السوق مثل انهيار سوق الأسهم عام 1929، أو انهيار المصارف الأميركية عام 2008، حين راح المستثمرون يتصرفون بذعر جماعي.
هل نخاف من أن نصاب بالجنون؟
الخوف من الجنون ليس جنوناً، لكنه قد يتحول إلى اضطراب نفسي إذا أصبح هوساً مسيطراً على الشخص الذي يعتقد أن الآخرين يرونه مجنوناً أو أنه هو نفسه يرى أنه غريب ولا يشبه أفراد المجتمع من حوله.
علم نفس الشبكة يرى أنه في بعض الأحيان يكون مجرد التفكير في “ماذا لو كنت مجنوناً؟” هو جزء من الوعي الذاتي وليس بالضرورة علامة على المرض، وأن من الطبيعي أن يتساءل المرء عن حاله النفسية في فترات صعبة يمر بها كالقلق الشديد والاكتئاب. ولكن قد يصبح الخوف من الجنون شديداً ومسيطراً إلى درجة التأثير في حياة الشخص، كالمصابين باضطراب الوسواس القهري، أو أصحاب الأفكار الوسواسية المتكررة عبر طرح كثير من الأسئلة على أنفسهم مثل “هل أفكاري طبيعية؟”، “هل أفقد السيطرة؟”.
هناك مشاهير في مختلف المجالات وقعوا في مثل هذا المأزق المصنوع من تساؤلاتهم حول جنونهم الشخصي. وعرف في عالم الأدب والفلسفة الفيلسوف الأميركي إدغار آلان بو (1809-1849) الذي قضى وقتاً طويلاً في المصحات النفسية بسبب إدمان الكحول ومعاناته من نوبات اكتئاب حادة، وتوفي في ظروف غامضة بعد أن عُثر عليه في حال هذيان شديد. والأكثر شهرة هو الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844-1900) الذي دخل المصح العقلي بعد إصابته بانهيار عصبي حاد، وعاش آخر 11 عاماً من حياته في صمت تام. وهناك الشاعرة سيلفيا بلاث التي انتحرت في سن الـ30 عبر استنشاق الغاز من الفرن. والكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف (1882-1941) التي انتحرت بإغراق نفسها في نهر أوس. وعرف عن الرسام الهولندي فنسنت فان غوخ معاناته من نوبات ذهانية قبل أن ينتحر بإطلاق النار على نفسه عام 1890.