حرية ـ (18/2/22025)
هشام اليتيم
أثارت شبكة نباتية بدائية أطلق عليها العلماء اسم الميسيليوم Mycelium اهتمام العلم الحديث في وقتنا الراهن، وذلك لأنها شبكة ذكية للغاية وتشبه إلى حد بعيد شبكة الإنترنت. فهي ذات قدرات هائلة على التواصل بين أجناس النبات كافة، سواء من خلال الارتباط الجنسي المباشر بين النباتات غير متوافقة النوى أو حتى من خلال شبكة الميكوريزا – Mycorrhiza أو الميسيليوم. إذ تعتمد الشتلة الصغيرة التي تربط بواسطة هذه الشبكة من الخيوط الدقيقة على العناصر الغذائية المرسلة لها من الأشجار الأقدم والأطول التي تصل إليها باستمرار عبر هذه الشبكة، بهدف البقاء على قيد الحياة والازدهار. وتشير دراسة أجريت على أشجار “تنوب دوغلاس” إلى أن كثيراً من الأشجار نجحت في التعرف على الأطراف الجذرية لأقاربها، وفضلتهم بإرسال الكربون والمغذيات والمعلومات عبر الشبكة الفطرية.
شبكة إنترنت للطبيعة
الميسيليوم أشبه بشبكة إنترنت تملكها الطبيعة، وهي خيوط رفيعة متشابكة معقدة تحت الأرض تربط النباتات في ما يعرف بالميكوريزا. ولا يقتصر الأمر على تبادل المغذيات، بل يتجاوز ذلك إلى نظام متكامل يشمل المياه وحتى التواصل لتحذير بعضها من الأخطار. ففي حال قطع شجرة ترسل شبكة الميسيليوم إشارات إلى الأشجار المحيطة، وعلى الفور تبدأ الأشجار الأخرى في تقديم الدعم من خلال إرسال المغذيات والماء للجذع الذي أرسل الإشارة.

لاحظ العلماء أن فطر العسل يقتل ببطء الأشجار الموجودة في الغابة لتوسيع مملكته
غزل فطري
الغزل الفطري هو واحد من المصطلحات التي اعتمدتها معظم الموسوعات العلمية المصورة على الإنترنت، ومنها الموسوعة العلمية الأوروبية لتعريب هذه الشبكة العجيبة. والغزل الفطري أو المشيجة الفطرية، بالإنجليزية: ycelium هو الجزء النباتي الأخضر الذي يوجد في الفطر، الذي يتكون من جزء كبير من خيط فطري متفرع. وفي بعض الأحيان، يسمى هذا الجزء الكبير من الخيط الفطري المتفرع باسم شيرو (Shiro)، وخصوصاً حينما يكون داخل الحلقات الجينية للفطريات. وورد اسم الغزل الفطري ضمن صفحات الموسوعة الزراعية لوزارة الزراعة الجزائرية، ومن المعلومات التي وردت في هذا السياق أنه عثر على مستعمرات فطرية تتكون من الغزل الفطري يظهر في التربة أو في طبقات تحتية أخرى كثيرة، وذلك بعد أن تنبت البوغ الفردية النموذجية داخل غزل فطري متماثل النوى. وتشير الدراسات إلى أن الغزل الفطري ينتج بسبب ظاهرة نباتية فريدة، ومن نباتات لا تستطيع أن تتكاثر جنسياً! فعندما يرتبط اثنان متوافقان من الغزل الفطري متوافق النوى يشكلان غزلاً فطرياً مزدوج النواة، وفي هذه الحالة فإن هذا الغزل الفطري قد يكون ثمرة كبيرة مثل فطر عيش الغراب. وقد يكون الغزل الفطري دقيقاً، بحيث يشكل مستعمرة صغيرة جداً يتعذر رؤيتها بالعين المجردة، أو قد تكون واسعة النطاق.

الميسيليوم منتشر في كل مكان خصوصاً في الغابات
تعريف تجاري
مادة الميسيليوم مرتبطة كثيراً بمئات الأنواع من الفطر الذي دخل كثيراً في غذاء الإنسان منذ آلاف السنين، وهي وفق تعريف بعض المواقع المهتمة بهذه المادة لأهداف ربحية أكثر من كونها علمية: مادة تنتج من عملية نمو الفطر على بقايا النباتات، الذي أثناء نموه يقوم بتكوين شبكة معقدة من الخيوط الدقيقة القوية المتماسكة من مادة الكيتين التي تتداخل مع ألياف النبات نفسه لينتج في النهاية مادة مركبة طبيعية بالكامل تحمل مواصفات جديدة مشتركة. ولذلك عرفها موقع الفطر البريطاني fungus.org.uk في مقالة نشرت عام 1997 تحت عنوان “كل ما تريد معرفته عن الميسيليوم”، كونها: الجزء الأكثر أهمية والدائمة من نبات الفطر. في البداية تظهر على شكل خيوط صغيرة تنتشر، وتتكاثر وفي النهاية تشكل حصيرة أو شبكة تتخلل التربة أو الركائز الأخرى، بحثاً عن العناصر الغذائية، لذلك فإنها تشبه إلى حد ما أغصان شجرة مقلوبة تنمو تحت الأرض وثمارها هي الفطر أو الفواكه المألوفة التي نراها تخرج منها فوق الأرض.
حرفياً
كلمة ميسيليوم تعني حرفياً “أكثر من واحد”، لأنها في الواقع جمع لكلمة Mycelia، وهذه الكلمة لها أصول لاتينية ويونانية وصيغت للمرة الأولى في النصف الأول من القرن الـ19. وتشير إلى الجزء الذي يشبه خيط الفطر أو الهيفات، وهي جمع هيفاHyphea ، وهو الجزء المسؤول عن تغذية الفطر، ويمكن أن تنمو هذه الخيوط وتنتشر على مسافات كبيرة حتى في الأبعاد الثلاثة مشكلة شبكات معقدة تمكن الفطر من استغلال واستكشاف المحيط حولها، وبمجرد أن تجد مصدراً للغذاء يتشكل مما نسميه بالميسيليوم. وللتوضيح أكثر وبهدف التفريق بين شبكة الميسيليوم وثمار الفطر، يقول موقع شركة “ميسيليوم” المتخصصة في زراعة الفطر: المشروم أو عيش الغراب الذي نأكله هو في الواقع مجرد جزء صغير مرئي من الكائن الحي، والجزء الأكبر منه وهو الميسيليوم يعيش داخل ركيزة من التربة أو الخشب أو القش أو الحبوب… إلخ.
حياة أبدية
أظهرت الدراسات الحديثة أن الميسيليوم يستطيع أن يعيش للأبد، ما دام لديه الغذاء الذي ينمو فيه. وهو منتشر في كل مكان وتحت كل خطوة تخطيها في التربة، خصوصاً في الغابات، وبعضه يمكن أن يعيش في ظروف بيئية قاسية للغاية كالصحراء. لذلك ليس من الغريب وفق دراسات علمية، قد يكون ظهر ما هو أحدث منها الآن، أن أقدم وأكبر كائن حي فردي معروف على الأرض هو ميسيليو فطر العسل Honey fungus في جبال شرق ولاية أوريغون الأميركية بعمر ناهز 2400 سنة ومساحة تصل إلى 2200 فدان. ولاحظ العلماء أنه يقتل ببطء الأشجار الموجودة في الغابة وذلك لتوسيع مملكته، كما أظهرت دراسات وإحصاءات نشر جزء منها على موقع “الفطر البريطاني” في المملكة المتحدة قبل أعوام قليلة أن الميسيليوم قادر على الارتباط بعلاقة حميمية وخاصة جداً مع 70 إلى 90 في المئة من جميع النباتات على وجه الأرض. إذ يربط نفسه بجذور النباتات، إما عن طريق اختراق الجذور أو بتغليفها من الخارج. وتأتي هنا عملية تبادل الغذاء بين الميسيليوم والجذور، وهي علاقة تكافلية تعمل في كلا الاتجاهين، فالميسيليوم يتغذى على السكريات التي تنتجها النباتات من التمثيل الضوئي، في المقابل يعطي النباتات المياه والمعادن، التي تعجز عن الوصول بنفسها إلى ما يكفيها من التربة، فيصنعون معاً نباتاً أفضل وتربة أحسن. وهذا الأمر عده العلماء مكسباً لكليهما، بل إنه في الحقيقة مكسب للعالم بأسره. ويمكن للميسيليوم – الذي يكون بحجم متر مثلاً أن ينمو له تريليونات التفرعات، فيعمل كشبكة الإنترنت في تصميمه ووظائفه أيضاً، فهو المسؤول عن نمو شتلة صغيرة في ظل غابة كثيفة، إذ لا يصل إلا قليل جداً من الضوء إلى أوراقها الصغيرة.