حرية ـ (20/2/22025)
أحد الأسئلة التي طرحت، وبقوة في الفترة الأخيرة في الداخل الأميركي، لا سيما مع عودة الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض هو ذاك المتعلق بمسألة الانتماءات الشخصية لساكن البيت الأبيض، أي معتقداته الدينية والإيمانية، وكيف لها أن تؤثر في توجهاته الفكرية والسياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي دفعة واحدة.

حل المهاجرون الأوروبيون الذين أقلتهم السفينة الشهيرة “ماي فلاور” وحطت بهم في منطقة ماساتشوستس
هل من تضاد في هذا الطرح بين الرؤية الإيمانية القائمة والقادمة منذ أن حل المهاجرون الأوروبيون الذين أقلتهم السفينة الشهيرة “ماي فلاور” وحطت بهم في منطقة ماساتشوستس؟ وبين أميركا التي كتب آباؤها المؤسسون في بداية “وثيقة الاستقلال” نحن الشعب؟
الحديث عن الشعب يعني المكافئ الموضوعي للمواطنة التي تجيب كل أحاديث عن الانتماءات الطائفية أو الدينية، غير أنه ومن الثنائية الأميركية التقليدية يلاحظ المرء الكلمات المطبوعة على الدولار الأميركي “نحن نثق في الله”، وتالياً ستضاف مفاهيم من نوعية “أميركا تحت قدر الله”، لتخلق واقعاً جديداً ومغايراً تماماً عن تلك التي يتحدث عنها الدستور الأميركي، والتي تفصل بين الحياة الدينية الإيمانية، والممارسات الوظيفية من أصغر عمدة في ولايات الغرب، مروراً بالجنوب عند تكساس وصولاً إلى اختيار الرئيس الأميركي.

يمكن للقارئ أن يتساءل “هل ترمب رئيس مؤمن؟”
هل كانت المفاهيم الإيمانية، على رغم هوية الدولة العلمانية، عاملاً محدداً لكثير من التوجهات الشخصية لرؤساء أميركا، من عند جورج واشنطن، أول رئيس، وبطل حرب الاستقلال، حتى الرئيس الحالي دونالد ترمب؟
كيف لعبت المقدرات العقائدية دوراً مهماً في حياة علامات بارزة سكنت البيت الأبيض، من عينة أبراهام لنكولن ودوايت أيزنهاور ورونالد ريغان، والثلاثة يمثلون حقباً تاريخية مختلفة، ومع ذلك نجد البصمات الروحية قائمة بصورة لا يمكن إنكارها في مساراتهم السياسية؟
ما الذي يستدعي هذا الحديث في الوقت الحاضر؟
ترمب وإفطار الصلاة الوطني الأخير
المؤكد أن يوم إفطار الصلاة الوطني الأخير، ذاك الذي شهده البيت الأبيض، نهار الخميس في السادس من فبراير (شباط) الجاري، وما دار فيه ومن حوله من قبل الرئيس ترمب، هو الداعي الرئيس إلى فتح هذا الملف الشائك، وعرفت واشنطن هذا التقليد منذ عام 1953، ولا عجب أن يبدأ هذا التقليد في عهد الرئيس دوايت أيزنهاور، الرجل الذي ستكون له قصة إيمانية دينية مثيرة سنتوقف معها لاحقاً.
ولأكثر من 70 عاماً تجتمع في واشنطن مجموعة لا تقل عن 1500 شخص من المشرعين من الحزبين، ومن رجال الدين الأميركيين، وكثير من الضيوف المهمين من حول العالم يدعون بشكل خاص إلى هذا الإفطار. حديث ترمب هذا العام أعاد إلى الأذهان إشكال التشارع والتنازع بين أميركا المؤمنة وتلك العلمانية.
طرح ترمب رؤيته كمولود جديد، وهو مصطلح مثير يعرفه أولئك الذين لديهم دالة على فهم المذهب البروتستانتي في الحياة المسيحية، وعادة ما يرتبط بحدث ما يجري في حياة الإنسان، يغير من أوضاعه ويبدل من طباعه، ومن الطبيعي أن يتكلم ترمب هكذا، متخذاً من محاولتين للاغتيال حدثتا العام الماضي، ونجا منهما، مما جعله يقر بأن “الأمر أعادني إلى الله من جديد، شيء ما تغير داخلي، هذا ما أشعر به”، وتابع “أشعر الآن بأنني أصبحت أقوى، كنت أؤمن بالله، ولكنني أشعر الآن بأنني أصبحت أقوى بكثير، لقد حدث شيء ما”.
ويمكن للقارئ أن يتساءل “هل ترمب رئيس مؤمن؟ وهل يحق له أن يستدعي الروح الإيمانية إلى قلب الحياة السياسية الأميركية من خلال الربط بين حادثة إجرامية كادت تودي بحياته من جهة، وتعظيم الاستفادة من الأمر من جانب آخر؟ وهو أمر مؤكد في انتصاره السياسي الكبير الذي سحق ومحق فيه منافسته كامالا هاريس التي اتخذت بعض المواقف وأطلقت عدداً من التصريحات المناوئة للفكر الديني، مما اعتبره البعض عاملاً مساعداً في تلقيها هزيمة قاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024؟
ترمب المشيخي أم اللاطائفي؟
مرة أخرى تطفو الازدواجية في الحياة العامة الأميركية، وبنوع خاص في سيرة مسيرة الرئيس ترمب، الرجل المدان بجرائم أخلاقية، مثل أموال الصمت المدفوعة في قضية الممثلة ستورمي دانيالز، عطفاً على عشرات القصص المنفلتة على هذا المنوال، ودائماً ما كان ترمب يعرف نفسه على أنه أحد أتباع المذهب المشيخي، أو “البريسبتاريان” وهو مذهب بروتستانتي يتبع تعاليم العالم اللاهوتي البروتستانتي جون كالفين، وترجع أصول هذا التوجه المسيحي إلى أوروبا واسكتلندا تحديداً، والقرن الـ16 بنوع خاص، ويمكن اعتباره فرعاً من فروع مارتن لوثر المنشق على الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، والثابت أنه حتى عام 2020 كان الرئيس الأميركي يعرف نفسه على أنه أحد أتباع الكنيسة المشيخية، غير أنه لاحقاً، وفي بيان مكتوب له، قال إنه لم يعد يعتبر نفسه من أتباع المذهب المشيخي، ويرى نفسه الآن مسيحياً غير طائفي.
هذه التصريحات جاءت في نوفمبر 2020، أي قبل نهاية ولايته الأولى، وجرت عبر المكتب الصحافي للبيت الأبيض، ووقتها كان فيروس “كوفيد-19” يسبب حالة من الهلع في الداخل الأميركي، “والداي علماني أهمية الإيمان والصلاة منذ سن مبكرة، وقد زرت أنا وميلانيا بعض الكنائس الرائعة واجتمعنا مع قادة دينيين عظماء من جميع أنحاء العالم”، هكذا تحدث ترمب.
على أن إيمان الرئيس المسيحاني ولا طائفيته باتا أمراً يخرج من إطار الشؤون الخاصة به، إلى السياق العام الذي يتقاطع مع كثير من القضايا المثيرة للجدل في الداخل الأميركي، وتالياً بالضرورة في الخارج.
على سبيل المثال اصطدم ترمب وإدارته بالفعل مع عدد من الزعماء الدينيين، بما في ذلك عدم موافقته على خطبة القس ماريان بودي في اليوم التالي لتنصيبه، عندما دعت إلى الرحمة لأعضاء مجتمع “الميم”، والمهاجرين الموجودين في البلاد بشكل غير قانوني.
لم يوارِ أو يدارِ ترمب مواقفه من التحول الجنسي، وأعلن أكثر من مرة أن الله خلق نوعين فقط من البشر ذكراً وأنثى ولم يخلق جنساً ثالثاً، ولهذا كانت من أوائل أوامره التنفيذية قطع التمويل على برامج التنوع والتعدد، التي اتهمت إدارة الرئيس السابق جو بايدن بالوقوف وراءها.
وغيرت توجهات ترمب الإيمانية من كثير من أوضاع العملية التعليمية في المدارس الأميركية، عطفاً على وقف المساعدات التي كانت تقدمها الوكالة الدولية للتنمية لكثير من الدول التي تعاني الانفلات الجنسي، أما القصة الكبرى التي بدأت فصولها صباح ذلك الإفطار، وحكماً ستتوالى فصولها فتتعلق بإعلانه عن إطلاق فريق عمل لاستئصال ما سماه “التحيز المناهض للمسيحية” في الحكومة، وإنشاء مكتب إيمان البيت الأبيض بقيادة القسيسة باولا وايت كين، مما يعده بعضهم تتويجاً لصحوة دينية حديثة في الداخل الأميركي، فيما يرى فريق مغاير زخماً للتاريخ المتطرف للقومية المسيحية البيضاء، ما يمكن أن ينجرف بالبلاد في مرحلة مواجهات عقدية دوغمائية، لا سيما مع اليسار، وهذه قصة قائمة بذاتها.
هل ترمب يمثل طفرة في تاريخ الانتماءات السياسية للرؤساء الأميركيين عبر نحو 250 عاماً؟ أم أنه تسلسل فاعل في تاريخ هذه الأمة المثيرة للتفكير؟

في حين لم يتهم أي مؤرخ محترم جورج واشنطن بأنه ملحد، فإن بعضاً من كتاب سيرته يقللون من معتقداته الدينية
الانتماءات الدينية للرؤساء السابقين
كان من الطبيعي أن يمر معظم رؤساء أميركا إلا حفنة أقل من أصابع اليد الواحدة، من الدائرة البروتستانتية، إذ كانت غالبية الهجرات التي رحلت من أوروبا قاصدة أرض “كنعان” الجديدة، الشديدة الانتماء لهذا التوجه المسيحي الرافض كنيسة روما، حتى وإن عرفت الولايات المتحدة الأميركية لاحقاً هجرات من دول كاثوليكية المذهب.
انتمى غالبية الرؤساء الأميركيين إلى المعتقدات البروتستانتية، وزار كل رئيس أميركي من جيمس ماديسون كنيسة القديس يوحنا، وهي كنيسة أسقفية في واشنطن العاصمة، عبر ساحة “لافاييت” وشمال البيت الأبيض.
بدا جلياً خلال العقود التي مرت منذ تأسيس الولايات المتحدة الأميركية وحتى الساعة، أن الانتماءات الدينية يمكن أن تؤثر تأثيراً فاعلاً جداً في القابلية للانتخاب لأي رئيس أميركي، كما تشكل مواقفهم في شأن القضايا السياسية ورؤاهم للمجتمع وكيف يريدون قيادات، وفي أي اتجاه.
لم يذكر التاريخ الأميركي أن رئيساً ملحداً قد أعلن رسمياً عن إلحاده، ورشح نفسه رئيساً لأميركا، مما يعني أن الربط بين الإيمان الشخصي للرئيس وجماهيريته أمر بات مفروغاً منه.
على سبيل المثال، حاول خصوم توماس جيفرسون وأبراهام لنكولن وويليام هوارد تافت اتهامهم بأنهم ملحدون من أجل هزيمتهم في معاركهم الانتخابية الرئاسية، غير أن الأمر لم يفلح.
هذا الأمر تكرر قبل بضعة أعوام مع الرئيس ترمب نفسه، فقد أظهر استطلاع للرأي خلال ولايته الأولى أن 63 في المئة من الأميركيين لا يعتقدون أنه متدين، على رغم انتمائه المسيحي المعلن.

مساعد آخر للنكولن جون هاوي كتب “لم يكن لنكولن ينتمي إلى أي كنيسة، ومع ذلك كان قديساً غير معترف به من قبل جميع الكنائس”
لم يكن الرئيس الأميركي وحده من تعرض لهذه المعضلة، فقد راجت في واشنطن إشاعات كثيرة من حول باراك أوباما تشكك في هويته الإيمانية، وروج أنصار اليمين الذين لم ينفكوا يتهمونه بأنه اشتراكي وشيوعي، لكونه كان مسلماً في زمن ترشحه للرئاسة.
وفي التاريخ القريب أيضاً، بدا أن الهوية الإيمانية لبعضهم قد دعمته وزخمته في مسيرته نحو البيت الأبيض، وهذا ما حدث مع الرئيس جيمي كارتر في عام 1976، وقد كان بالفعل رجلاً معمدانياً صادقاً في توجهاته الروحية، وعلى رغم أن الحظ السياسي لم يوف له في مواجهة رونالد ريغان عام 1980، فإنه ظل رمزاً للحياة الإيمانية المخلصة، مما جعله يكسب احترام الشعب الأميركي طوال 45 عاماً من بعد رحيله عن البيت الأبيض وحتى رحيله في يناير (كانون الثاني) الماضي.
وبصورة عامة يمكن وصف جميع الرؤساء الأميركيين تقريباً بأنهم مسيحيون، في الأقل من جهة التربية، على رغم أن بعضهم لم يكن منتمياً إلى أي طائفة مسيحية بعينها، مع هيمنة واضحة للتوجه البروتستانتي التقليدي، وانتشار أتباع التيار الأسقفي والمشيخي.
من ناحية أخرى هناك كثير من الرؤساء الذين اعتبروا أنفسهم منحازين إلى كنيسة معينة، لكنهم امتنعوا عن الانتماء الرسمي لبعض الوقت، على سبيل المثال اعتبر جيمس بوكانان الرئيس الـ15 في تاريخ الرؤساء الأميركيين، اعتبر نفسه متحالفاً مع الكنيسة المشيخية، لكنه امتنع عن الانضمام إليها حتى ترك منصبه.
يذكر التاريخ الأميركي أن رئيسين فقط كانا من الكاثوليك، جون كيندي وجو بايدن، فيما بدأ ريغان حياته بالفعل كاثوليكياً، غير أنه تحول لاحقاً بحسب بعض المراجع الأميركية.
هل من أمثلة أكثر عمقاً عن دور الانتماءات الدينية في حياة الرؤساء الأميركيين عبر التاريخ؟
دعونا نتوقف مع مثالين من الماضي البعيد، جورج واشنطن بطل حرب الاستقلال وأحد الآباء المؤسسين، ومن الحديث رئيسان فاعلان جون كينيدي الكاثوليكي المغدور، ورونالد ريغان الذي تعتبر ولايتاه أهم تجربة سُخرت فيهما التوجهات الدينية في الحرب الباردة ضد الشيوعية، التي أفلحت كثيراً جداً وانتهت بتفكيك حلف “وارسو” خلال رئاسة خلفه الذي كان نائبه لثمانية أعوام، جورج بوش الأب.
جورج واشنطن… حفيد قس أنغليكاني
هل كان أول رئيس للبلاد مسيحياً أم لا؟ تساؤل حار فيه كثير من المؤرخين الأميركيين.
في حين لم يتهم أي مؤرخ محترم واشنطن بأنه ملحد (في الأقل في الأعوام الأخيرة)، فإن بعضاً من كتاب سيرته يقللون من معتقدات واشنطن الدينية إلى ما هو أكثر قليلاً من الخضوع النفعي لبعض المفاهيم الصوفية المجردة لـ”العناية الإلهية”، وهي كلمة كانت مفضلة لدى واشنطن.

لقد حير الجدل الديني كينيدي
يجسد المؤلف الحائز جائزة “بوليتزر” جوزيف إليس هذا الاتجاه، فيقول إن “واشنطن لم يكن مسيحياً” بالمعنى التقليدي للمصطلح، فقد كان يعتقد أن الله “قوة بعيدة غير شخصية، والمنبع المفترض لما يمكن أن نسميه القدر هو العناية الإلهية”، غير أن المؤكد هو أن واشنطن نشأ في الكنيسة الأنغليكانية، المذهب الرسمي لولاية فرجينيا، وكان حفيداً لقس أنغليكاني، وقد نال سر العماد وهو طفل، وظل نشطاً إلى حد ما في الكنيسة الأنغليكانية لبقية حياته، غير أنه ليس من الواضح ما إذا كان قد فعل ذلك بدافع الإيمان أو بدافع الضرورة، إذ كان الانتماء الديني شرطاً افتراضياً في كثير من مجالات حياته.
على سبيل المثال، من أجل تولي منصب في ولاية فرجينيا في العصر الاستعماري، كان على المسؤولين أن ينتموا إلى ديانة الدولة، وأن يتعبوا عقيدتها ويتجنبوا الاختلاف معها.
غير أن هناك كثراً من المؤرخين يجمعون على أن واشنطن حين أصبح شاباً انتمى إلى المحفل الماسوني في فرجينيا، تلك المنظمة أو الأخوية السرية، التي كانت في ذلك الوقت بمثابة نقابة للنخبة في العالم القديم، تؤكد التحسين الفكري والروحي والأخلاقي، والتي كانت تحظر على أعضائها في ذلك الوقت أن يكونوا ملحدين أو ليبراليين غير متدينين، وفقاً لدستورها، وألزمتهم الالتزام بدين من اختيارهم، وقد ظل ماسونياً لبقية حياته.
تاريخياً وفي أواخر عام 1789 أصدر واشنطن، ما وصفه بعض المؤرخين منذ ذلك الحين، بأنه أول أمر تنفيذي على الإطلاق، وقال إن آخر يوم خميس من نوفمبر سيكون يوماً للشكر والصلاة إيذاناً بنهاية حرب ثورية وحشية.

يحتاج الحديث عن الانتماءات الدينية للرئيس الأميركي رونالد ريغان إلى قراءة مطولة قائمة بذاتها
غير أن إعلان واشنطن عن عيد الشكر الذي يتألف من 456 كلمة يعطينا بعض الدلائل حول كيفية رؤيته القوة الأعلى، فقد كتب يقول “من الواجب على كل الأمم أن تعترف وتطيع وتشكر الله القدير”، وواصل شرحه قائلاً: إن هذا الإله نفسه “كائن عظيم ومجيد”، وهو “المؤلف المحسن لكل الخير الذي كان أو هو الذي سيكون”.
وعلى مدى الأعوام الـ25 الأخيرة من حياته، وبينما كان يسعى إلى إدارة 13 مستعمرة متمردة، في كثير من الأحيان كان واشنطن يدعم باستمرار التسامح بين التقاليد الدينية المختلفة علنا وبشكل فردي.
تكتب المؤرخة ماري تومسون أن هذا كان شيئاً اعتبره “صفة فريدة وأساساً في الولايات المتحدة الجديدة” أي الحرية الدينية.
لنكولن… القديس غير المعترف به
من أفضل الكتابات التي قدمت عن أبراهام لنكولن، تلك التي كتبها ويليام وولف عالم اللاهوت الأسقفي في عام 1959، وفيها حديث مطول عن الرجل بوصفه لا يزال لغزاً دينياً محيراً لكل من حاول الاقتراب منه. وكتب جون ج نيكولاي مساعد لنكولن يقول “كانت الرحمة والتسامح الأساس الحقيقي لشخصيته، كانت طبيعته متدينة للغاية، لكنه لم ينتمِ إلى أي طائفة دينية”، وكان يؤمن بالعدالة الأبدية ورحمة العناية الإلهية اللامحدودة، وجعل القاعدة الذهبية للمسيح عقيدته العملية “ما تحبون أن يفعل الناس بكم… افعلوا أنتم أيضاً بهم”.
مساعد آخر للنكولن جون هاوي كتب عن السيد لنكولن يقول “لم يكن لنكولن ينتمي إلى أي كنيسة، ومع ذلك كان قديساً غير معترف به من قبل جميع الكنائس، لم ينطق لنكولن قط بصلاة علنية، ومع ذلك فإن الصلوات من أجله قيدت قضيتنا يومياً بسلاسل ذهبية حول أقدام الله”.
كتب مساعد ثالث، المعمداني ويليام أو ستودارد “كان الرئيس لنكولن متديناً بعمق وصدق من دون أن يكون، بأي حال من الأحوال، ما يمكن أن نطلق عليه متديناً، كان دينه في إيمانه وحياته وليس في أي مهنة. في الحقيقة لم يكن دين لنكولن تقليدياً أبداً، كان غير تقي في طفولته على رغم أن والديه كانا متدينين، وبينما قبل في أوائل حياته عقيدة مناهضة للعبودية في كنيسة ليتل بيجون كريك المعمدانية التي نشأ فيها، إلا أنه لم يتبنَّ عقيدة القدرية الكالفينية. كان يعبد على مذبح العقل والقانون، كان العقل، بالنسبة إلى السيد لنكولن، ملاذاً في عالم غير معقول، كانت قوة الإنسان محدودة، لكن الله كان كلي القدرة بالنسبة إليه عندما كان شاباً”،
تشكلت مواقف لنكولن تجاه الدين في الأصل من خلال حضوره في كنيسة “ليتل بيجون كريك” قرب منزل طفولته في ولاية إنديانا.
كتب العالم المتخصص في تاريخ حياة لنكولن أم أل هاوزر “كان أعضاء جماعة ليتل بيجون كريك يعارضون الخدمة الدينية المدفوعة الأجر، وكانوا أيضاً مناهضين بشدة للتبشير”.
ورداً على الإشاعات التي اتهمته بأنه ملحد، كتب لنكولن بياناً عاماً غير عادي قال فيه “لقد انتشرت تهمة في بعض أحياء هذه المنطقة، مفادها بأنني أسخر علانية من المسيحية، إنني لست عضواً في أي كنيسة مسيحية، وهذا صحيح، لكنني لم أنكر أبداً حقيقة الكتاب المقدس، ولم أتحدث أبداً بتجاهل متعمد للدين بشكل عام أو لأي طائفة مسيحية بشكل خاص”.
أما المؤرخ روي د باكارد فقد كتب يقول “إن لنكولن قاوم العقائد والأشكال لأنه لم يستطع التوفيق بينها وبين تفكيره الخاص في ما ينبغي أن يتألف منه الدين، ولم يكن عقله المستقصي منفتحاً قط على ما لم يستطع اختزاله في عناصر أساس”.
لكن على رغم هذا كله قدم لنكولن لبلاده واحدة من أهم الخدمات التي تذكر في التاريخ من منطلق إيماني، خدمة تحرير العبيد وإلغاء العبودية، وهو شأن ينبع من نفس ممتلئة بالروح الدينية والإيمانية، فكانت أهم خطوة في تاريخ السياسات الداخلية الأميركية.
كينيدي وراء صعود اليمين المسيحي
كان التحيز ضد الكاثوليك لا يزال منتشراً في التيار الرئيس للحياة الأميركية عندما قرر جون كينيدي الترشح للرئاسة عام 1960 .
لم يكن هناك سوى كاثوليكي واحد، وهو حاكم نيويورك ألفريد سميث الذي حاول الترشح عن أحد الحزبين الرئيسين، وكانت حملة سميث عام 1928 مثاراً لادعاءات أنه سيبني نفقاً يربط البيت الأبيض بالفاتيكان، وأنه سيعدل الدستور لجعل الكاثوليكية الدين الرسمي للبلاد، وقد هزم سميث هزيمة ساحقة، بل وخسر جزءاً كبيراً من الجنوب الديمقراطي المتماسك آنذاك.
في أوائل الستينيات كان من اليسير أن يعترف العالم بيهودي رئيساً لبلدية دبلن، وبروتستانتياً يمكن انتخابه وزيراً لخارجية فرنسا، ومسلماً يمكن انتخابه عضواً في البرلمان الإسرائيلي، لكن كاثوليكياً يمكن انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، فهذا هو المستحيل بعينه.
في النهاية وبعد حملة قوية شملت استخداماً مكثفاً لثروة عائلته الشخصية فاز كينيدي بغالبية 93 ألف صوت مقابل 61 ألف صوت، وأعلن “أعتقد أننا دفنا قضية الدين إلى الأبد لكنه كان مخطئاً”.
في سبتمبر (أيلول) اجتمعت مجموعة من 150 قساً بروتستانتياً في واشنطن، وأعلنوا أن كينيدي لا يمكنه البقاء مستقلاً عن سيطرة الكنيسة الكاثوليكية ما لم يذكر تعاليمها على وجه التحديد.
لقد حير الجدل الديني كينيدي، صحيح أنه نشأ في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، إلا أن كينيدي لم يكن ميالاً إلى التدين، ففي نوبة غضب شبابية أثار فضيحة والديه ذات يوم، عندما هدد بالتخلي عن الكنيسة، وكانت علاقات كينيدي النسائية سراً مكشوفاً بالفعل، إلا أنه كان بالنسبة إلى البروتستانت اليمينيين متعصباً متديناً وعميلاً مزدوجاً للكنيسة الرومانية الكاثوليكية.
ألقى كينيدي خطابه التاريخي في تكساس، الذي سيعد بمثابة خطاب يشعل فتيل صعود اليمين المسيحي ويستبق به تيار المحافظين الجدد، أولئك الذين سيكتبون وثيقة القرن الأميركي بعد ثلاثة عقود ونصف العقد عام 1997 تحديداً.
في خطاب تكساس هدأ كينيدي الكاثوليكي من مشاعر البروتستانت المشتعلة، وسيكون لهذا الخطاب لاحقاً أن يستشهد به مرات لا حصر لها باعتباره أحد أوضح الدعوات للفصل بين الكنيسة والدولة، ناهيك بالحرية الدينية.
نال كينيدي تصفيقاً حاراً في تلك الليلة في هيوستن، لكن ذلك لم يهدئ من روع الملايين من البروتستانت في الداخل الأميركي، فقد كانوا يخشون من أن تكون الكاثوليكية في روما، فرعاً من التيارات اليسارية، عطفاً على أنه، كان العداء لا يزال محتدماً بين يهود أميركا والفاتيكان، مما لم يتم تصويبه إلا بعد عامين من اغتيال كينيدي أي عام 1965 من خلال ما عرف بالمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
خلال رئاسته بدا كينيدي رئيساً أميركياً بمسحة كاثوليكية لم يقدر له أن يخلص منها، وربما هذا هو ما سمح لأزمة صواريخ كوبا أن تنتهي بسلام، ومن غير الدخول في حرب عالمية نووية، فقد ورث جينات المقدرة على الحوار، التي تميز الشخصية الكاثوليكية، عوضاً عن الرؤى المتشددة لكثير من التيارات اليمينية البروتستانتية، وبذلك تكون ميوله الدينية قد جنبت أميركا والعالم أهوالاً لم يكن لأحد أن يواجهها أو يجابهها.
ما الذي يتبقى في هذا الحديث؟
إيمان ريغان ونصر “الناتو” المؤازر
يحتاج الحديث عن الانتماءات الدينية للرئيس الأميركي رونالد ريغان إلى قراءة مطولة قائمة بذاتها، لا سيما أن تيار اليمين الإنجيلي الذي نشأ في عهده، هو الذي أثمر لاحقاً في التسعينيات، وبعد انتصار كبير على الاتحاد السوفياتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي.
ولعله من نافلة القول إن فهم المخيال الديني لرونالد ريغان لا بد من أن يمر عبر كتاب “تصحيح الحلم الأميركي: كيف قامت وسائل الإعلام بتعميم رؤية ريغان الإنجيلية”.
ريغان الذي بدأ حياته كاثوليكياً تحول إلى المذهب الإنجيلي لاحقاً، وخلال عهده تغيرت تفاصيل الخيال الديني السائد في البلاد وبدت أعوام ريغان كعمق المواجهة مع الاتحاد السوفياتي وحلف “وراسو”، وفي هذا الوقت وجد من حوله أساطين من الفكر الديني المسيحاني، وأصحاب نظرية الحكم الألفي والمجيء الثاني، أولئك الذين أقنعوه أن قيام الساعة بحسب المفهوم المسيحي “الإسكاتولوجي”، أي نهاية الأزمنة على الأبواب، وأن الأمر لا بد من أن يحدث في زمنه، وكان في مقدم هؤلاء جيري فالويل وبات روبرتسون وليندسي هال، وغيرهم من الذين كانوا وراء شحذ عقله بالمعركة التوراتية الكبرى المنتظرة، معركة “هرمجدون”.
عرفت رئاسة ريغان بأنها العهد الذهبي للعلاقات بين الفاتيكان وواشنطن، وقد مرت عبر مدير الاستخبارات المركزية ويليام كيسي الذي كان تلميذاً في منطقة ستاتن آيلاند بنيويورك تلميذاً للرهبنة الكاثوليكية اليسوعية، ونمت هذه العلاقة ولعبت دوراً هائلاً وقوياً في عهد البابا يوحنا بولس الثاني، وكان المسمار الأول الذي دق في نعش الشيوعية من خلال تمويل الفاتيكان لنقابة تضامن العمال برئاسة ليش فاليسا في ميناء غدانساك في بولندا أوائل ثمانينيات القرن الماضي.
في ديسمبر (كانون الأول) 2018، اكتشفت الصحافية كارين تومولتي، من صحيفة “واشنطن بوست” بصورة رائعة، رسالة غير منشورة من رونالد ريغان يوصي فيها بالإيمان المسيحي لوالد زوجته الملحد والقلق والمحتضر.
هل من مفارقة هنا؟
نعم، ذلك أنه قد رُفض ريغان في بعض الأحيان باعتباره شخصاً متديناً ظاهرياً فحسب، ولكنه استخدم الخطاب الديني لتحقيق مكاسب سياسية.
كان من المفترض أنه كان من دعاة الدين المدني فحسب، لكن الرسالة الطويلة الخاصة تكشف عن أن إيمانه كان غنياً وعميقاً.
هل هي أميركا العلمانية الهوية المغرقة في الهوى الديني؟