حرية ـ (20/2/22025)
أمين الزاوي
لم يكتب في الثقافة العربية عن الخبز شيء يذكر مع أنه سبب اندلاع حروبنا وسبب ثوراتنا وهجراتنا وسبب أرقنا وسبب عرقنا.
حين أفكر في الخبز أفكر في أمي وأفكر في نساء قريتي وأتذكر محفظتي المدرسية التي كنت كل صباح أدس بين دفاتري فيها قطعة خبز أسد بها رمقي عند الظهيرة، في الاستراحة ما بين الفترة المدرسية الصباحية والمسائية.
في قريتي منذ أن وعيت العالم من حولي، وجدت الناس رجالاً ونساءً وشيوخاً وشباباً يحلفون على الخبز، والقسم على الخبز هو أعظم قسم وأصدقه بين اثنين، فمن أكل من خبز فلان لقمة أو شدقاً لا يخونه ولا يخذله أبداً. ولعل العبارة التالية التي تتكرر بين الناس والتي تقول “بيننا ملح وخبز” تعني في ما تعنيه أن العلاقات متينة بين شخصين، لا يفسدها مال ولا تجارة ولا أسفار ولا عمر.
وحضور الخبز على المائدة هو رمز يوحي بأن شبح الجوع مبعد وكل دار بها خبز هي دار آمنة ومكتفية وكافية، هكذا كان يقول الرجال وهكذا كانت الحال.
في البدء كان الخبز وفي الختام يكون.
حين يحضر الخبز على المائدة البسيطة تحضر القناعة وعلى الوجوه تتجلى السعادة الكبرى في أبهى صورها، هكذا كان العالم. ففي الخبز آية للخير، ينظر إليه الإنسان بين يديه أو على مائدته فيشعر بأن السماء رحيمة.
وشيئان مقدسان، قطعة الخبز والورقة المكتوبة بالعربية لا ترمى على الأرض أبداً، فإذا ما صادف أحدهم قطعة خبز أو ورقة مكتوبة بالعربية يرفع هذه وتلك، ويقبل هذه وتلك ويضعها في مكان عالٍ أو في شق بجدار.
من في بيته خبز لا يذل أبداً، هكذا يقول الحكيم.
وكان للخبز طعم آخر لا يشبه بالمطلق طعم خبز اليوم، مع أن الدقيق مستخرج من القمح نفسه والقمح لم يتغير لكن الخبز تغير كثيراً، أو نحن الذين تغيرنا؟
اليوم أصبح حضور الخبز على موائدنا حضوراً غير لافت نهائياً، فحضوره مثل “لا حضوره”!
في قرية طفولتنا، كما في القرى المجاورة جميعها، لم تكُن هناك مخبزة تبيع الخبز يتجمع عند بابها طابور الرجال والنساء والأطفال في كل وقت كما هي الحال اليوم، فالخبز لا يباع أبداً، الخبز يعجن ويطهى في البيوت على نار مقدسة ومباركة، والخبز رائحة عطرة تفوح في البيت فتنعش الجميع قبل الأكل.
وتبدأ سردية الخبز بيوم الطحن ويوم الطحن يوم مثير، فبعد تنقية وغسل وتيبيس حبوب القمح والشعير، ينقل أهالي القرية والقرى المجاورة أكياس قمحهم وشعيرهم إلى المطحنة الوحيدة في المنطقة، ويحملونها على ظهور البغال أو الحمير، وتعمل المطحنة يومين في الأسبوع، يوم للقمح ويوم للشعير، مطحنة أولاد هارون، وحين يعود القمح أو الشعير للبيت طحيناً، تدخل أمي يدها في الكيس وتأخذ حفنة دقيق بين يديها وتدعكها جيداً بين أصابعها، تشمها، ثم تصدر حكمها عن جودة الطحين، فمرات تراها تستنكر قائلة “هذا ليس طحيناً، هذا تراب!”، ومعنى ذلك أن الخبز الذي سيصنع منه سيكون من دون مذاق ومن دون شكل، ومرات تأخذ الحفنة فتضيء شعلة ابتسامة وجهها الجميل وتلك علامة على أن الدقيق جيد وسيعطي خبزاً شهياً، ولم تكُن أمي لتخطئ أبداً.
في قريتنا، كما في القرى الأخرى جميعها، كانت أمي كما النساء جميعهن تخبز يومياً في بيتنا، ولم أسمعها يوماً تشتكي من ذلك، شتاء وصيفاً، فيبدأ موعد عجن الدقيق صباحاً باكراً، وكنت أرى أمي وهي جالسة تدلك العجين وتدندن، وبعد الدلك والخلط يوضع العجين في قصعة تغطى بمنديل خفيف أيام الصيف الحارة وبغطاء صوفي خشن أيام البرد، ويلف العجين كما يلف الأطفال الصغار أو الرضع ويترك العجين ساعة أو أكثر ليخمر بحسب طبيعة الطقس، ويكفي أمي أن ترفع الغطاء على عجينها كي تدرك هل تخمر أو لا يزال، ثم تغطيه بسرعة وكأنما تخشى أن يصاب بنزلة برد، فمرات تطبطب عليه براحة كفيها بهدوء ولطف كأنما هي توقظه من نومه أو كأنما تقول له “لا تتأخر على التخمر، فالشمس أدركت وسط السماء”!
من أين تجيء أمي بخميرة عجينها أو “الخمّارة” كما كنا نسميها؟ لم تكُن “خمّارة أمي” أي الخميرة أكياساً مصنعة تباع في الأسواق كما هي اليوم، فكانت الخميرة عبارة عن قطعة عجين تقتطع من عجينة البارحة تترك جانباً وتضاف إلى عجين اليوم التالي، وكما أنها تركت قطعة من عجين البارحة خميرة لعجين اليوم فعليها أن تترك قطعة من عجين اليوم للغد وهكذا دواليك، ويحدث أن تكون غائبة عن البيت وعادت وعليها أن تعجن خبزها في اليوم نفسه، فالأمر عادي جداً، فما عليها إلا أن تطلب من جارتها قطعة من خميرتها، وكانت أمي تعرف جودة خبز الجارات من نوعية خميرة عجينهن. لذلك فهي حين تضطر إلى طلب قطعة خميرة من جارة تختار الجارة التي خميرتها جيدة وهي في ذلك عليمة.
ويبدأ طهي الخبز في حدود العاشرة صباحاً كي يكون جاهزاً للغداء، ولم تكُن هناك ساعة حائط معلقة تستدل بها أمي ولم تكن أمي بحاجة إلى ذلك، فالساعة البيولوجية وطول أو تقلص ظل الجدار الرئيس ما يوقت أعمالها اليومية البيتية كما يوقت أشغال الفلاحين الخارجية الزراعية وغيرها.
وكل امرأة فخورة بخبزها وكل امرأة تتفاخر بخبزها. فهناك نساء عرفن بإتقان طهي الخبز حتى أصبحن شهيرات في القرية، وتعيّر المرأة إذا احترقت خبزتها وتوصف بأنها ثرثارة.
العين لا تنام أبدا والخبزة فوق الطاجين الفخاري!
والفتاة في زمن ما وفي منظور أهل القرية تصبح جاهزة للزواج، قادرة على تحمل مسؤولية بيت، عندما تحسن العجن وطهي الخبز، وإتقان طهي الخبز مقياس النضج الجسدي والاجتماعي عند الفتيات، كان ذلك في زمن مضى!
ولتحضير الخبز كما لتحضير الكسكسي طقوس خاصة جداً.
وللخبز طقوسه الساحرة ولكل امرأة دمغتها أو رشمها على خبزتها، وكل امرأة إلا وتملك سر التحكم في النار المولعة تحت طاجين الفخار، وطاجين الفخار هذا أو (أفان أغروم كما نطلق عليه بالأمازيغية) له مواصفات وله عيوب، فهناك الطجين الخفيف والثقيل والبارد والأعوج والخشن واللصاق والحراق، وهناك طاجين الفخار الخاص بتحضير خبز المطلوع وآخر لخبز الشعير وثالث لخبز الفتير، وتشترى طواجين الفخار من قرية بيدر المعروفة في ولاية تلمسان والجزائر برمتها بحرفة صناعة الفخار، فأجمل وأنجح طواجين الخبز تصنع في تلك القرية الشهيرة بنوعية أتربتها وبعبقرية أصابع ساكنيها من النساء والرجال.
في الأعراس، وتلك عادة عريقة، تحضر النساء معهن كهدية لدار العرس ثلاث خبزات وقالب سكر وعلبة قهوة أو شاي أخضر.
ويجمع الخبز في غرفة كبيرة في دار العرس، وتعرف سيدة العرس، أم العروس، الضيفات من خبزهن بمجرد أن تكشف عن الخبزات الملفوفة في منديل بديع حتى تتبدى بطاقة تعريف الضيفة.
وحتى عندما ينزل الطعام على الموائد حيث يجلس حولها من ستة أشخاص إلى ثمانية ويقطع الخبز ويدور في طبق الحلفاء على المدعوين، يعرف هؤلاء من النساء والرجال صاحبة الخبزة.
إن سوسيولوجيا الخبز هي الصورة الصادقة والعميقة لتاريخ الشعوب في معاركها التي خاضتها من أجل الحرية والكرامة والعدالة والعزة.