حرية ـ (24/2/22025)
رفيق خوري
الكل في حاجة إلى وقف الخسائر، لكن السؤال هو أي نوع من إنهاء الحرب وبأي ثمن؟ فليس أخطر من الحرب سوى الحل السيئ. والأخطر منهما هو توظيف الحل السيئ بعد توظيف الحرب في تقاسم روسيا وأميركا لأوكرانيا. روسيا تضم الأراضي التي احتلتها، وأميركا تستولي على ما تحت الأرض من معادن ثمينة، وهما معاً يسهمان في إضعاف أوروبا والتلاعب بالخلافات السياسية بين دولها.
يوم الـ24 من فبراير (شباط) الجاري يدخل الغزو الروسي لأوكرانيا عامه الرابع وسط لعبة مزدوجة، تصعيد القصف على كييف، وبدء التفاوض بين إدارة الرئيس دونالد ترمب وحكومة الرئيس فلاديمير بوتين على صيغة لإنهاء الحرب.
حرب تتجاوز أهدافها أوكرانيا إلى تحديد من له اليد العليا في أوروبا وتصحيح معادلات ما بعد الحرب الباردة والأحادية الأميركية على قمة النظام العالمي. أما خسائرها حتى الآن فإنها هائلة، 200 ألف قتيل عسكري و800 ألف جريح من الطرفين بحسب أرقام “الإيكونوميست”، ومئات ملايين المليارات على مستوى الاقتصاد والمعدات العسكرية، ومدن في أوكرانيا “مهدمة مثل غزة” حسب ترمب.
الكل في حاجة إلى وقف الخسائر، لكن السؤال هو أي نوع من إنهاء الحرب وبأي ثمن؟ فليس أخطر من الحرب سوى الحل السيئ، والأخطر منهما هو توظيف الحل السيئ بعد توظيف الحرب في تقاسم روسيا وأميركا لأوكرانيا. روسيا تضم الأراضي التي احتلتها، وأميركا تستولي على ما تحت الأرض من معادن ثمينة، وهما معاً يسهمان في إضعاف أوروبا والتلاعب بالخلافات السياسية بين دولها.
قبل أربعة أعوام التقى مدير الاستخبارات المركزية الأميركية ويليام بيرنز المستشار السياسي الروسي نيكولاي باتروشيف وقال له “نعرف أنكم تخططون لغزو أوكرانيا، وإذا فعلتم فإن رد الغرب سيكون قوياً”، لكن المستشار السياسي لبوتين رد بالقول “الجيش الروسي يستطيع تحقيق ما يريد”.
واشنطن اكتفت بلفت النظر، فلا هي أرسلت قوات أميركية إلى حدود أوكرانيا للقول للروس “الحرب خط أحمر”. ولا هي أخذت بنصيحة زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ يومها ميتش ماكونيل. وماكونيل يروي في مقال نشرته “فورين أفيرز” أنه عندما بدا واضحاً أن بوتين سيغزو أوكرانيا طلب من بايدن تقديم أسلحة فتاكة لأوكرانيا وتوسيع الوجود العسكري الأميركي في أوروبا، لكن بايدن اعترض، وحتى بعد الغزو فإن المساعدات بقيت متأخرة مع شروط لا ضرورة لها”.
وبحسب البروفيسور ويليام بكلي، فإن الأخطاء الأميركية الكبيرة قديمة، إذ أغفلت واشنطن كوريا الجنوبية من اهتماماتها الأمنية، فأجبرها الغزو الشمالي بقيادة كيم إيل سونغ بأمر من ستالين على خوض حرب واسعة دخلت فيها الصين. ولم تبذل واشنطن جهوداً جدية لمنع العراق من غزو الكويت، فاضطرت إلى تجييش أوسع تحالف عسكري وشن حرب “عاصفة الصحراء” لإخراج الجيش العراقي من الكويت.
والظاهر أن “النموذج الكوري” الذي تحدث عنه بعض لم يعد خارج الحسابات في إدارة ترمب، لكن الفارق أن أميركا ضمنت بجيشها أمن كوريا الجنوبية ضد أية محاولة جديدة لكوريا الشمالية، في حين أن ما تطلبه موسكو في التفاوض مع أميركا هو ترك أوكرانيا بلا ضمانات، ولا سيما الضمانات الأوروبية. وما ترفضه ليس فقط منع انضمام كييف إلى “ناتو” بل أيضاً إلغاء الوعد الذي جرى تقديمه لها في قمة بوخارست عام 2008 حول دخول “ناتو” مقابل التخلي عن أسلحتها النووية، وكانت أميركا وروسيا من الواعدين.
وفي المقابل، فإن ترمب يقدم التنازلات سلفاً ويمارس سياسة الحق على الضحايا، فيلوم الرئيس بايدن “السيئ” والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي “غير الكفء” على الغزو الذي قام به بوتين. لا بل يتهم زيلينسكي بأنه “لا يعرف ما حصل لنصف 350 مليار دولار أرسلناها إليه”، ويعد أن “القيادة الأوكرانية سمحت باستمرار الحرب”.
ما كان نائب رئيس تحرير “الإيكونوميست” إدوار كار يتخيل عندما كتب في مطلع العام الحالي أن “روسيا سيكون لها اليد العليا في أوكرانيا وتمتحن ’ناتو‘ بأعمال عدائية أكبر، وأن سياسة ترمب تجعل الخطر مثلثاً على كييف وتهز الاعتماد على حماية أميركا”. وها هو ترمب يسارع إلى تفاوض ثنائي أميركي – روسي على أوكرانيا من دون موقع لأوروبا حول الطاولة، ولا دور لزيلينسكي وأوروبا في صفقة سيكون لها تأثير كبير في أوكرانيا ومستقبل أوروبا.
كل التحذيرات من فرض “صفقة مذلة” لكييف مع موسكو لم تدخل أذن ترمب، ولا سيما منها مناشدات دول حلف وارسو السابق. وأوروبا تبدو مرتبكة وحائرة، بصرف النظر عن حرص عدد من دولها الأساس على توفير الدعم لمواجهة موسكو، فما راهنت عليه من “هزيمة استراتيجية” لروسيا في أوكرانيا وإلا هيمنت على القارة العجوز، ومن ربط التغيير في الكرملين بانتصار استراتيجي أوكراني، بدا مجال خيالات.
ولا يبدل في الأمر كون ما تخطط له واشنطن من ضغوط لإنهاء الحرب و”إقامة علاقات براغماتية مع موسكو على أمل أن تخفف من تعاونها مع محور الاضطراب” مجرد تمنيات حالمة، بحسب أندريا كيندال تايلور ومايكل كوفمان.
لكن المصاعب ليست قليلة على الطريق إلى المفاوضات الأميركية – الروسية، فالممكن حتى الآن هو بدء تطبيع العلاقات بين البلدين. والمرجح هو مساعي ترمب لأن يلعب في إدارة أميركا دوراً مشابهاً لما يلعبه بوتين في روسيا ضمن سلطوية قوية. أما المستحيل، فإنه استعادة ظروف “يالطا” القديمة التي احتاجت إلى حرب عالمية ثانية، لا إلى مجرد حرب في أوكرانيا. وقديماً قال كليمنصو “صناعة السلام أصعب من صناعة الحرب”.