حرية ـ (24/2/22025)
حميدة أبو هميلة
ارتبط طائر البوم بالليل، عيون ذهبية لامعة وسمع حاد وذهن متقد وتألق ملحوظ، لكن هذا فقط حينما يحل الظلام، هذه هي طبيعة البوم وفقاً للعلماء الذين يشيرون إلى أنه مهيأ للبيئة الليلية بالفعل وأن حواسه تعمل بطريقة أفضل في هذا الوقت من اليوم، فهل الإنسان الذي يحب السهر حتى الساعات الأولى من الصباح تتطور حواسه الإبداعية أيضاً للتكيف مع هذه الأجواء؟
على رغم أن الإجابات تكون قاطعة حيناً وحائرة ومرتبكة حيناً، فإن النتائج التي خلصت إليها الدراسات العلمية في هذا الجانب تبدو مشوقة للغاية، إذ اهتمت الأبحاث بفحص آلاف الحالات، لا سيما أن هناك بعض الناس ينجزون على نحو أفضل وأكثر إبداعية في الليل، بينما النصائح التقليدية التي نشأ الجميع عليها تقول إن الجسد يعمل بصورة أفضل مع شروق الشمس وأن الراحة والسكينة والنوم هي أمور تتوافق مع طبيعة الليل.
من هنا جاءت أزمة “البشر الليليين”، فهم لا يتوافقون بطبيعة الحال مع قواعد المؤسسات لأنه من الصعب كثيراً أن يعثروا على وظائف تلائم نمط حياتهم، بخاصة أن محاولاتهم للتكيف مع الاستيقاظ مبكراً، والنوم ليلاً بصورة منظمة تبوء بالفشل من دون أن يدروا ما هو السبب.
ويأتي هذا تزامناً مع شهادات متعددة لمبدعين وعلماء يشيرون إلى تجاربهم الواقعية التي كانوا فيها أكثر نشاطاً وإنتاجية، إذ إنها كانت تتزامن مع حلول الليل الحالك، في المقابل فإن الغالبية العظمى من البشر يرون العكس تماماً ومن بينهم ناجحون في مجالات متعددة أيضاً، فهل النشاط الليلي بالنسبة إلى بعض الأشخاص أمر قهري تماماً وليست لهم يد فيه، أم هو مجرد حال من التعود مرتبطة بظروف حياتية معينة وغير متعلقة بأي سبب علمي يستند إلى الجينات على سبيل المثال؟
سلوكيات مكتسبة أم قهرية؟
وفقاً للملاحظ من حولنا فإننا نصادف بعض الأشخاص الذين لا يعرفون معنى إنجاز المهمات نهاراً، ومهما أجبروا أنفسهم على النوم ليلاً إلا أنهم يستيقظون وكأنهم غرباء عن عالم النور، فيكونون في مزاج سيئ ومنفصلين عما يجري حولهم وينتظرون حلول الظلام بفارغ الصبر كي يصبحوا أكثر نشاطاً، مما يجعل ساعات الدوام النهارية غير ملائمة لهم ويواجهون صعوبة في إيجاد فرصة مهنية بمواصفاتهم الخاصة، وفقاً لما قاله الباحث في مجال النوم دانييل كريبكي.
ويشير كريبكي في تصريحات سابقة إلى أن الاختلافات بين نمط النوم الليلي الطبيعي والنهاري تتجاوز مجرد فكرة تطوير عادات سلوكية أو حتى مجرد التفضيلات الشخصية لدى الأفراد، وشدد لموقع “brainfacts” على أن الأمر أكبر من هذا التصور.
الأشخاص الذين يفضلون الاستيقاظ ليلاً والنوم صباحاً لديهم استعداد فطري
كذلك فإن الباحثة في مجال النوم بجامعة نورث وسترن في ولاية إلينوي الأميركية كريستين كنوتسون تقول إن الأشخاص الذين يفضلون الاستيقاظ ليلاً والنوم صباحاً لديهم استعداد فطري، كما دعت إلى عدم مجابهة النمط المرتبط بتوقيتات نومهم، مطالبة بتركيزهم على محاولة التناغم مع إيقاعات الساعة الطبيعية لأجسامهم لأن التكيف الإجباري هنا سيؤثر في حال هؤلاء الأشخاص المزاجية وصحتهم وطريقة تناولهم الطعام وكفاءة التمثيل الغذائي لديهم.
لكن في المقابل ينوه أستاذ الطب النفسي هشام ماجد إلى أن هذا التوجه من شأنه أن يحدث تغييراً في الساعة البيولوجية لجسم الإنسان، مشيراً إلى أن النوم نهاراً والعمل ليلاً يؤدي إلى اضطرابات في السلوك والمزاج.
ويضيف أن “الجسد أثناء النهار يفرز هرمون الأدرينالين وهرمون نورأدرينالين اللذين يساعدان على التركيز والانتباه في النهار، وأثناء الليل تفرز الهرمونات بنسبة أكثر في الجسم، مما يستلزم وضع الاسترخاء، ومن ضمن هذه الهرمونات الكورتيزون وهرمون النمو”.
مبدعو الظلام
المفاجأة أن معهد باريس للدماغ كشف قبل نحو عامين عن دراسة تشير إلى أن الدماغ يكون أكثر إبداعاً في المرحلة التي تسبق الدخول في النوم مباشرة، وأجرى تجربة اختبر فيها تأثير هذه الفرضية في الأشخاص من خلال تحفيزهم على الاستيقاظ سريعاً بعد الغفوة الأولى، فاستندوا إلى ما كُشف عنه في حياة المخترع توماس إديسون الذي كان ينام ممسكاً ببعض الكرات بيديه، وفور أن يغرق في النوم تسقط الكرات فيستيقظ ويسجل أفكاره سريعاً، وهي عادات كان يتبعها أيضاً سلفادور دالي لتوليد الأفكار الإبداعية، فكان يعتمد على فترات النوم الليلية القصيرة للغاية ليحفز ذهنه ويبقى مستيقظاً لتسجيل مشاهداته خلال هذه الغفوة.
وهنا يضيف استشاري الصحة النفسية الدكتور وليد هندي أن اقتران الليل بالعمل الابتكاري مؤكد وفق أبحاث متعددة، إذ إن أصحاب هذه العادات غالباً ما يقدمون وجهات نظر مبتكرة خارج الصندوق، وبينها دراسة أجريت في جامعة بلجيكا أكدت أن من يفضلون تأدية مهماتهم الأساسية ليلاً يتمتعون بيقظة عقلية لمدة أطول من نظرائهم الذين يفضلون الصباح، فنشاطهم الدماغي يعززه الظلام على ما يبدو وكذلك شدة الانتباه، مما يدعم قدراتهم العقلية وتألقهم الذهني ومهاراتهم اللامعة يظهران بقوة في الليل مثل البومة والذئب، ويمنحهم الهدوء والسكينة فرصة الكشف عن مواهبهم.
ربما هذا يفسر سر تزامن الإنتاج الإبداعي مع الليل، إذ إن الترابط الكلاسيكي الذي قد يراه بعضهم تقليدياً ومبالغاً فيه بين العالمين، يبدو أن له أسساً علمية أثبتتها الدراسات وعززتها تجارب العلماء والفنانين، فيما التفسير الشائع لهذا الأمر عادة ما يربط هذا السلوك برغبة الأشخاص في أن يمارسوا مهماتهم بهدوء وسكينة، فتضيء لحظاتهم الإبداعية حينما يصبح العالم من حولهم في حال ثبات.
ووفقاً للأمم المتحدة إن صناع الإبداع يسهمون بنسبة لا يمكن التهاون بها في الاقتصاد العالمي، فالتقديرات التي أقرتها المنظمة الدولية تقول إن الصناعات المرتبطة بالعملية الإبداعية تسهم بنحو 3.1 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي حتى عام 2023، كما أنها توفر نحو 50 مليون وظيفة في الكرة الأرضية وعائداتها السنوية تزيد على تريليون دولار.
نمط حياة غير صحي
كما هو واضح، فالإبداع والابتكار يسهمان بأموال طائلة في الثروات المتداولة حول العالم، كما أنهما قبل كل ذلك من عوامل نهضة الحضارة، ولكن هذا بالطبع لا يعني أن من يفضلون العمل الصباحي لا يعرفون شيئاً عن الطاقات الإبداعية، وإنما هي فقط فروق فردية، أصيلة وقد تكون قهرية، فلا يقدر أفراد هذا الفريق أو ذاك على تحدي طبيعتهم الجسدية، والأمر كما يرى العلماء ليس مجرد اختيارات شخصية، فهل العملية الإبداعية الليلية تأتي هكذا من دون عواقب؟
الدراسات العلمية نفسها التي أشادت بنجوم الإبداع الليلي تنوه بأن “البشر الليليين” الذين يقضون حياتهم معتادين على هذا النمط معرضون لمشكلات صحية ناتجة من ميلهم إلى أسلوب الأكل غير الصحي وتعاطي الكحول والتدخين واستهلاك الكافيين بكميات كبيرة، وحتى عدم التزام التمارين الرياضية.

“البشر الليليين” الذين يقضون حياتهم معتادين على هذا النمط معرضون لمشكلات صحية
وبحسب ما يؤكد الطبيب النفسي هشام ماجد، فإن هذه الانقلابات النومية من شأنها أن تجلب السوء على صاحبها وينبه من العواقب الوخيمة لهذا النهج، لافتاً إلى أن اضطراب إفراز الهرمونات يؤدي إلى التوتر والقلق المستمر والأرق، مع الشعور بالإرهاق الشديد والكسل والكآبة والعصبية الدائمة والتأثير السلبي في المزاج والحال النفسية، مما يغير من طريقة التعامل مع الناس لتتسع دائرة المتضررين من تبدل مواعيد النوم المعتادة.
ما بين الأسطورة والرأي العلمي
كثيراً ما ربط العلماء بين ضرورة النوم ثماني ساعات يومياً وأسلوب الحياة الصحي وتجنب أخطار الإصابة بالخرف، لكن بين عقد وآخر تتغير المعتقدات الطبية، فقبل عامين خلص علماء ضمن دراسة نشرت في مجلة “Nature Aging” إلى أن قاعدة الثماني ساعات قد تكون أسطورة أو في الأقل غير ثابتة، إذ ينام بعضهم أقل من ذلك بكثير ومع ذلك يشعرون بالراحة ولا تتأثر الجوانب الصحية لديهم وفق تجارب 50 ألف شخص هم عينة الدراسة التي أشرفت عليها جامعة كامبريدج وتضمنت مسحاً دماغياً للمشاركين.
فيما ربطت المخيلة الشعبية الليل دوماً بالرومانسية والعشاق، ووفقاً للدكتور وليد هندي فإن الليل ارتبط بقصص الهجر والسهد والتأمل والإبداع ولهذا تغنى به الشعراء مثل المتنبي، شاعر العرب. وأشار إلى أن الإحصاءات العلمية أفادت بأن نحو خمس سكان الكرة الأرضية يصنفون من “البشر الليلين” أو كائنات ليلية تميل للسهر، مؤكداً أن لديهم طفرة جينية تجعلهم يصنفون في هذه الفئة.
على جانب آخر جاءت آراء بعض علماء الأنثروبولوجيا لتقول إن تطور سمات النوم المختلفة كان يعتبر أمراً مفيداً في المجتمعات التقليدية التي كانت تستدعي أن يظل جزء من السكان في حال يقظة للقيام بالحماية والتحذير في حال وجود أخطار تهدد المجموع، فالحال الذهنية اليقظة ليلاً لم تكُن لتتوافر إلا لمجموعة بعينها، في حين يشعر معظم الناس بالنشاط والرغبة في الإنتاجية وممارسة الحياة الطبيعية خلال ضوء النهار، ولكن مع متطلبات سوق العمل في العصر الحديث، فإن هناك معاناة في البحث عن وظائف بدوام ليلي فقط، إذ إن هذه الدائرة تخضع لتخصصات بعينها لا تتوافر للجميع، بالتالي فإن الأشخاص الليليين قد يعيشون تحت ضغط ويحاولون محاربة نمطهم النومي المريح، هرباً من التصنيف والأحكام.
وأشارت مجلة “lamenteesmaravillosa” الإسبانية المعنية بالصحة العقلية قبل أعوام عدة في بحث للكاتبة إيلينا سانز إلى أن هؤلاء الأفراد معرضون للانتقادات السلبية من المجتمع وقد يوصفون بالفوضى والكسل لعدم قدرتهم على التكيف مع مواعيد العمل السائدة.