حرية ـ (25/2/22025)
فيديل سبيتي
تشهد سواحل العالم اليوم ازدحاماً بشرياً بالغاً يؤثر في نظامها البيئي الدقيق بفعل العودة الملحمية لإنسان العصر الحديث باتجاه البحر، كما يقول مؤلف كتاب “الساحل البشري” الباحث والفيلسوف جون آر غيليس، فالسكن الإنساني المعاصر قرب الساحل لم يكن سكناً ثقافياً أو متماشياً مع التركيبة البيئية والجغرافية للسواحل بقدر ما كان عودة ترفيهية واقتصادية، وهذا ما يدفعنا إلى فهم متجدد لطرق العيش التي مارسها أسلافنا طوال ما لا يقل عن 200 ألف عام، بدءاً بالصيادين البدائيين والبحارة القدامى الذين بقوا قريبين من الشاطئ، وصولاً إلى العصر الحديث حين تمكن المعماريون الهولنديون من استصلاح البحر وجعله جزءاً من الأرض الهولندية، وتطور آلات مسح وتصوير أعماق البحار والمحيطات.
ولقد كانت هذه الرحلة في الاقتراب من جهات البحار بعيداً من الشواطئ طويلة ومديدة ومليئة بالتحديات التي أسهمت في تطور الاجتماع الإنساني، وكانت البشرية على امتداد التاريخ شبه بحرية وتعيش إلى جوار مصبات المجاري المائية على الشواطئ، لكن على رغم ذلك فإن التنقيب والبحوث الأثرية تمسكت لفترة طويلة بالبر حتى اعتقدنا أن هويتنا الإنسانية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية تبدأ وتنتهي على اليابسة، فصار البحر في التقاليد الإغريقية والرومانية أو السومرية والعربية الأولى بيئة غريبة وعدوانية، وجرى تمجيد الآلهة التي تمثل البر أو اليابسة والتي تؤمّن الخير والسلام على حساب آلهة البحر الغاضبة والشريرة عموماً، وجاءت قصة جنة عدن لتثبت المجتمع الزراعي وتجعل الأرض اليابسة محور جغرافية الكتب المقدسة والثقافات الدينية التقليدية التي يربو تاريخها على 7 آلاف عام، والتي حددت كتاريخ للاستقرار ونشوء المجتمعات الزراعية، وهي فترة زمنية حديثة نسبياً.
وكرست قصة الطوفان المتداولة في معظم ثقافات المجتمع الإنساني التهديد الذي تمثله المسطحات المائية البحرية، على رغم أن الشعوب الأقدم كانت ترى في اليابسة تربة خصبة جلبتها الآلهة من قاع البحر، لكن الثقافة الدينية الحديثة المسيطرة حتى أواخر القرن الـ 18 كرست قصص فقدان جنة عدن ومحاولة استردادها، فكان من البديهي أن ينشغل الجغرافيون عن سبعة أعشار سطح الكوكب المغطى بالمياه ويتأخر بالتالي ظهور علم المحيطات.

كانت الشعوب الأقدم ترى في اليابسة تربة خصبة جلبتها الآلهة من قاع البحر
إعادة اكتشاف العلاقة الإنسانية بالبحار
بدأت العلوم الإنسانية تدرس الساحل كموطن للتجمعات البشرية القديمة منتصف القرن الماضي حين تبنى الجغرافيون نظرية تفيد بأن الساحل كان نقطة البداية للمجتمع الزراعي بناء على اكتشافات أثرية تعود للعصور الحجرية قريبة من الشواطئ، وتبنى هؤلاء فكرة أن القفزة العظيمة التي حققتها البشرية نحو المجتمعات الزراعية المستقرة كانت امتداداً للمهارات التقنية التي تعلّمها الإنسان العاقل على شاطئ البحر، وكشف كثير من المواقع الأثرية أن استهلاك المحار والأعشاب البحرية أصبح قبل 10 آلاف عام بيئات تتداخل فيها اليابسة بالماء وصيد السمك بالأنشطة الزراعية، وكان تصاعد وانخفاض مستويات البحر خلال الـ 150 ألف عام الأخيرة أدى إلى مسح متكرر لسجل الاستيطان البشري على الساحل، وبات بإمكاننا اليوم الكشف عنه بمساعدة التكنولوجيا الحديثة لإعادة رسم خرائط البحار والمحيطات وشواطئها، والتغييرات التي طرأت عليها خلال كل ذلك الزمن المديد.
وعلى سبيل المثال فإن امتداد البحر وتقلصه كان ذا فضل في انتشار “أسطورة أتلانتيس” المستندة إلى روايات الفيلسوف اليوناني أفلاطون والتي تفيد بأنه كانت هناك دولة ذات قوة بحرية كبيرة تدعى أتلانتيس غزت قسماً كبيراً من غرب أوروبا وشمال أفريقيا قبل 9 آلاف عام، ولكن هذه الحضارة العظيمة غرقت في البحر وصارت طي النسيان حتى أعيد نبش ملفها خلال القرنين الماضيين.

بدأت العلوم الإنسانية تدرس الساحل كموطن للتجمعات البشرية القديمة منتصف القرن الماضي
المجتمعات الساحلية القديمة والحديثة
تفيد الأبحاث حول المجتمعات الساحلية القديمة أو “جنس الحافة البشري”، كما يسميه جون آر غيليس، بأن أسلاف البشر ليسوا المزارعين كما هو مكرّس في التاريخ العام والمسيطر حتى اليوم، بل كانوا أسلافنا الذين عاشوا على طول المجاري المائية ولكنهم تركوا خلفهم القليل من السجلات والنصب التذكارية، أو أن البحر في ارتفاع منسوبه غطى ما تركه هؤلاء من آثار بدائية، والتواصل مع البحر بعيداً من الشاطئ لم يظهر إلا قبل 6 آلاف عام جنوب الصين، حيث أبحرت بضعة زوارق ذات مجاذيف باتجاه الغرب ليجري العثور على جزيرة مدغشقر، وبقيت محاولات التوغل داخل البحر مشوبة بالحذر والخوف مع خلق بعد أسطوري لمخلوقات البحر البعيد وأعماقه مثل الحوريات والحيتان الهائلة والأخطبوطات التي تبتلع السفن، وبقي الأمر كذلك حتى قرون قريبة حين بقيت أنشطة الصيد والتجارة في أوروبا قريبة من الساحل حتى أواخر القرون الوسطى، حين تركز مزيد من الفقراء على طول السواحل بفعل النمو السكاني المتزايد خلال القرنين الـ 16 والـ 17 ليبدأ أول نموذج اقتصادي بحري بالتشكل، حيث يتبنى فيه الفقراء الصيد البحري والتجاري، وهكذا بدأت تظهر المجتمعات الساحلية الأوروبية بسبب الحاجة المتزايدة إلى مصادر الغذاء والإبحار الساحلي لتبادل البضائع.
وخلال القرن الـ 18 بدأ رسم السواحل والبحار القريبة منه على الخرائط البدائية وكذلك بناء السدود والأرصفة المائية، وانجذبت العلوم بدورها إلى البحر وأعماقه فكان ميلاد علم المحيطات والسعي إلى استكشاف طبيعتها، واتخذت الطبقة الإنجليزية الراقية من الشواطئ الرملية منذ مطلع القرن الـ 18 فضاء للعلاج النفسي والجسدي، فبدأ ما اتفق على تسميته بالاحتلال الجمالي للساحل من طريق ترويج أيديولوجية “الإجازة على الشاطئ” بدلاً من الإجازات في الطبيعة الجبلية.

أدى تصاعد وانخفاض مستويات البحر خلال الـ 150 ألف عام الأخيرة إلى مسح متكرر لسجل الاستيطان البشري على الساحل
معنى البحر في الثقافات والأديان والفولكلور الإنساني
لعب البحر دوراً عميقاً ورمزياً في الثقافات الإنسانية والحضارات القديمة فقد كان مصدراً للرزق والغموض والقوة والخطر في الوقت عينه، وقد جرى التعبير عن العلاقة مع البحر في الثقافات المختلفة عبر أسطرته فنظرت إليه حضارة بلاد ما بين النهرين على أنه قوة فوضوية ومرتبط بالآلهة البدائية “تيامات” التي تجسد المحيط المالح في صورة تنين، وفي أسطورة الخلق البابلية يهزم “الإله مردوخ” الآلهة “تيامات” مما يرمز إلى انتصار النظام على الفوضى والبر على البحر، أما في مصر القديمة فكان نهر النيل أكثر أهمية في الحياة المصرية من البحر، لكن البحر كان مرتبطاً بالحياة الآخرة وبـ “الإله نون” الذي يمثل المياه البدائية التي نشأ منها الخلق، وكانت التجارة المصرية مع بونت الصومال أو اليمن تجرى عبر البحر الأحمر.
ولم يختلف اليونانيون القدماء في تصويرهم للبحر عن الشعوب المعاصرة، فقد اعتبروه عالم الآلهة والوحوش وكان “الإله بوسيدون” يحكمه وهو المتحكم بالعواصف والزلازل، وكان البحر عند اليونان القدماء امتحاناً للصبر والمخاطرة كما يظهر في رحلة أوديسيوس في الأوديسة حين اختبر البحر صبره وحكمته، أما في روما القديمة فقد تعامل الرومان مع البحر كوسيلة للسيطرة وأطلقوا على البحر الأبيض المتوسط اسم “مار نوستروم” أي “بحرنا” بعدما سيطروا سيطرة كاملة عليه.
وبعد التقدم زمنياً بات البحر طريقاً للمغامرة والغزو والطريق نحو الحياة الآخرة لدى الفايكنغ والنورديين أو شعوب الشمال، وفي ميثولوجيا شعوب الشمال كانت “الإلهة ران” هي التي تغرق البحارة في أعماق البحر، وفي ما بعد أصبحت الشعوب التي سيطرت على البحر مثل الفينيقيين واليونانيين والرومان والصينيين وبعدهم الإمبراطورية البريطانية إمبراطوريات كبرى ذات هيمنة عبر التاريخ بسبب السيطرة على طرق التجارة البحرية وتحسين القوى البحرية التي تستجلب الثروة الاقتصادية.
وتمكن الفينيقيون (1500 – 300 ق.م) والذين عاشوا جنوب وشرق المتوسط من أن يصبحوا من أعظم البحارة في العالم القديم، وطوروا بناء السفن والملاحة إلى درجات متقدمة ثم أنشأوا شبكات تجارية عبر البحر الأبيض المتوسط، وامتدت تجارتهم إلى شمال أفريقيا وإسبانيا وبريطانيا بسبب اكتشافهم للصباغ الأرجواني المستخرج من أصداف البحر، أما الصينيون فقد دخلوا في التجارة البحرية منذ عهد أسرة هان (206 ق.م – 220م) وبحلول عهد أسرتي تانغ وسونغ ربط “طريق الحرير” البحري الصين بالهند والعالم العربي وأفريقيا، وساعدت الرياح الموسمية التجار في الهند القديمة وبلاد فارس في افتتاح عصور التجارة في المحيط الهندي، ومكنتهم من التنقل بين شرق أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا لتبادل التوابل والحرير والذهب.
دخول البحر في العقائد الإيمانية
في التوراة (العهد القديم) يُنظر إلى البحر على أنه رمز لعدم النظام والخطر، وجاء في سفر التكوين “وروح الله يرف على وجه المياه”، أي أن الله جلب النظام من الفوضى العميقة، وفي اليهودية والمسيحية يُظهر الله سلطته على البحر مثل شق البحر الأحمر الذي يمثل التحرر والتدخل الإلهي، أما في الإسلام فيصف القرآن الكريم كيف يتحكم الله في البحار “وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار” (سورة إبراهيم 32).
أما في الهندوسية فيسبق المحيط الكوني عملية الخلق وغالباً ما يُصور “الإله فيشنو” مستلقياً على الثعبان أنانتا في المياه الأبدية ليرمز إلى الخلود الإلهي، وفي المسيحية يُمثل البحر سر المعمودية والغسل بالماء، وهو طقس يُشير إلى التنقية والولادة الجديدة، وكذلك الأمر في الهندوسية حيث يُعتبر الاستحمام في الأنهار المقدسة مثل نهر الغانج الذي ينبع من المحيط الكوني وسيلة لغسل الذنوب وتطهير الروح، وتستخدم مياه البحر في الشنتوية في طقوس التطهير الروحي.
وفي كثير من المدارس الصوفية والباطنية فإن البحر والسفر فيه سواء على لمعان سطحه أو في ظلمات قيعانه وما بينهما من وحوش مرعبة وكأنه استعارة لرحلة الروح نحو التنوير، وهذا الأمر نفسه ما تعتمده البوذية التي تعتبر عبور البحر رمزاً للوصول إلى الـ “نيرفا” أو التحرر من دورة الولادة والموت وتسمى الـ “سامسارا”، وهاتان الفكرتان، أي الصوفية والبوذية، مخلوطتان في الطاوية حيث يُمثل الماء المالح أو العذب التدفق والانسجام مع الطريق أو “الطاو” الذي يرمز إلى المرونة والتكيف مع الحياة.
استكشاف البحر قديماً
بعد دخول شعوب وادي الرافدين عالم البحار دخلت في عقائد السومريين أساطير الخلق التي تفترض أن الخليقة بدأت حين كان الماء يملأ الكون، ففصلت الآلهة الماء المالح عن الماء العذب لتوسع الأرض اليابسة، وكانوا يعتقدون أن ملتقى الماءين المالح والعذب هو في موطن الآلهة التي أطلقوا عليها اسم “دِلمون”، وهي المنطقة التي تقع فيها جزيرة ومملكة البحرين اليوم، وكانت “دِلمون” حضارة تشمل مناطق واسعة من الخليج وازدهرت قبل 6 آلاف عام، وسبقت ظهور حضارة السومريين بـ 1000 عام.
ويرى بعض المؤرخين أن أصل تسمية البحرين قادمة من هذا المعتقد السومري القديم، فقد كان البحارة والغطاسون الباحثون عن اللؤلؤ وهم في قاع البحر قرب شواطئ البحرين والقطيف على الناحية الغربية من الخليج يستطعمون ماء عذباً ينبع من قاع البحر، فظن السومريون أن التقاء البحرين هنا موضعه وأن ابتداء الخليقة كان هناك، ويسمي الجغرافيون اليوم البحر الممتد بين شرق أفريقيا وشاطئ اليمن حتى الهند ببحر العرب، ذلك أن هذا البحر، وهو جزء من المحيط الهندي، إنما كان موطناً لطرق سفن العرب التي كانت تأتي بتجارة الهند والصين وشرق أفريقيا إلى اليمن حتى تنقلها القوافل المكية القرشية إلى بلاد الشام، حيث تتولى السفن تسويقها في البحر الأبيض المتوسط، وكان سر تفوق العرب بأسلوب صنعهم السفن التي كانت تتحرك بقوة الريح، ولذا كانت الأشرعة بمثابة المحرك في السفينة، وتروي حكايات السندباد البحري، وهو بحار من البصرة عاش في عصر الخلافة العباسية، مغامراته في الرحلات البحرية السبع التي قام بها في المحيط الهندي ما بين شواطئ أفريقيا وشرق آسيا، وهذه الحكايات لا تزال موضع خلاف حول ما إذا كانت جزءاً أصيلاً من قصص “ألف ليلة وليلة” أو أنها عمل متكامل مستقل، كما جاء في تحقيق حول علاقة العرب القدماء بالبحر والتجارة البحرية منشور في “مجلة القافلة السعودية”.