حرية ـ (26/2/2025)
أمينة خيري
“خليج المكسيك” بالنسبة إلى إدارة الرئيس دونالد ترمب أصبح اسمه “خليج أميركا”، لكنه يبقى “خليج المكسيك” بالنسبة إلى المكسيكيين. وفي أثناء الحرب الأهلية بسوريا، اجتهدت تركيا لتغيير ملامح وأسماء مناطق عدة في الداخل السوري، لتضفي عليها الطابع التركي: “قسطل مقداد” أصبحت “سلجوق أوباصي”، على سبيل المثال، لكنها بقيت لقطاع عريض من السوريين “قسطل مقداد”.
القائمون على أمر التعليم في تركيا قرروا أن تكون “آسيا الوسطى” “تركستان” (موطن الأتراك)، عناداً لروسيا، لا سيما أن هذه المنطقة تحوي عدداً من الجمهوريات السوفياتية السابقة التي تود تركيا بسط هيمنتها وأثرها فيها. تركيا نفسها غيرت طريقة نطق وكتابة اسمها بالإنجليزية هرباً من معان مضحكة وأخرى مؤسفة، تتراوح بين الديك الرومي مروراً بـ”الشيء السخيف”، وانتهاء بـ”العمل الفني الفاشل”.
الشد والجذب بين الهويات اليونانية والقبرصية والتركية يتضحان في أسماء الشوارع وأصولها العرقية كوسيلة لإحياء ذكرى قبرصية هنا، أو تأكيد هوية يونانية هناك، أو رمزية لأصول تركية (عثمانية) هنا وهناك.
حتى سنوات قليلة مضت، ظل السبب الأكثر شيوعاً لتغيير أسماء فضاءات عامة هو إعلان وإشهار والتفاخر بالتخلص من الاستعمار. الهند غيرت اسم “بورت بلير” إلى “سري فيايا بورام”، في عمل رمزي يدل على “انتصار” الهند على الحكم البريطاني الاستعماري. “روديسيا” تخلت عن لقب المستعمر البريطاني “رودس” إلى زيمبابوي، و”فولتا العليا” أصبحت “بوركينا فاسو”.
رئيس الكونغو جوزيف ديزيه قرر تخلي الشعب عن الأسماء المسيحية الأوروبية وبدأ بنفسه، فغير اسمه من جوزيف ديزيه إلى موبوتو سيسي سيكو، كما غير اسم بلاده من الكونغو إلى زائير في عام 1972، وذلك قبل أن يعيدها لوران كابيلا لـ”الكونغو”.
إشهار مرحلة جديدة
دول عدة من التي ضلعت في الحرب العالمية الثانية مباشرة، أو تأثرت بمجرياتها، شهدت موجات تغيير أسماء مدن ومؤسسات لتتخلص إما من إرث استعماري، أو لإشهار مرحلة جديدة تحاول طمس ما مضى من صدمات ومعاناة، أو لتأكيد أن مرحلة الخضوع لسيطرة قوى خارجية وفرض وصايتها انتهت.
في مصر، تغيرت أسماء منشآت ومحطات ومؤسسات غير مرة، من ملكية إلى جمهورية، وفي داخل الجمهوريات قادة أسقطوا وآخرون بقوا، وهو ما جرى في دول عربية وغير عربية عدة استخدمت فيها أسماء الشوارع لتمجيد حقبة سياسية وتحقير أخرى.
خليج المكسيك بالنسبة إلى إدارة الرئيس ترمب أصبح اسمه خليج أميركا
السيطرة على السرد التاريخي، وإشهار المواقف السياسية، ونشر بروباغندا شعبية، وإعلان هيمنة وطنية، ورفع الروح المعنوية، وتأكيد توجه أو أيديولوجيا من دون غيرها، وتكريم من خدم الوطن أو أفاده أو قاده في منعطف تاريخي، وقائمة أسباب إطلاق أسماء ذات طابع سياسي على الشوارع كثيرة ومتغيرة. هي متغيرة تغير الأهواء، ومتبدلة تبدل التوجهات وتغير المصالح، ويحكمها دائماً وأبداً تقرب وتودد لدولة تجمعها بها مصالح، أو نكاية في أخرى تناصبها العداء.
حين علم المصريون، بمن فيهم من عارضوا منهج الرئيس الراحل محمد أنور السادات إنهاء الحروب بين مصر وإسرائيل وإبرام معاهدات سلام، أن إيران أطلقت اسم خالد الإسلامبولي الرجل الذي اغتال “بطل الحرب والسلام” في عام 1981 على شارع في طهران، لم يصدقوا. ظنوها مزحة ثقيلة، أو إشاعة سخيفة، لكنها كانت حقيقة.
ظل الشارع يحمل اسم قاتل السادات، الذي يعتبره قطاع عريض من المصريين بطلاً وقائداً، ناهيك بالقرار الغارق في المكايدة والمفرط في النكاية، لا سيما أن السلطات الإيرانية لم تكتف بذلك، بل ظهرت جدارية ضخمة تمجد القاتل وتصوره قابعاً خلف القضبان، وهو يلوح بيده خارجها حاملاً القرآن.
تقارب النظامان في أوائل الألفية، ثم تباعدا، ثم تقاربا مجدداً وهكذا، وظلا هكذا، وهو ما يتواءم وعناوين مثل “إيران تدرس تغيير اسم شارع الإسلامبولي”، و”إيران توافق على تغيير الاسم”، و”إيران تستعد لتغيير الاسم”، و”تظاهرة في إيران ضد تغيير الاسم”.
أيديولوجية الشوارع
الصحافية البريطانية من أصل إيراني مريم صناعي أشارت في مقالة لها عن تغيير أسماء الشوارع في إيران لأسباب سياسية وأيديولوجية، إلى أن السلطات الإيرانية دأبت منذ الثورة الإسلامية في عام 1979 التي أطاحت الشاه على تغيير أسماء الشوارع والميادين والحدائق العامة وغيرها من الفضاءات العامة لتعكس قيم وشخصيات الثورة الإسلامية، وتمحو ما سبقها من شخصيات ومعان.
كثيراً ما تمر إعادة بناء ذاكرة وهوية جماعية جديدة عبر أسماء الشوارع، إذا كانت الهوية المراد بناؤها، أو الصورة الذهنية المطلوب ترسيخها دينية مثلاً، تجد أسماء الشوارع تحولت من قادة سياسيين أو أسماء ورود أو علامات بارزة في الطب أو الأدب أو الشعر أو نعت يدل على فرحة أو تفاؤل أو أمل أو ما شابه إلى أسماء رجال دين، لا سيما أولئك الذين يتبنون منهجاً أو فكراً يعتبره النظام في دولة ما النسخة المراد تعميمها وترسيخها وتبنيها.
في مصر مثلاً، جرى إطلاق اسم الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي تعتبره قاعدة عريضة “إمام الدعاة” و”كبار المفسرين”، في حين تحمله قلة صغيرة مسؤولية زرع بذور الانغلاق والتشدد ورفض الآخر وتجذيرها، لا سيما بين البسطاء، على عديد من الشوارع في كل المحافظات المصرية.
إطلاق أسماء إسلامية على الشوارع والميادين والمدن أمر شائع في عدد من الدول ذات الغالبية المسلمة، إذ أستاذ وجد اللغة الإنجليزية في جامعة شقراء السعودية محمد عرفة هلال سبع فئات للعناصر الإسلامية في أسماء الشوارع: دول ومدن وقرى في عصر الخلافة الإسلامية، وعلماء دين، والصحابة، والخلفاء المسلمون، وأفراد أسرة الرسول (ص)، وأول من آمنوا بالرسالة، وشعراء الدول الإسلامية المختلفة مثل العباسية والأموية وغيرهما.

أطلقت إيران اسم خالد الإسلامبولي الذي اغتال السادات على شارع في طهران
تديين أسماء الشوارع، أو صبغها بصبغة دينية، ليس بدعة تختص بها دولة من دون أخرى، أو متبعو دين أكثر من غيره. إسرائيل هودت عدداً من أسماء الشوارع والميادين، ومنها ما جرى إطلاق أسماء حاخامات عليه. وفي بريطانيا، تهيمن أسماء مثل “تشيرش ستريت” (شارع الكنيسة) و”تشيرش رود” (طريق الكنيسة) و”تشيرش لاين” (زقاق الكنيسة) و”تشابيل ستريت” (شارع الكنيسة الصغيرة) إلخ.
كما تكثر أسماء الشوارع ذات الطابع الهندوسي والبوذي والسيخ وغيرها في دول عدة، اللافت أن في دولة مثل الهند انعكست الاحتقانات الثقافية والدينية في أسماء الشوارع بصورة لافتة. أحزاب سياسية اعتمدت في برامجها على وعود بتحويل الأسماء الفارسية إلى هندوسية، وساسة هددوا بتغيير أي اسم لأي شارع أو مكان عام يبدو إسلامياً، وغيرها من مظاهر تسييس الشوارع أو تديينها بحسب المشهد السياسي وتطوراته والحياة الدينية وتقلباتها، فيتغير اسم الشارع مراراً وتكراراً ترسيخاً لأجواء دينية أو ترويجاً لتوجهات سياسية.
مجلة “إيكونوميست” وصفت إطلاق الأسماء ثم تغييرها وإطلاق غيرها عملية بالغة الإرهاق والكلفة، ناهيك بكونها غير مجدية. في مقالة عنوانها “مرحباً بكم في الهند حيث للشارع الواحد أربعة أسماء” (2024)، اعتبرت تغيير أسماء الشوارع من دون النظر إلى الجانب العملي ينم عن عدم جدية. كما أنه على الأرجح لا يكون هناك داع لإجراء هذه التغييرات، أو إن كان تغيير أسماء الشوارع سينعكس حقاً بالإيجاب على أشخاص أو أحزاب بعينها عبر جني عدد أكبر من الأصوات في الانتخابات. في نهاية الأمر، غالباً ما يستخدم الناس الأسماء القديمة.
استخدام الناس للأسماء القديمة قد يكون اعتياداً لما نشأوا عليه، أو إيماناً وتفضيلاً للاسم الذي كان. ما زال هناك في مصر من يقول إنه متوجه إلى “شارع فؤاد” في وسط القاهرة (شارع 26 يوليو حالياً)، أو يطلب من السيارة الأجرة أن تقله إلى “شارع فؤاد” في الإسكندرية (طريق الحرية). الغالبية المطلقة من هؤلاء ولدوا بعد وفاة الملك فؤاد (1936) بسنوات كثيرة، لكن الاسم ما زال حاضراً. ومنهم من يستمتع بنطق الاسم، لأنه يذكره، على حد قول أحدهم، بأن مصر كانت ملكية، معتبراً هذا العصر ذهبي ولا يعوض.
ممحاة العصر السابق
يظن بعض الأنظمة السياسية أن محو ما قبله من أنظمة يمر من طريق تغيير أسماء الشوارع المرتبطة بذلك العصر، وتظن أخرى أن تغيير أسماء الشوارع لأسباب تتعلق بالدبلوماسية أو التقارب أو التباعد مع دول أجنبية، يعني تغيير ما ينطق به الناس بالضرورة. شارع الجيزة المعروف في مصر جرى تغييره إلى “شارل دي غول”، وهو الاسم الذي نادراً ما يستخدمه أحد.
المجاملات بين الدول وبعضها، والتعبير عن الشكر أو الامتنان أحياناً يجد نفسه متجسداً في اسم شارع أو حتى مدينة. بعضها يبقى ويصبح جزءاً من حاضر المكان وتاريخه، وبعضها الآخر يتبخر في هواء التغيرات السياسية وتقلباتها.
الغالبية المطلقة من دول أوروبا الشرقية التي نزعت رداء الشيوعية في الثمانينيات والتسعينيات سارعت إلى نزع الأسماء المرتبطة بالشيوعية، فبولندا وحدها غيرت أسماء نحو 1500 شارع وميدان وجسر من أجل إغلاق صفحة الشيوعية.
بعد إلغاء الأسماء المرتبطة بالشيوعية واللينينية والستالينية، بعض منهم سارع إلى استخدام الأسماء الجديدة فرحاً بإغلاق صفحة سياسية وأيديولوجية مضت، وبعضهم الآخر تمهل أو تشكك، فظل مصراً على الأسماء الأصلية، أو ربما لم يعجبه الجديد، قلباً وقالباً، فظلت أسماء ماركس وستالين ولينين وغيرها مهيمنة، إلى أن سقطت بالتقادم، أو برحيل مستخدميها بحكم السن.
الشوارع ذكريات
الشوارع في العرف الشعبي ذكريات، وارتباط بأحدث وحوادث وحميمية. نحبها كثيراً ونتعمد المرور منها، أو نكرهها بشدة ونطيل المسافات من أجل تجنبها. جزء من الذاكرة الشعبية يكمن في الاسم، وما جهود التغيير المفرطة للأسماء لأغراض تتعلق بالنكاية أو البروباغاندا أو التديين أو التسييس إلا تشويه خفي للتاريخ وللذاكرة الجمعية والهوية الوطنية.
اللافت أن أكثر دول العالم ديمقراطية وقوة وتقدماً لم تنأ بنفسها عن عالم الكيد والنكاية، ففي عام 2018 صوت مجلس مدينة واشنطن على تغيير اسم الشارع الذي تقع فيه السفارة الروسية وتسميته باسم المعارض الروسي بوريس نيمتسوف، الذي قتل في موسكو عام 2015. صوت المجلس بالإجماع، وجاء في قرار الموافقة أن سبب التغيير هو “تكريم ناشط الديمقراطية القتيل”، في المقابل وصف ساسة روس التغيير “خدعة قذرة”.
أبرز الكتب التي تناولت الآثار الثقافية والاجتماعية لتغيير أسماء الشوارع بدوافع سياسية، كتاب “مدن متخيلة” للمؤلف الأيرلندي داران أندرسون، إذ يقول في كتابه إن جانباً كبيراً من إحساس الناس بهويتهم وشعورهم تجاه معتقداتهم تحكمه إشارات ورموز، مضيفاً “ما أن يتقرر إطلاق اسم شخص أو حدث على شارع، بدلاً من وصف أو تضاريس، يكون هذا قراراً وإجراء سياسياً ذا بعد شخصي. حرمان الناس، أو عدم قدرتهم على النظر إلى ما كان موجوداً في الماضي ومعرفته، فإن هذا يعني بالضرورة حرماناً من معرفة السياق والاتصال بالجذور”.
أندرسون لا يعادي أو ينتقد التغيير في المطلق، لكنه يحذر من دفن أو إنكار الماضي، سواء كان ذلك من الأمم أو الأفراد، لكنه فقط يطالب بفهم سبب التغيير، ومعرفة ما كان موجوداً قبله، وسبب التغيير المنطقي.
لا يزال مصريون يسمّون الشوارع بأسمائها القديمة نحو شارع الملك فؤاد بالإسكندرية
تغيير أسماء الشوارع ليست قرارات أو رغبات فوقية فقط، ففي مصر، وفي المدن العمرانية الجديدة، وجميعها خرج إلى النور بعد سبعينيات القرن الماضي، تزخر صفحات التواصل الاجتماعي التي تجمع سكان هذه المدن أو أحياء فيها بكثير من المطالبات بإطلاق أسماء معينة على شوارع لم تسم بعد، أو تغيير بعض مما جرت تسميته بالفعل. وكعادة مثل هذه الصفحات، تعكس المقترحات والاعتراضات كثيراً من العوامل الاجتماعية والثقافية وأبرز المتغيرات.
بعضهم يطالب بإطلاق أسماء رجال دين، وبعضهم مصنف “متشدداً” أو “متطرفاً”، لكنه في نظر المطالبين أيقونة أو رمز. وهناك من يعترض على إطلاق أسماء فنانين، لا سيما فنانات على الشوارع، على اعتبار أن هذا “يغضب ربنا” و”ينقص بركة المكان” و”وصمة للسكان”!
ولا يمض الأمر من دون طرافة، فقبل أربعة أعوام قررت موظفة في مجلس مدينة كفر شكر في محافظة القليوبية إطلاق أسماء زوجها وأشقائه وحماها على شوارع المدينة، لكن التغيير أثار سخرية وغضب أهل المدينة، وجرت معاقبة الموظفة وتوقيفها والإبقاء على أسماء الشوارع الأصلية.
تسييس أسماء الشوارع والمحطات أو تديينها تلاعب بالوعي الشعبي، فشوارع وميادين ومحطات مثل “الخميني” و”الأسد” في بيروت، و”الملك فاروق” و”الملك فؤاد الأول” و”الملكة نازلي” و”مبارك” و”السادات” و”ناصر” و”هشام بركات” في مصر، و”خالد الإسلامبولي” في إيران وغيرها، تعكس قرارات، وتقول كثيراً عن الثقافة والسياسة وربما الدين. كثيراً منها يتبخر في هواء التقلبات السياسية، وبعض منها يبقى شاهد عيان على اختيارات الناس على رغم أنوف الحكومات، أو ربما بدافع الاعتياد أو العناد. الغريب أنه في كل مرة تتغير وتسقط الأنظمة، يهرع المسؤولون إلى تغيير الأسماء، وإضافة أسماء جديدة بالنكهة السياسية الجديدة عليها من دون عبرة أو عظة.