حرية ـ (3/3/2025)
سعاد فهد المعجل
تغيّر رمضان كما تغيّر كل شيء آخر من حولنا، ليس بسبب اختلاف الأجيال وتباين الاهتمامات وتحوّل الزمان، وإنما لأن رمضان لم يعد يشكّل للبعض راحة روحانية وعبادة وتجرّداً وتجلياً، وإنما أصبح موسماً استهلاكياً وبإفراط شديد.
لكل موسم شعائره وفنونه وتراثه، بل وحتى زيّه وملابسه، ليس حول ذلك يدور السؤال، لكن ما أصبح يحدث في رمضان المبارك اليوم خرج عن كل التقاليد والأعراف والتراث العقائدي والديني، وبشكل أصبح أحياناً منفراً ومبالغاً فيه إلى أقصى الحدود.
رمضان بمغزاه الديني هو تجرّد عن كل ما يتعلّق بالمادة والحواس، والتقرّب من الروح الساكنة في كل منا، تهذيبها وتطويعها، هو شهر تجرّد روحاني، وليس إسرافاً جسدياً، هو بمنزلة تربية للروح وتهذيب للجسد والقلب بكل أشكال العوز والحرمان، هو شهر لبث الطمأنينة في القلب والهداية للعقول. لكنه اليوم، وبكل أسف، خرج عن هذه الطقوس الدينية وتحوّل إلى عادة دنيوية صرفة.
ولم يسلم القرآن الكريم وتدبّره من مثل هذا التحوّل، وبكل أسف، وأصبح التسابق بين المصلين على الصوت الشجي، والمسجد الفخم، وخدمة المأكل والمشرب في المساجد، التي أصبحت تُمارَس وبشكل ينافس فنادق الخمسة نجوم، هي ما يُحرّك البشر.
منذ فجر الإسلام، وحتى اليوم، كانت مسألة الفرق بين حفظ القرآن وبين تدبّر القرآن محور نقاش بين الفقهاء ورجال الدين والعامة كذلك، يدعم مثل هذا النقاش ورود آيات كثيرة حول أهمية التدبّر وليس الحفظ والتلاوة فقط، بسم الله الرحمن الرحيم: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا» صدق الله العظيم. فالتدبّر، الذي يعني الفهم والتعلّم والعمل بما ورد فيه من تعاليم، هو بلا شك أكثر تحدياً من الحفظ من دون عناء الالتزام بما ورد فيه.
فالحفظ بالصدور كان من أفضل الأعمال عند نزول القرآن، لأن لا وسيلة أخرى لحفظه آنذاك، حينها كانت الدعوة في فجرها، والتعاليم يمارسها المسلمون بشكل مباشر، والتدبّر كان قدوته ماثلاً بينهم، حتى لقد جاء في السيرة أن عمر بن الخطاب كان يحفظ الآيات العشر، ولا ينتقل لحفظ غيرها، حتى يفهمها ويدرك مغزاها، ومن ثم يطبقها، ويعمل بها في دنياه.
ولم يحث الرسول، صلى الله عليه وسلم، على حفظ القرآن، بل على تدبّره، والعمل به، حين قال: «خيركم من تعلّم القرآن وعلَّمَه»، لذلك عُرِفَ عن الصحابة أنهم كانوا يعملون بالقرآن أكثر مما يحفظونه، عملاً بقوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ» صدق الله العظيم.
لقد وردت مُفرَدَة التدبّر في القرآن أكثر من مرة في إشارة إلى أهمية التفكّر والتأمّل والفهم بغرض بلوغ الهدف والمغزى والمعنى، والتدبّر لا يكون بشكل عشوائي أو مُغرِض، بل هو قريب من التفكّر والإمعان في النظر، بهدف فهم العواقب وتجنّب السيئ منها، والتدبّر صفة من صفات الله، وفقاً لما ورد في القرآن الكريم. بسم الله الرحمن الرحيم: «ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» صدق الله العظيم.
التلاوة والحفظ والقراءة، كلها قد تقود إلى التدبّر، لكنها لا تختزل ولا تغني عن التدبّر، الذي يعني الفهم والعمل بما جاء في الآيات والتعاليم والتشريع، وهو بالتحديد ما يعاني منه المسلمون اليوم، فالقرآن دستور رباني، يُفتَرَض أن يكون معزّزاً للأخلاق، وداعماً للتشريعات، ومنظماً لحياة البشر في ما بينهم، وأداة لتحقيق العدالة والمساواة والرحمة والسلام في ما بينهم، ووسيلة لتأمين الرأفة في كل شيء، إنساناً كان أو حيواناً أو نباتًا، وكل تلك الخصال والصفات لم تتحقق على أرضية الواقع الإسلامي اليوم، مما يعني أننا قد أسرفنا في حفظ القرآن، ربما من دون أن نتدبّر معناه ومغزاه والعمل بهما في الكثير من الأحيان.
في رمضان تتضاعف وتيرة قراءة القرآن وحفظه وتلاوته وارتياد المساجد والدعاء، لكن، أيضاً في رمضان، يزداد البذخ والإفراط في الملبس والطعام والشراب، ولا نكاد نرى سمات التسامح والمحبة والرأفة والصبر بحجة الصيام، على الرغم من الحديث النبوي القائل: «مَن لم يَدَعْ قول الزُّور والعملَ به والجهلَ، فليس للهِ حاجةٌ أن يَدَعَ طعامه وشرابه».
***
كل عام والعالم بسلام ومحبة. رمضان كريم وعساكم من عواده.