حرية ـ (4/3/2025)
فيديل سبيتي
ورد في الميثاق التأسيسي للـ”يونيسكو” أنه ”لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام”، وباتت هذه الجملة التعريف غير المباشر لما تهدف إليها الدبلوماسية العالمية لرسم العلاقات بين الدول المتنازعة أو الحليفة أو المحايدة. وعلى رغم أن ظهور اللغة الدبلوماسية يعود إلى العلاقات البدائية الأولى بين الجماعات البشرية المتنقلة بحثاً عن الماء والكلأ، فإنها لا تزال حتى يومنا هذا الوسيلة الأرقى للتواصل السياسي وأداة لبناء الجسور وتوجيه الرسائل وتجنب النزاعات أو وقفها في بعض الأحيان.
لكن السنوات الأخيرة شهدت تصدعاً في هذا الإطار التقليدي، مع لجوء بعض الزعماء والرؤساء إلى إنتاج لغاتهم الخاصة للتواصل مع الدول الأخرى، وأخرجوا إلى العلن ما يدور داخل الغرف المغلقة التقليدية، وظهرت اتصالات واتفاقات غالباً ما كانت تبقى سرية. وكثير من هذا الإفصاح الدبلوماسي كان ذا تأثير سلبي بسبب تناقضه مع قواعد الدبلوماسية المتعارف عليها، وكان آخر هذه المظاهر اللقاء الذي جمع الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، والذي أظهر ضرباً لقيم الدبلوماسية القديمة بين الدول أمام أعين الكاميرات التي تنقل الحدث مباشرة إلى جميع مواطني العالم. قبلها كان استدعاء ترمب لملك الأردن على حين غرة لطرح مشروع “ريفييرا غزة” واحدة من صور إبعاد الطرق والوسائل الدبلوماسية المعتادة أو الكلاسيكية.
ماذا تعني الدبلوماسية؟
نحدد الشخص الدبلوماسي أو غير الدبلوماسي بناء على كيفية تقديمه لنفسه ولأفكاره، أو لتعبيره عن رأيه أمامنا في أمر قد يخصنا أو لا، ونقصد بذلك أنه لطيف أو غير لطيف. الأمر نفسه ينطبق على العلاقات بين الدول وفي المجتمع الإنساني العام، إذ يُستخدم مصطلح “دبلوماسي” للإشارة إلى الأشخاص الذين يعملون لمصلحة أو بالنيابة عن جهات دولية تعترف ببعضها بعضاً وبشرعيتها من أجل إدارة العلاقات المتبادلة ذات الطابع غير العنيف. أي كأننا توافقنا على أن الدبلوماسية هي ضد العنف، أو أنها وسيلة لمنع العنف قبل وقوعه أو لوقفه بعد اندلاعه.
في العلوم الاجتماعية التي تتناول الإنسان البدائي يقال إن العدائية كانت مسيطرة بين البشر الذين يلتقون أثناء بحثهم عن الغذاء، كما هي حال الرئيسيات من الحيوانات اليوم، وهذا ما كان يؤدي إلى سيطرة مجموعة من دون أخرى على مصادر الغذاء وطرد الجماعة الأخرى. لكن مع توافر الغذاء بما يكفي هذه الجماعات صار بالإمكان وضع قواعد لتوزيعه بما يبعد العنف كوسيلة للسيطرة ولضمان البقاء. أو ربما بدأ الأمر في أول اتصالات “دبلوماسية” بين المجموعات المتصارعة عبر الاتفاق على هدنات من أجل استعادة جثث المحاربين القتلى نتيجة العنف المتبادل، فتكون الدبلوماسية حاجة ناتجة من العنف نفسه.
يرى باحثون في علم اجتماع الإنسان البدائي أن هؤلاء الدبلوماسيين الأوائل كانوا يتمتعون بصفات بقيت هي نفسها السمة المميزة للثقافة الدبلوماسية عبر العصور، فهم غير مسلحين بالضرورة، ويسعون إلى تحقيق أهدافهم بالإقناع، كما كانوا يُعتبرون في مأمن من الأذى من الطرف الآخر. وهذا من حيث المبدأ، على رغم وجود استثناءات كثيرة عن المبدأ العام.
أدى استقرار المجموعات البشرية إلى التفاعل مع المجموعات المجاورة لها بسبب الحاجة إلى تبادل البضائع والمنتجات والحيوانات والأسرى من الفريقين نتيجة النزاعات السابقة التي لم تختف نهائياً حتى زمننا المعاصر. وأدى اتساع المجتمعات المستقرة وتطور عمليات التبادل وتضخمها إلى الحاجة لإبرام اتفاقيات سلام، وكان لا بد من أن يتمتع المبعوثون لإقامة هذا السلام وإبرام هذه الاتفاقيات بسلطات معينة تفوق سلطات بقية أفراد الجماعت، بالتالي إلى مكانة اجتماعية أرفع وإلى معرفة بالقضايا المطروحة. وبحسب بعض الدراسات كان يتم إبقاء هؤلاء المبعوثين كرهائن لضمان تنفيذ الاتفاقيات.
الدبلوماسية في الإمبراطوريات القديمة
كشفت ألواح اكتشفت في تل العمارنة في مصر عن الطريقة التي أدارت بها البلاد علاقاتها مع جيرانها ومع الكيانات البعيدة في الشرق الأدنى خلال الألفية الثانية قبل الميلاد. قبل ذلك كانت السجلات اليونانية القديمة حول العلاقات الدبلوماسية في العالم الهيليني معروفة في القرون الأخيرة قبل الميلاد. وفي الإمبراطورية الهندية القديمة كان كتاب المستشار السياسي ”كوتيليا” المعروف باسم “أرثاشاسترا” خلال عهد سلالة الماوريا قد ترجم إلى لغات عدة في العالم القديم، وكان هذا الكتاب من المدارس الأولى في فن إدارة الدولة وتحسين وتقوية العلاقات الدبلوماسية. أما السجلات الصينية فتبرز الدبلوماسية بين الإمبراطوريات المتحاربة، مما يوضح كيف أدت ضرورات الممارسة الدبلوماسية إلى ظهور أنماط تفكير وسلوك شكلت جوهر الثقافة الدبلوماسية الصينية حينها وفي زمن الإمبراطوريات القديمة، وقد كانت أسساً لممارسات دبلوماسية ما زالت سارية حتى اليوم.
أما الإمبراطورية الرومانية فأقامت علاقاتها الدبلوماسية مع جيرانها وفقاً للقانون الروماني للأمم، وهو شكل من أشكال القانون الدولي الذي فرضته روما من طرف واحد. ومع انهيار الإمبراطورية الرومانية سادت الفوضى في أوروبا الغربية قروناً عدة، لكن الفاعلين الرئيسين استمروا بإقامة علاقات سلمية تتوسط المواجهات العنيفة. وفي عهود الإمبراطوريات الإسلامية الأولى بعد الفتح الإسلامي تشطت الدبلوماسية بعد الفتوحات القائمة على القتال والغزو، وفي المراحل المختلفة وتحديداً بعد الامتداد الهائل للإمبراطورية الإسلامية حتى أوروبا خلال الخلافة العباسية وقبل ذلك خلال السيطرة على إسبانيا في دولة الأندلس، فقد كان لا بد من الدبلوماسية الإسلامية مع كل ممثلي الشعوب التي تعرضت للغزو.
وبعد تفكك الخلافة إلى كيانات متعددة انخرطت في علاقات دبلوماسية مع الدويلات والولايات والممالك والإمارات المتفرقة التي تتمتع بحكم ذاتي في شرق وغرب الإمبراطورية الممتدة في كل الاتجاهات. وفي غالب الأحيان كانت هذه العلاقات الدبلوماسية تتمتن وتثبت وتدوم نتيجة لحروب دموية مترافقة مع الغزو الإسلامي وتمدد الإمبراطورية الجديدة. وكانت هذه العلاقات الدبلوماسية الجديدة القائمة على القوة والسيطرة وانتصار فئة على أخرى أو الناتجة من الحاجة إلى وقف العنف وإرساء السلام بعد حروب طويلة ودموية في سائر أنحاء الأمم والمجتمعات السياسية القديمة، بمثابة الحجر الأساس والمدماك لخلق وتثبيت قواعد الثقافة الدبلوماسية الكلاسيكية التي ما زالت معظم قواعدها متبعة حتى اليوم في الزمن الحديث، مع بعض التطوير الذي يتناسب مع تغيير أشكال الحكم وأنظمته والانتقال من نظم الإمبراطوريات الممتدة جغرافياً والخاضعة لسلطة مركز واحد، إلى الدولة- الأمة الصغيرة ذات الحدود والمصالح المتلاصقة والمتضاربة والمتنافسة.
تحولات القرن العشرين الشكلية
جرى التحول في الثقافة الدبلوماسية الكلاسيكية مع ظهور البعثات الدبلوماسية الدائمة في أوروبا خلال عصر النهضة. وكان وجود بعثات عدة في المكان نفسه يتطلب الالتزام ببعض قواعد البروتوكول الأساسية. ولم يقتصر عمل الدبلوماسيين على التعامل مع الكيانات المضيفة، بل كانت هناك أيضاً علاقات بين مختلف البعثات، مما أدى إلى ظهور ما يمكن تسميته بـ”السلك الدبلوماسي”.
في التبادلات الدبلوماسية الكلاسكية أو ما قبل الحديثة كان يتم اختيار الدبلوماسي من خلفية اجتماعية راقية وربما من عائلة معينة انتمى أفرادها العمل في السلك الدبلوماسي عبر الأجيال، وغالباً ما يكون على ثقافة عالية في الفنون والتاريخ وربما القانون، على أن يتحلى بشخصية جذابة وأخلاق راقية، وأن يتحدث لغات عدة في الأقل منها اللاتينية ثم الفرنسية بشكل إلزامي، وغيرها من اللغات التي ترتفع أهمية بارتفاع قوة وسيطرة الأمة أو الدولة الناطقة بها، فكانت الإسبانية والبرتغالية في عصور معينة، كما هي الآن اللغة الإنجليزية مثلاً. وفي أحيان كثيرة كان على الدبلوماسي الكلاسيكي لكي يؤدي مهامه كرسول لبلاده لدى الأمم الأخرى على أكمل وجه، أن يقوم بتمويل مقره وموظفيه من ماله الخاص، وأن يكون متزوجاً من سيدة ذات مستوى مماثل قادرة على القيام بدور المضيفة المرموقة، فالعمل في السلك الدبلوماسي الكلاسيكي مهنة عائلية أو اجتماعية مرموقة ومتوارثة، وبها تتم الدلالة على الدولة التي يمثلها هذا الدبلوماسي، وكلما ارتفع في رقيّه الشخصي ورقيّ بعثته كلما كان ذلك مرآة للدولة التي يمثلها.
لم يطرأ تغيير كبير على الدبلوماسية الكلاسيكية لقرون عدة، إلا في ما خص هوية الدبلوماسيين وسلطاتهم والمهام المطلوبة منهم، فانتقلت الهيئات الدبلوماسية من كونها مجموعة المبعوثين الشخصيين للحكام وكبار المسؤولين إلى فئات من الموظفين العموميين التابعين لوزارات الخارجية في الحكومات الوطنية، والقاطنين في سفارات بلادهم داخل الدول المستضيفة، وبات مبنى السفارة وقطعة الأرض التي يبنى عليها بمثابة جزيرة مكانية وسياسية تابعة للدولة الأم، وتتمتع الهيئات الدبلوماسية بحصانات سياسية وقانونية لا يمكن للدول المتضيفة التعدي عليها وإلا سيعتبر الأمر تعدياً على الدولة التابعة لها تلك البعثة الدبلوماسية.
بعد الحرب العالمية الأولى لم يكن للدبلوماسيين دور أساسي في إبرام معاهدات السلام لعام 1919، حيث تولى السياسيون هذا الأمر بأنفسهم. وهذا أمر طبيعي خلال حرب هائلة ومدمرة يعلو فيها صوت السلاح على كل ما عداه، فتخفت الأدوار الدبلوماسية في مثل لهذه الحالات ليحل الدور على الجنرالات والسياسيين لإبرام المعاهدات أو لوضع اتفاقات السلام أو الاستسلام الناتجة من الحرب. كما بدأ ظهور الدبلوماسية الاقتصادية نتيجة لأزمة الركود الاقتصادي العالمي الكبير في ثلاثينيات القرن الـ20، فارتفع شأن أنواع مختلفة من دبلوماسيي وزارات الخارجية، لتشمل وزارات الاقتصاد والتجارة والصناعة التي أفرزت أنواعاً جديدة من الدبلوماسيين يتولون مهاماً مرتبطة بالتفاهمات والمساومات والمعاهدات التجارية والاقتصادية، وعلى رغم اختلاف أدوارهم عن دور الدبلوماسي السياسي الكلاسيكي، فإن هذا النوع من الجديد صار جزءاً ثابتاً من الهيئات والبعثات الدولية، حتى إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية.