حرية ـ (5/3/2025)
كارين اليان ضاهر
ينتشر في لبنان أكثر من 11 ألف مولد كهربائي في مختلف المناطق اللبنانية. فقد وجدت المولدات من تسعينيات القرن الماضي كحل بديل بسبب عدم تأمين الكهرباء للمواطنين. وفي الأشهر الأخيرة أعادت الحرائق التي تسببت فيها المولدات الكهربائية في الأحياء السكنية تسليط الضوء على خطورة هذه المولدات المنتشرة بطريقة عشوائية لا تتوافق مع الشروط والمعايير المطلوبة. فمنذ تسعينيات القرن الماضي وجد القطاع كحل بديل عن الماضي في ظل تهاون الدولة وعدم تحمل مسؤولياتها بتوفير التغذية الكهربائية للمواطن اللبناني. ومن حينها تحولت المولدات إلى قنابل موقوتة في الأحياء السكنية تهدد حياة كثر بالخطر، إضافة إلى ما ينتج منها من أخطار صحية وبيئية ومن كوارث مادية وخسائر في حال احتراقها ما يحمل المواطن أعباء إضافية.

ارتفع خطر الإصابة بالسرطان بنسبة 30 في المئة خلال سنوات معينة كما أظهرت الدراسات
حرائق بالجملة
ليست الحرائق الأخيرة التي سجلت في مناطق عديدة في لبنان، الأولى الناتجة من وجود المولدات الكهربائية وانتشارها في الأحياء السكنية بطريقة عشوائية. ومن الأمثلة على ذلك، الحريق الذي اندلع عام 2021 بسبب مولد كهربائي في منطقة الأشرفية في العاصمة بيروت. وفي عام 2023 حصل حريق كبير في منطقة زقاق البلاط في بيروت، إضافة إلى آخر اندلع في شارع الحمرا في بيروت ونتجت منه مشاهد مروعة، وحاصرت النيران سكان المباني واضطروا إلى الهرب عبر السلالم بتدخل فرق الدفاع المدني وفوج إطفاء بيروت. كما تسبب الحريق الهائل الذي اندلع باحتراق عشرات السيارات المركونة في موقف السيارات بعدما تمددت النيران إليها وإلى الشوارع المحيطة، وقد انفجر بعضها، حتى إن هول المشهد دفع المواطنين إلى الربط بين الحريق ومشاهد الحرب الإسرائيلية، خصوصاً أن أعمدة الدخان الناتجة منه شوهدت من مناطق بعيدة من بيروت، وقد تسبب بحالات اختناق بين مواطنين نقلوا إلى المستشفى، وعادت وتكررت هذه المشاهد في حرائق أخرى اندلعت بسبب المولدات الكهربائية في منطقة برج البراجنة ببيروت، وفي مدينة طرابلس في شمال لبنان لأن هذه المولدات لم تستوفِ شروط ومعايير السلامة العامة.
هذه الحوادث كلها ليست إلا نتيجة طبيعية لوجود مافيا المولدات التي تحولت إلى دويلة بعد الحرب الأهلية، وذلك بسبب حال التقنين الكهربائي التي فرضتها الدولة ووزارة الطاقة طوال عقود على المواطن، بدلاً من تأمين الكهرباء له 24/24 ساعة كما في أي دولة في العالم. شيئاً فشيئاً، تمددت هذه الدويلة وتحولت إلى أمر واقع في مختلف المناطق اللبنانية مع ظروف المشاركة الطارئة التي فرضت على المواطنين بسبب عدم قيام الدولة بواجباتها، فإذا بها تتحول إلى قنابل موقوتة في الأحياء السكنية بعدما ضرب أصحابها عرض الحائط بالمعايير البيئية والصحية، وشروط السلامة العامة، علماً أن عدد المولدات الكهربائية في لبنان وصل بحسب إحصاءات “الدولية للمعلومات” إلى 11 ألفاً، منها 3600 توزع اشتراكات على المنازل والمحال في القرى والأحياء. هذا من دون أن ننسى حال التمرد على وضع العدادات والتزام التعريفة التي تحددها وزارة الطاقة.
وتظهر التحقيقات في مواقع الحرائق التي حصلت بسبب وجود المولدات الكهربائية، تداخل عوامل عديدة لعبت دوراً في اندلاع الحريق، ما بين وجود المولد الكهربائي في مكان غير آمن لا تراعى فيه معايير السلامة العلامة، وحصول احتكاكات كهربائية بسبب وجود توصيلات كهربائية للمولد على مقربة من خزانات المازوت، وغيرها من العوامل المسببة للكوارث. كما أن وضع مولد الكهرباء في موقف للسيارات في منطقة الحمرا في بيروت، هو بحد ذاته مخالفة ووجوده يتنافى مع شروط السلامة العامة. إلا أن هذه الحال ليست الوحيدة، فالمخالفات لشروط حفظ المولدات في البلاد لا تعد ولا تحصى، كما أن المولدات التي لا تستوفي الشروط كثيرة.

تكررت الحرائق بسبب الإهمال وعدم تطبيق معايير السلامة العامة في حفظ المولدات
تدخلات خجولة والكوارث كبرى
بعدما حصلت كارثة شارع الحمرا استجاب محافظ بيروت مروان عبود متأخراً بإصدار تعميم منع فيه وجود المولدات في مواقف السيارات وفي الأماكن العامة، منعاً للحرائق ولخسارة الأرواح. هذا إضافة إلى شروط أخرى فرضها التعميم على المولدات وأصحابها.
ثم عادت بلدية بيروت وختمت مستودعاً ومولداً كهربائياً بالشمع الأحمر في منطقة المزرعة في بيروت لعدم استيفاء معايير السلامة العامة، لاعتبار أن تنظيم المولدات وتوزيعها من ضمن مسؤوليات البلديات والإدارات المحلية ووزارة الداخلية، لكن بحسب المتخصصة في الكيمياء التحليلية ومديرة مركز حفظ البيئة في “الجامعة الأميركية” ببيروت نجاة صليبا، كان قد سبق تعميم المحافظ تعميم أصدره وزير البيئة السابق ناصر ياسين يختصر كل المراسيم السابقة، ويمنع بموجبه تشغيل المولدات الكهربائية من دون فلتر وعازل صوت، مع تحديد للزيوت المستخدمة لتلاقي معايير السلامة. كما فرض معايير أخرى مراعاة للسلامة العامة تجنباً لتعريض سلامة وصحة المواطنين للخطر. ويفرض المرسوم شروطاً أخرى صارمة لحماية البيئة، سواء كان كبيراً أو صغيراً. إلا أن محافظ بيروت أعطى مهلة لأصحاب المولدات لتطبيق القرار، ما تعتبره صليبا خطأ ما كان يجب الوقوع فيه. وفيما كان المدعي العام البيئي يلاحق كل الشكاوى ويتابع التعديات، أكد أن هذا القرار الذي أعطى مهلة لأصحاب المولدات يمنعه من متابعة عمله الذي تصفه صليبا بالجدي والمسؤول “لا يمكن الاستمرار بقبول وجود المولدات التي لا تراعي معايير السلامة العامة وتعرض حياة المواطنين للخطر. سبق أن أقمنا حملات توعية عديدة، ومؤتمرات، وتابعنا شكاوى الناس الكثيرة في شأن المولدات التي تشكل مصدر إزعاج لهم لوجودها بينهم، إضافة إلى ما تحمله من أخطار، حتى إن إحدى السيدات كانت قد تقدمت بشكوى لأن المولد وضع بصورة يقفل فيها الطريق بالحي السكني الذي تعيش فيه، ولا منفذ آخر، مما أصبح هاجساً لها، لأنه في حال اندلاع حريق سيكون مصيرها ومصير زوجها المقعد الموت المحتم. الأخطار المرتبطة بوجود المولدات في الأحياء السكنية لا تعد ولا تحصى، وليس هناك من يسمع صراخنا. وكلنا نذكر الحريق الذي تسبب فيه مولد الكهرباء في طرابلس، والكارثة المرتبطة بالدخان المنبعث، والخسائر المادية الكبيرة، وتعرض كثر لخطر الاختناق، إضافة إلى حريق الحمرا الكارثي الذي نتج من وجود المولد في موقف للسيارات دون أية مراعاة لمعايير السلامة. والمخالفات كثيرة أيضاً في منطقة الأشرفية في بيروت وغيرها من الأحياء الكثيرة في العاصمة، ووصلت إلينا أكثر من 30 شكوى استطعناً أن نتابعها ونحقق نتيجة عبر فرض عازل الصوت والفلتر في الأقل، بتدخل المدعي العام البيئي”.
إلى جانب ما تشكله المولودات الموجودة في الأحياء السكنية من أخطار من هذا النوع، كانت صليبا أجرت مع فريق من الباحثين دراسات بين عامي 2010 و2023، أظهرت أن خطر الإصابة بالسرطان ارتفع خلال تلك الفترة بنسبة 30 في المئة. وتصف المواطنين بكونهم “مشروع إصابة بالسرطان” بوجود المولدات بينهم بسبب انبعاثات الديزل، “فمن ينظر إلى العاصمة بيروت يرى أعداد المولدات المنتشرة فيها، وما ينتج منها من تلوث بيئي وصحي، وتسبب هذه المولدات انبعاثات سامة، سواء كانت من تلك القديمة أو الجديدة. ويصدر منها دخان أسود يحوي ثاني أكسيد الهيدروجين المسبب للربو وغيره من الأمراض التنفسية والتهابات العينين. فكل مواطن ينتشق في بيروت هذه الانبعاثات السامة في الهواء، نتيجة فساد السلطة والقيمين على وزارة الطاقة طوال عقود”، بحسب صليبا التي أشارت أيضاً إلى أن قطاع المولدات أصلاً خارج عن القانون، “إلا أن ثمة مستفيدين منه، ومنهم من هم في السلطة ويحققون أربحاً هائلة من خلال هذا الاقتصاد البديل وغيره من الاقتصادات البديلة التي وجدت في البلاد بسبب الفساد، وإذا بهم يفرضون على المواطن تسديد فاتورتين لقاء الخدمات التي يحصل عليها، ومنها الكهرباء، إضافة إلى ما يتعرض له من أخطار كثيرة بوجود المولدات. هي مافيات من ورائها مستفيدون كثر، وليست لهم أي مصلحة بتوفير التغذية الكهربائية للمواطنين والاستغناء عن المولدات. ويبدو واضحاً أن أصحاب المولدات يحظون بحماية من قبل القوى السياسية، فيما يستمر حلم المواطن بزيادة ساعات التغذية الكهربائية إلى ست أو ثماني ساعات”.
لكل وزارة مسؤولية والمسؤولية الأكبر على وزارة الطاقة
لكل وزارة مسؤوليات معينة في ما يتعلق بقطاع المولدات. فتقع على وزارة الداخلية البلديات مسؤولية وقف المخالفات، أما وزارة الاقتصاد فمناطة بالرقابة على التعرفة والعدادات الخاصة بالمولدات فحسب، وفق ما أوضحه المدير العام لوزارة الاقتصاد محمد حيدر، مشيراً إلى أن المطلوب من البلدية والمحافظ التشدد ومتابعة المخالفات والحالات التي توجد فيها المولدات في أماكن غير آمنة تعرض المواطنين للخطر. أما وزارة البيئة فتقتصر مسؤولياتها على إدارة التلوث البيئي الناتج منها، والأخطار الصحية المرتبطة بذلك.
لكن في مواجهة الاتهامات التي يتعرض لها قطاع المولدات رفض الرئيس السابق لتجمع أصحاب المولدات وصاحب المولدات عبده سعادة أن توجه أصابع الاتهام إلى أصحاب المولدات، “فأساس المشكلة ليس هنا، بل في كون وزارة الطاقة تمتنع عن توفير التغذية الكهربائية الكافية للمواطنين. هذا ما أدى إلى توفير المولدات كحل بديل لتوفير الخدمة بما أن الدولة لم تتحمل مسؤولياتها وكانت مقصرة، فكانت تؤمن الكهرباء ساعة واحدة أحياناً، ولو لم توجد المولدات، لتوقفت حياة المواطنين، بما أن الكهرباء أساس كل ما في الحياة في البلاد من سياحة وغذاء ومطاعم ومختلف القطاعات. ولم يكن من الممكن ترك المواطنين من دونها، وكان وجود المولدات ضرورياً لإنقاذ الوضع. أصبحنا نحن المسؤولين ووزارة الطاقة غائبة تماماً. وفي اليوم الذي تعود فيه لتقوم بواجباتها، لا يعود هناك مبرر لوجودنا. من هنا أهمية التصويب على أساس المشكلة. فوزارة الطاقة هي أساس المشكلة لأنها لا تقوم بدورها”.
وأمل سعادة في أن تتغير الأوضاع مع الحكومة الجديدة وتزيد ساعات التغذية الكهربائية لإنقاذ القطاعات كافة، “وإذا اتخذت الأمور مساراً صحيحاً يمكن رفعها عبر تنظيم الأمور وبذل الجهود وتأمين ما لا يقل عن 18 ساعة خلال أشهر و24 بعد ستة أشهر، وعندها ينتهي دور المولدات. أما اليوم، فإذا قطعت الكهرباء لا يتصل المواطن بشركة الكهرباء، بل بصاحب المولد لأنه من يوفر له هذه الخدمة الأساسية في حياته”.
أما في شأن وجود المولدات في أماكن تسبب فيها بالحرائق، فهي موجودة في كل مكان وفي مستودعات ومبانٍ، وقد تندلع الحرائق كما في أي معمل، لأن الخطر موجود دائماً، وفق سعادة مشيراً إلى أن القطاع غير قانوني، لكنه حل لا بد منه، “وحتى اللحظة، بدلاً من تخفيف الأعباء المادية مع زيادة ساعات التغذية، كما وعدت وزارة الطاقة، أتت فواتير الكهرباء لتنافس تلك التي للمولدات، فيدفع المواطن الضعف لقاء الحصول على هذه الخدمة، لكن الخلل موجود في كل القطاعات”، رافضاً أن يظلم هذا القطاع حصراً لوجود مخالفات معينة، “فحالياً ليست هناك خطة لوزارة الطاقة”، وتوقع أن يعود الوضع المأسوي إلى ما كان عليه بعد استخدام الفيول المتوافر خلال أشهر لرفع ساعات التغذية.
أما وزارة الطاقة فردت في اتصال مع “اندبندنت عربية” على ما يقال إن حياة الموطنين تتعرض للخطر بسبب المولدات الموجودة لأن وزارة الطاقة لم تقم بتوفير الكهرباء، بالقول “ما من خطة جاهزة بعد لأن الوزير تسلم مهامه للتو، ولا يزال في طور إجراء مسح لقطاع الكهرباء، وفي مرحلة الإعداد لخطة على أساسه، لرفع ساعات التغذية تدريجاً، لكنه لا يمكن أن يعد بتوفير الكهرباء 24/24 ساعة مع حكومة عمرها قصير. ففي أيام معدودة، ما من حل سحري، لكن يجري العمل حالياً بالدرجة الأولى على الهيئة الناظمة. كما أن المطلوب العمل على تفاصيل معينة ومسح للمناطق متضررة في الجنوب لمعرفة الحاجة إلى محطات جديدة، وغيرها من المسؤوليات الكثيرة التي تتحملها وزارة الطاقة”.
وأكدت الوزارة أن الوزير انكبَّ بعد تسلم مهامه على دراسة الملفات والتفاصيل ليضع خطة علمية وعملية يمكن أن توفر أعلى عدد من ساعات تغذية بأقل كلفة ممكنة لعله يكون من الممكن مستقبلاً توفير الطاقة بصورة مستدامة.
بانتظار بلوغ مرحلة توفير الكهرباء طوال 24/24 ساعة يبقى المواطن رهينة أصحاب المولدات مع ما يرافق وجودها من أخطار يومية يمكن أن يتعرض لها، ومن انعكاسات على صحته وعلى البيئة وعلى حياته. فالتنظيم الأمثل لهذا القطاع الذي لا يعد وجوده قانونياً أصلاً، لا يبدو ممكناً ولم تتمكن الدولة حتى اللحظة من فرض تطبيق معايير السلامة العامة على جميع الأراضي اللبنانية بوجود آلاف المولدات المنتشرة فيها بطريقة عشوائية.