حرية ـ (6/3/2025)
ضمن اختيارات الرئيس دونالد ترمب المثيرة لطاقم إدارته الجديد، جاء انتقاؤه تولسي غابارد عضو الكونغرس الديمقراطي السابقة، التي انضمت إلى الحزب الجمهوري لدعم ترمب، مما أثار كثيراً من التساؤلات حول شخصها من جهة، ومواقفها المختلفة في الداخل والخارج من جهة أخرى.
لم تكن مسيرة غابارد حتى تأكيد تعيينها يسيرة أو ممهدة، بل ملغمة بكثير من الآراء الشخصية المتماسة مع الأوضاع الدولية الساخنة والملتهبة حول العالم.
وتتأتى أهمية مكانتها كمديرة لمجمع الاستخبارات الوطنية من إشرافها على وكالات ذات تاريخ أسطوري من عينة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الأمن القومي، التي تركز كلها على جمع المعلومات الاستخبارية، كما أن منصبها يطلق يديها في موازنة تبلغ نحو 70 مليار دولار سنوياً.
وأثار ترشيح غابارد تساؤلات عدة حول افتقارها الخبرة في مجال الاستخبارات، فضلاً عن اتهامات بأنها كانت صديقة لعدد من الديكتاتوريين مثل بشار الأسد وفلاديمير بوتين.
التساؤلات عديدة ومثيرة جداً، ذلك أن هذا المنصب يطاول الداخل والخارج، ويلقي على صاحبه أعباء كبيرة وخطرة تتطلب خبرات حياتية واسعة.
من غابارد؟ بل ربما ما هو هذا المجمع الاستخباري الكبير الذي ستشرف عليه ويتكون من نحو 16 وكالة استخبارية أميركية ظاهرة للعيان، ناهيك بعدد آخر مؤكد سري لا تعرف بشؤونه أو شجونه سوى أطراف الدولة الأميركية العميقة فحسب؟ ثم كيف لها أن تقود السفينة الاستخبارية الأميركية في ظل توجهات الرئيس ترمب غير المتوقعة؟ بدءاً من العلاقات مع أوكرانيا بنوع خاص، التي قال التلفزيون الروسي على لسان مراسل قناته الأولى إن اختيارها من المرجح أن يؤدي إلى تعقيد العلاقات بين واشنطن وكييف، وهو ما لبث أن يطفو على السطح بالفعل، بمجرد تأكيد تعيينها، ومن خلال الاتصال الأول بين ترمب وبوتين، وما سيليه من لقاء شخصي، بات شبه مؤكد.

غابارد في حفلة ترقيتها إلى رتبة رائد في الـ12 من أكتوبر 2015
ماهية مجمع الاستخبارات الوطنية؟
يتألف مجمع الاستخبارات الأميركي من 17 وكالة استخبارية مختلفة، ومنظمات تابعة تعمل بصورة منفصلة أحياناً، ومجتمعة أحياناً أخرى لإجراء أنشطة استخبارية لدعم السياسة الخارجية الأميركية والأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية. وجرى تأسيس هذا المجمع بموجب الأمر التنفيذي 12333 الذي وقع في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) 1981، من جانب الرئيس الأميركي آنذاك رونالد ريغان.
ويضم هذا المجمع المنظمات المنتسبة في مجتمع المخابرات الأميركية ووكالات الاستخبارات والاستخبارات العسكرية، ومكاتب الاستخبارات والتحليل المدني ضمن الإدارات التنفيذية الاتحادية.
ويشرف ويترأس مجتمع الاستخبارات المكون من 17 عضواً في جماعة الاستخبارات مدير يقدم تقاريره إلى رئيس الولايات المتحدة، ومن بين مسؤولياته المتنوعة يقوم أعضاء المجتمع بجمع وإنتاج معلومات استخبارية محلية وأجنبية، والمساهمة في التخطيط العسكري ووسائل التجسس.
هل من أرقام محددة بعينها عن المؤسسات والمنظمات التابعة لمجمع الاستخبارات الوطنية؟
في عام 2010 ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” أن هناك 1271 منظمة حكومية، و1931 شركة خاصة في 10 آلاف موقع في الولايات المتحدة تعمل على مكافحة الإرهاب والمخابرات وضمان أمن الوطن، وأن مجتمع المخابرات ككل يضم 854 ألف شخص يحملون تراخيص سرية. ولعله من نافلة القول إن المهمة الأولى والرئيسة لهذا المجمع هي التنسيق بين الوكالات الاستخبارية الأميركية كافة، بحيث تخدم بعضها بعضاً، من غير تضاد أو تضارب في ما بينها، ولتجنب تكرار المهمات والأعمال في ما بينها.

ضمن اختيارات ترمب المثيرة لطاقم إدارته الجديد، جاء انتقاؤه تولسي غابارد عضو الكونغرس الديمقراطي السابقة
عطفاً على ذلك، فإن إحدى أهم المهمات الموكلة لها وبها، تقديم رؤى وتحليلات صافية وافية للرئيس الأميركي وفريقه للأمن القومي، ومعلومات على أعلى مستوى من السرية، تتوافر بعد الحصول عليها والتأكد من صدقيتها، ثم تحليل ما فيها من بيانات واستنتاج الخلاصات. وتبدو أهمية هذا المجمع متزايدة في حاضر أيامنا، لا سيما بعد أن باتت سلعة العقود القادمة من القرن الـ21 هي البيانات والمعلومات، وفي غيابها تتخذ الإدارات الأميركية المختلفة قرارات مكلفة قد تؤثر بالسلب في أمن الولايات المتحدة والحوكمة العالمية والحريات المدنية، وخصوصية الأميركيين والشعوب في جميع أنحاء العالم.
غابارد الآتية من جزيرة ساموا
ولدت غابارد في جزيرة توتويلا الرئيسة في ساموا الأميركية عام 1981، لأم من ولاية ميشيغان، وأب ينحدر من أصول ساموية – أوروبية.
بدأت حياتها العامة من خلال خدمتها في الحرس الوطني لجيش هاواي عام 2003، ومن ثم شاركت في بعض العمليات القتالية في العراق من عام 2004 إلى عام 2005، إذ عملت كمتخصصة في الوحدة الطبية، وهناك حصلت على شارة الطب القتالي، وبالوصول إلى عام 2007 أكملت غابارد برنامج تدريب الضباط في أكاديمية ألاباما العسكرية.
عام 2012 أصبحت غابارد عضواً في مجلس النواب بعد فوزها في الانتخابات عن الدائرة الثانية للكونغرس في هاواي، وخلال فترة عملها في الكونغرس، عملت في لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب، إذ قدمت عدداً من مشاريع القوانين المتعلقة بقضايا المحاربين القدامى، كما عملت غابارد في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب. وأطلقت غابارد فترة وجيزة حملتها الرئاسية لعام 2020، لكنها انسحبت وأيدت جو بايدن.
لاحقاً ستغير غابارد من ولاءاتها الحزبية، لتنتقل من مربع الديمقراطيين إلى خانة الجمهوريين، وكان ذلك العام الماضي 2024 لتؤيد المرشح الجمهوري دونالد ترمب.
في الـ13 من نوفمبر (تشرين الثاني) رشح الرئيس المنتخب دونالد ترمب غابارد لمنصب مديرة الاستخبارات الوطنية، مشيراً إلى خبرتها العسكرية وقيادتها.
ودافع أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين عن ترشيحها ضد الانتقادات الديمقراطية، وزعم السيناتور إريك شميت أن الاختلافات السياسية لا تعادل عدم الولاء، في وقت رفض السيناتور ماركواين مولين الادعاءات بأنها تعرضت للاختراق من روسيا.
في الـ27 من يناير (كانون الثاني) 2025 أعرب مسؤولون سابقون في الاستخبارات والأمن القومي عن دعمهم لغابارد، مؤكدين أنها ستساعد في نزع الطابع السياسي عن وكالات الاستخبارات.

جرى تنصيب تولسي غابارد في فبراير كمديرة ثامنة لمجلس الاستخبارات الوطنية من المدعية العامة بام بوندي
وأيد أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون ذوو الميول الليبرالية موقفها المناهض للتدخل، وأكدت نائبة مستشار الأمن القومي السابقة لترمب فيكتوريا كوتس الحاجة إلى قيادة استخبارية جديدة في ضوء الأحداث العالمية، في وقت أشاد رئيس مكافحة الإرهاب السابق في وكالة الاستخبارات المركزية برنارد هدسون بنزاهتها وخبرتها.
كما أيدها مجلس دوريات الحدود الوطنية، والرابطة الوطنية لعمداء الشرطة لالتزامها بالأمن القومي، ووقع أكثر من 250 من قدامى المحاربين بما في ذلك النائب برايان ماست، والقائم بأعمال وزير الدفاع السابق كريستوفر سي ميلر، على خطاب يدعم ترشيحها، كما سلط نائب الرئيس جي دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو الضوء على خبرتها العسكرية وعلى نجاعة عضويتها في الكونغرس كمؤهلات لهذا الدور. على أن ذلك كله لم يمنع أن تعاني بشدة خلال جلسة تأكيد تعيينها، حيث ملفات تاريخية فتحت، وفخاخ واسعة نصبت، ماذا عن ذلك؟
غابارد والولاء لدستور الولايات المتحدة
لعل أهم ما يتطلبه منصب مدير الاستخبارات الوطنية، هو حالة الولاء والإخلاص المطلقة للولايات المتحدة الأميركية، أي ألا يكون هناك ما يشارع أو ينازع الرغبة المطلقة في خدمة البلاد والعباد، ولعل هذا ما كان في صلب جلسات مجلس الشيوخ لتأكيد تعيين غابارد.
في شهادتها أمام لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ في الـ30 من يناير الماضي، تعهدت بفصل إرادتها السياسية عن واجباتها الرسمية، وقالت في بيانها الافتتاحي “أولئك الذين يعارضون ترشيحي يوحون بأنني مخلصة لشيء أو شخص آخر غير الله، وضميري، ودستور الولايات المتحدة، ويتهمونني بأنني دمية ترمب، ودمية بوتين، ودمية الأسد، ودمية المعلم الروحي، ودمية مودي”.
أنكرت غابارد معرفتها بإدوارد سنودن أثناء عملها في منشأة وكالة الأمن القومي في هاواي، ودافعت عن موقفها السابق المدافع عن إصلاح قانون التجسس، بما في ذلك قرار مجلس النواب الذي قدمته مع النائب ميت غيتز.
وطلب أعضاء مجلس الشيوخ من غابارد مراراً وتكراراً وصف سنودن بالخائن، لكنها رفضت مستشهدة بالتداعيات القانونية والسياسية للمصطلح. انتقد السيناتور مايكل بينيت موقفها في شأن المادة 702 من قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية، وأوضحت موقفها مدافعة عن هذه المادة مع تأكيد الحاجة إلى الإصلاحات لحماية الحريات المدنية، بخاصة الدعوة إلى إصدار أوامر تفتيش في بعض استفسارات الأشخاص الأميركيين.
ورداً على المخاوف في شأن الكشف عن المعلومات الاستخبارية صرحت غابارد بأنها ستضمن حصول المبلغين عن المخالفات على قنوات قانونية مناسبة، بما في ذلك خط ساخن مباشر مع مدير الاستخبارات الوطنية، وأكدت للسيناتور تود يونغ أنها لن تحمي أولئك الذين كشفوا عن برامج استخبارية سرية بصورة غير لائقة.
والشاهد أنه على رغم القضايا مثار الخلاف حول مواقف غابارد، فإنه بدا واضحاً أنها، بصورة أو بأخرى، كفوءة لتولي هذا المنصب الحساس والخطر لا سيما في مثل هذا التوقيت.
ولهذا ففي الرابع من فبراير (شباط) 2025 تقدمت لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ بترشيحها في تصويت حزبي بغالبية تسعة أصوات في مقابل ثمانية، وأيد مجلس الشيوخ ترشيحها في الـ12 من فبراير بغالبية 52 صوتاً في مقابل 48، غير أنه من الملاحظ رفض السيناتور ميتش ماكونيل الجمهوري البارز ورئيس الغالبية السابق في مجلس الشيوخ ترشيحها.
وتم تنصيبها في الـ12 من فبراير كمديرة ثامنة لمجلس الاستخبارات الوطنية من المدعية العامة بام بوندي لتصبح أول امرأة مخضرمة في القتال العسكري تعمل كمديرة للاستخبارات الوطنية، وأول أميركية من جزر المحيط الهادئ، وأول أميركية هندوسية تشغل منصب على مستوى مجلس الوزراء.
غابارد نجمة في عالم الرئيس ترمب
هل ستغير غابارد من عالم الاستخبارات الأميركية المثير والخطر لا سيما أن كثيراً من الأصوات باتت ترى أنه لا يكاد يقترب من أن يضحى “إرثاً من الرماد” على حد تعبير الكاتب الأميركي تيم وينر في مؤلفه الشهير، وبخاصة في ظل أزمنة الصعود التكنولوجي والذكاءات الاصطناعية الكفيلة بأن تغير الأوضاع وتبدل الأوضاع حول العالم؟
يبدو أن غابارد ستضحي أداة ترمب غير الظاهرة لتنفيذ مخططاته في شأن الإصلاح الشامل والكامل للمنظومة الاستخبارية الأميركية، وبصورة تتسق ورؤى سيد البيت الأبيض في مواجهة ما يراه بيروقراطية أميركية تقليدية من جانب، والدولة الأميركية العميقة من جانب آخر.
ضمن تصريحات ترمب، أنه يريد إصلاح أجهزة الاستخبارات في البلاد، وهو قطاع من الحكومة الفيدرالية كان ينظر إليه، منذ فترة طويلة، بالشك وعدم الثقة، وألقى ترمب باللوم على وكالات الاستخبارات الأميركية في السعي إلى تقويض إدارته الأولى، وكذلك حملاته الانتخابية لإعادة انتخابه في 2020 .
وبلغ الأمر حد وصف ترمب مجتمع الاستخبارات بأنه جزء من “الدولة العميقة”، وهو مصطلح يستخدمه لوصف آلاف الموظفين المدنيين الذين يعملون في قائمة طويلة من الوكالات الحكومية، الذين لم ينظر إليهم ترمب على أنهم مخلصون بدرجة كافية.
وفي عام 2023 وأثناء عرضه أولوياته لولايته الثانية، قال ترمب “سنقوم بتطهير كل الجبهات الفاسدة في جهاز الأمن القومي والاستخبارات لدينا، وهناك كثيرون منهم”، وأضاف “سيجري إصلاح الإدارات والوكالات التي تم تسليحها بالكامل”.
هل هناك صفقة ما بين ترمب وغابارد من نوعية الصفقات غير الظاهرة للعيان ضمن إدارته، لا سيما بينه وبين إيلون ماسك؟
تبدو قصة مغادرة غابارد المعسكر الديمقراطي مثيرة، وبها كثير من التفاصيل غير المعلنة، لا سيما أن انقلابها على الحزب الديمقراطي جاء مغلفاً بتوجهات أيديولوجية.
بعد عامين من دعمها جو بايدن، وبالتحديد في 2022، تركت غابارد الحزب الديمقراطي لتصبح مستقلة، قائلة إن حزبها القديم كانت تيهمن عليه “عصابة نخبوية من دعاة الحزب”، و”أيديولوجيين مستيقظين”، وبعد ذلك خاضت حملات لصالح عدد من الجمهوريين البارزين، وأصبحت مساهمة في قناة “فوكس نيوز”، وبدأت في إنشاء “بودكاست”.
وفي معرض قرارها ترك الحزب الديمقراطي قالت “اليوم لا يختلف إطلاقاً عن الحزب الذي انضمت إليه قبل 20 سنة”، مما يفيد برفضها حالة التكلس والتحجر التي أصابته.
هل كانت غابارد ورقة ناجحة في حملات ترمب الانتخابية؟ وحان الموعد ليرد لها الجميل؟
يظهر أن ذلك كذلك قول وفعل، إذ أيدت غابارد ترمب في وقت سابق من 2024، وسرعان ما أدى دعمها إلى جعلها تحظى بشعبية كبيرة بين مؤيدي ترمب. وغالباً ما ظهرت إلى جانب روبرت ف. كينيدي جونيور، الذي تحدى بايدن للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي قبل أن ينتقل للترشح بصورة مستقلة، ثم تأييد ترمب في النهاية، إذ مثلت ما زعم ترمب أنه جاذبيته عبر الطيف السياسي.
وساعدت غابارد الرئيس الأميركي في الاستعداد لمناظرته ضد كمالا هاريس في أكتوبر (تشرين الأول)، أثناء مشاركتها في تجمع انتخابي مع ترمب في ولاية كارولينا الشمالية، وأعلنت أنها أصبحت رسمياً جمهورية، ووصفت الحزب الديمقراطي الحالي بأنه “غير قابل للتعرف عليه تماماً” مقارنة بالحزب الذي كانت عضواً فيه.
ولعب مكتب الاستخبارات الوطنية دوراً رئيساً في جهود الحكومة الأميركية للتحديد والكشف عن المحاولات التي تبذلها روسيا والصين وإيران لنشر مزاعم كاذبة ومضللة حول التصويت قبل الانتخابات الأميركية، وتركز أقسام أخرى على التهديدات السيبرانية ومكافحة الإرهاب والتجسس. من هنا يمكننا التساؤل هل ستكون رؤى غابارد السابقة كاشفة عن توجهاتها خلال فترة رئاستها لمجمع الاستخبارات الوطني الأميركي؟
رؤية غابارد للأزمات مع روسيا والصين
تبدو آراء غابارد في كثير من الملفات الخارجية السياسية والاستخبارية، شديدة القرب من رؤى دونالد ترمب، فكلاهما مثير للجدل ويحتمل كثيراً من التفسيرات، ما وصل ببعضهم إلى حد توجيه اتهامات قاسية لغابارد. على سبيل المثال أثارت جدلاً واسع النطاق بسبب آرائها في شأن روسيا، واتهمت بأنها “خائنة” بعد أن قالت إن الولايات المتحدة كانت تمول مختبرات بيولوجية في أوكرانيا.
وقالت غابارد، في تصريحات سابقة، إن هذه المختبرات كانت تستخدم لإجراء أبحاث حول مسببات الأمراض الخطرة، وهو ما يشبه نظرية المؤامرة الروسية التي تقول إن أوكرانيا كانت تصنع أسلحة بيولوجية، وكانت غابارد أكدت بدقة أن الولايات المتحدة تمول المختبرات البيولوجية في أوكرانيا، لكنها لم تذكر مختبرات الأسلحة البيولوجية.
وفي منشور لها عام 2020 على ما كان يعرف آنذاك باسم “تويتر”، ويعرف الآن باسم “إكس” قالت غابارد “مثل كوفيد، لا تعرف هذه الكائنات المسببة للأمراض حدوداً، إذا جرى اختراقها أو المساس بها عن غير قصد أو عن قصد، فإنها تنتشر بسرعة في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة وبقية العالم، مما يتسبب في معاناة وموت لا يمكن وصفهما”.
واتهمت غابارد بنشر الدعاية الروسية، ووصفتها وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون بأنها من “أصل روسي”، وفي مناسبة أخرى أعربت غابارد عما بدا أنه دعم للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ كتبت على “تويتر” “هاجمتنا القاعدة في الـ11 من سبتمبر (أيلول)، ويجب هزيمتها. باراك أوباما لن يقصفهم في سوريا، لكن بوتين هو من فعل ذلك”.
بدا كذلك موقف غابارد من أوكرانيا مختلفاً عن توجهات إدارة بايدن، ففي رسالة فيديو على “تويتر” عام 2022 قال غابارد “أعزائي الرؤساء بوتين وزيلنسكي وبايدن، لقد حان الوقت لوضع الجغرافيا السياسية جانباً، والاحترام والحب للشعب الأوكراني من خلال التوصل إلى اتفاق على أن أوكرانيا ستكون دولة محايدة. لا تحالف عسكرياً مع الناتو أو روسيا، وبالتالي تخفيف المخاوف الأمنية المشروعة لكل من الولايات المتحدة ودول الناتو وكذلك روسيا، لأنه لن تكون هناك قوات روسية أو تابعة لحلف شمال الأطلسي على الحدود غير البلطيقية لكل منهما، وهذا من شأنه أن يسمح للشعب الأوكراني بالعيش في سلام”.
وأبعد من ذلك اتهمت غابارد نائبة الرئيس كامالا هاريس في أكتوبر الماضي بأنها “المحرض الرئيس في بدء الحرب بين روسيا وأوكرانيا”، وقالت إن سياستها الخارجية جلبت الولايات المتحدة إلى “شفا الحرب العالمية الثالثة”.
ومن بين مواقفها التي اعتبرها بعض منهم محيرة، موقفها من الصين، إذ ناشدت الرئيس ترمب إنهاء “الحرب التجارية المدمرة مع الصين”. وكان ذلك في عام 2019، إذ أعادت نشر منشور المستثمر الأميركي راي داليو على موقع “لينكد إن” عام 2023، الذي يقول إن الصين والولايات المتحدة على شفا الحرب، ويدعو إلى علاقات سلمية مع بكين.
غابارد الأسد وإيران ليسوا أعداء
ولعل أكثر تصريح أثار الغبار من حول غابارد هو موقفها من الرئيس السوري السابق بشار الأسد، وقالت غابارد لبرنامج “مورننيغ جو” على شبكة “إم إس بي سي” في عام 2019 “الأسد ليس عدواً للولايات المتحدة، لأن سوريا لا تشكل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة، وجهة نظري أنه سواء كان الأمر يتعلق بسوريا أو أي من هذه البلدان الأخرى، فنحن بحاجة إلى النظر في كيفية تعارض مصالحهم مع مصالحنا أو توافقها معهم”. وفي تغريدة حول التدخل الأميركي في الحرب الأهلية السورية عام 2019 كتبت غابارد “يجب علينا إعادة قواتنا للوطن من سوريا بسرعة ومسؤولية، إن الانسحاب المتسرع الذي أعلنه ترمب من سوريا قد يترك الأكراد عرضة للذبح على يد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي هدد مراراً وتكراراً بمهاجمتهم وغزو الأراضي السورية التي احتلها الأكراد السوريون منذ فترة طويلة”.
أبعد من ذلك أظهرت غابارد موقفاً مثيراً تجاه ترمب في ولايته الأولى، إذ اعتبرت أنه انتهك الدستور عندما أمر بشن ضربة بطائرة من دون طيار على قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني، وهو شخصية عسكرية إيرانية بارزة في عام 2020 .
وقالت في برنامج “فوكس آند فريندز” كان هذا بوضوح عملاً حربياً من جانب هذا الرئيس من دون أي نوع من التفويض أو إعلان الحرب من الكونغرس، وهو ينتهك الدستور بوضوح “إنه يزيد من تصعيد هذه المعاملة بالمثل التي تستمر، وسيستدعي رد فعل خطراً للغاية من إيران، ويدفعنا إلى عمق هذا المستنقع، ويطرح حقاً السؤال لماذا؟”.
لا تبدو غابارد من أنصار البقاء عسكرياً في الخارج فترات طويلة، بل العكس، فقد كتبت في أعقاب اغتيال سليماني على “تويتر” تقول “نحن بحاجة إلى الخروج من العراق وسوريا الآن. هذه هي الطريقة الوحيدة التي سنمنع بها أنفسنا من الانجرار إلى هذا المستنقع، بصورة أعمق وأعمق في حرب مع إيران”.
هل لغابارد مواقف واضحة من بعض الدول الآسيوية الحليفة للولايات المتحدة الأميركية؟
يبدو ذلك بالفعل، إذ أعربت عن معارضتها إعادة تسليح اليابان، حليفة الولايات المتحدة، على رغم التوترات المتزايدة مع الصين التي تزداد إجراماً وعدوانية، على حد تعبيرها. وفي منشور على منصة “إكس” كتبت في السابع من ديسمبر 2023، في الذكرى السنوية للهجوم الياباني على بيرل هاربر في عام 1941، تقول “بينما نتذكر عدوان اليابان في المحيط الهادئ، نحتاج إلى طرح هذا السؤال على أنفسنا: هل إعادة تسليح اليابان، التي تجري حالياً، فكرة جيدة حقاً؟ نحن بحاجة إلى توخي الحذر حتى لا ينتهي الأمر بالقادة قصيري النظر والأنانيين إلى وضعنا وجهاً لوجه مرة أخرى مع اليابان المعاد تسليحها”.
لكن وعلى رغم الآراء الشخصية المتقدمة، يبدو أن هناك تحديات أكثر جسامة تقابل غابارد بوصفها مديرة مكتب الاستخبارات الوطنية، ماذا عن ذلك؟
التحديات الأكثر تنافسية مستقبلاً
المؤكد أن غابارد ستواجه تحديات عالمية مشتركة، بما في ذلك تغير المناخ والأمراض والأوبئة والأزمات المالية، عطفاً على الاضطرابات الإيكولوجية. هنا، وبوصف الولايات المتحدة الأميركية سيدة قيصر، مالئة الدنيا، وشاغلة الناس، سيقع على كاهلها عبء تدبر كثير من التحديات حول المسكونة وليس في الداخل الأميركي فحسب.
أمر آخر سيواجه غابارد، إذ تتفاقم صعوبة معالجة التحديات السابقة العابرة للحدود الوطنية جزئياً بسبب التشرذم المتزايد داخل المجتمعات والدول والنظام الدولي. ولعله من عجيب المفارقات أنه مع تزايد ارتباط العالم من خلال تكنولوجيا الاتصالات والتجارة وحركة الناس، أدى هذا الارتباط ذاته إلى تقسيم الناس والدول وتفتيتها.
تواجه غابارد حالة من عدم التوازن حول الكرة الأرضية، حالة متزايدة على مختلف مستويات التحديات والاحتياجات مع الأنظمة والمنظمات للتعامل معها، بمعنى اضطراب ملامح ومعالم النظام العالمي الحالي والحاجة إلى شكل مغاير من المعايير والتحالفات والقواعد.
تدخل غابارد مكتبها، وهناك جني ينحصر في القمقم العالمي، ذاك الذي يطلق عليه الذكاء الاصطناعي وتبعاته، تلك الكفيلة بتغيير شكل العالم تغيراً كلياً وبصورة غير مسبوقة، مما يعني أن التحديات التقليدية في عالم الاستخبارات والجاسوسية، ستتغير شكلاً وموضوعاً.
أضف إلى ذلك تحديات نظام عالمي جديد، وهياكل قطبية تولد في الرحم شرقاً وغرباً، مما يطرح علامة استفهام هل ستكون غابارد هي الشخص المناسب لمواجهة تلك الأعباء؟ أم سيظهر في نهاية المشهد أنها اختيار صوري من ترمب، يمكنه من إدارة المشهد بمفرده أو مع أياديه الخفية بقيادة وريادة إيلون ماسك المنوط به تغيير شكل أميركا القديمة ورسم ملامح دولة أخرى غير الجمهورية التاريخية.