حرية ـ (6/3/2025)
سوسن مهنا
لاقت الصور الآتية من العاصمة السعودية الرياض والتي جمعت كلاً من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس الجمهورية اللبنانية العماد جوزاف عون ترحيباً وسروراً عند غالبية الشعب اللبناني الذي لطالما انتظر مثل هذه اللقاء خلال الأعوام الماضية.
ورأى اكثر أن القمة السعودية – اللبنانية فتحت الباب على أمل بتنقية الأجواء بعد غيوم غطت سماء العلاقات، اعتبرها مراقبون “سحب صيف”.
البيان المشترك الصادر عقب اللقاء السعودي – اللبناني أشار إلى أهمية التطبيق الكامل لـ “اتفاق الطائف” وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، وبسط الدولة سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية وحصرية السلاح بيد الدولة والتأكيد على الدور الوطني للجيش اللبناني وأهمية دعمه، وضرورة انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية كافة، كما البدء في الإصلاحات المطلوبة دولياً وفق مبادئ الشفافية وتطبيق القوانين.
واقتصادياً اتفق الجانبان على البدء بدرس المعوقات التي تواجه استئناف التصدير من الجمهورية اللبنانية إلى السعودية، والإجراءات اللازمة للسماح للمواطنين السعوديين بالسفر إلى الجمهورية اللبنانية.
التعويل على المجتمع العربي خلال مرحلة إعادة الإعمار
كثيراً ما عوّل لبنان على دعم السعودية ودول الخليج للنهوض والتعافي جراء الأزمات التي ضربته بعد الانهيار الاقتصادي غير المسبوق منذ عام 2019، وبعد الحرب الأخيرة التي خاضها “حزب الله” وإسرائيل لمدة تزيد على عام، والدمار الذي خلفته في عدد كبير من مناطق لبنان وتحديداً في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع شرقاً، إذ يتطلع اللبنانيون للدور الذي ستلعبه الدول العربية والخليجية وتحديداً السعودية في مسار تمويل عملية إعادة الإعمار، لكن الأمر لن يكون هذه المرة كسابق المرات فالأمور لن تكون “شيكاً على بياض”.
لبنان لا يزال في عين العاصفة
ولا يزال المجتمع العربي والدولي ينظر بحذر إلى الساحة اللبنانية، حيث القرار (1701) كما “اتفاق الطائف” وغيرهما من القرارات الدولية لم تطبق بنودها بعد، بخاصة لناحية حصرية السلاح بيد الدولة وعدم وجود أي سلاح غير شرعي، ومن هنا فلن يكون هناك دعم مجاني للبنان، بل ينتظر العالم العربي والغربي خطوات واضحة وجدية من قبل العهد اللبناني الجديد المتمثل في عون ورئيس الحكومة نواف سلام، في ما يتعلق بالإصلاحات ومحاربة الفساد وبسط سلطة الدولة على المعابر الحدودية، كما وسحب سلاح الميليشيات خارج إطار الشرعية، وبالطبع سلاح “حزب الله” الذي لا يزال يتمسك به، إذ نُقل عن قيادي في الحزب قوله قبل ساعات إن “الحزب أبلغ المعنيين رفضه النهائي تسليم سلاحه، ولكنه مستعد لبحث مستقبل هذا السلاح تحت بند الإستراتيجية الدفاعية”.
وتابع القيادي وفقاً لما نقلت عنه الصحافة اللبنانية “أن هناك جهات في لبنان من داخل الحكومة بدأت بإجراء اتصالات وترتيبات مع جهات دولية لفرض نزع السلاح كشرط نهائي للبحث في مسالة تمويل إعادة الاعمار وتأمين الدعم اللازم للنهوض الاقتصادي، وحتى انسحاب العدو الإسرائيلي من النقاط الخمس المحتلة من دون الأخذ في الحسبان مفاعيل وارتدادات هذه المواقف التي تعكس ميلاً واضحاً نحو افتعال مشكلة سياسية وأمنية كبيرة جداً داخل البلاد”.
ومن هنا فإن الصورة التي جمعت بين الرئيس جوزاف عون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان هي بلا شك إشارة رمزية قوية لكنها ليست كافية لتحديد مسار العلاقات بين البلدين، إذ لا يزال ينتظر الرئيس عون كثير من العقبات لينطلق في مسار عهده.

القمة السعودية – اللبنانية فتحت الباب على أمل بتنقية الأجواء بعد غيوم غطت سماء العلاقات
وفي السياق نفسه صدر كلام عن رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري أكد فيه أن لبنان لن يقبل أية محاولات لمقايضة المساعدات بشروط سياسية أو عسكرية، سواء كانت متعلقة بسلاح المقاومة شمال الليطاني أو غيره من الملفات الداخلية، ومشيراً إلى أن إعادة إعمار ما دمره العدوان الإسرائيلي يجب أن يكون أولوية وطنية، وأن لبنان يسعى إلى الحصول على الدعم الدولي من دون التفريط بحقوقه السيادية أو تقديم تنازلات تمس مبادئه الوطنية.
وتساءل مراقبون عن توقيته هذا الكلام قبيل انعقاد القمة السعودية – اللبنانية والقمة العربية، وعلق بعضهم أنه جاء في محاولة لإفشال مفاعيل الإطلالة الأولى لرئيس الجمهورية على الصعيد العربي والدولي، وعند هذه النقطة يراقب اللبنانيون بحذر ما سيلي القمة من خطوات ستكون هي المعيار الحقيقي لقياس مدى تغير العلاقة اللبنانية – السعودية كما العلاقات اللبنانية – العربية في عهد الرئيس جوزاف عون عبر نقل دفة القيادة للشرعية اللبنانية، وتحقيق توازن وإعادة لبنان لموقعه السابق عربياً ودولياً، واحة للثقافة والوسطية، وعندها ستكون المنطقة العربية كما السعودية مستعدة للتعامل مع العهد الجديد، لكن وفق مقاربة مختلفة عما كانت عليه في الماضي، إذ سيكون الدعم مشروطاً بالإصلاحات والاستقلالية عن نفوذ إيران، وستكشف المرحلة المقبلة ما إذا كانت هناك بداية وتحول جدي في العلاقة بين بيروت والرياض كما وبقية العواصم العربية.
السعودية أول دولة عربية اعترفت باستقلال لبنان
مثلت السعودية أحد أبرز الداعمين للبنان منذ مرحلة الاستقلال عام 1943، وهي كانت من الدول الأوائل التي اعترفت باستقلال بلاد الأرز عن الانتداب الفرنسي إضافة إلى مصر، وبعد نحو نصف قرن رعت واستضافت “اتفاق الطائف” الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، ولعبت دوراً محورياً في إعادة بناء الدولة وإعادة إعمار ما هدمته الحرب، بخاصة لناحية دعم الاقتصاد وإطلاق الاستثمارات.
وبعد الحرب تحول الدعم السعودي إلى مسار عملي سياسي اقتصادي من خلال المساعدات المالية الضخمة والمساهمة في إعادة الإعمار ومشاريع استثمارية، ولا سيما في البنية التحتية والقطاعات الحيوية، فضلاً عن تعزيز الاستقرار السياسي عبر دعم الحكومات المتعاقبة، وقد انعكس هذا الدور أيضاً في طبيعة العلاقات مع مختلف الأطراف اللبنانية، إذ سعت الرياض إلى ترسيخ نهج المصالحة الوطنية وإعادة بناء مؤسسات الدولة بعيداً من منطق الميليشيات والصراعات الطائفية.
لكن مع تعاقب الأزمات بعد انتهاء الحرب شهد الدور السعودي تحديات مختلفة نتيجة التحولات الداخلية والأزمات اللبنانية والتغيرات الإقليمية، مما دفع إلى إعادة تقييم مستوى الدعم والدور السياسي، ومع ذلك بقيت السعودية لاعباً محورياً في المشهد اللبناني، سواء من خلال المساعدات الاقتصادية أو عبر جهودها الدبلوماسية لحل الأزمات، ولم يكن هذا الدعم مجرد موقف سياسي عابر بل جاء في سياق رؤية إستراتيجية سعودية تهدف إلى تحقيق الاستقرار في لبنان باعتباره جزءاً من التوازن العربي الإقليمي، ومنع انزلاقه نحو مزيد من الفوضى التي قد تهدد الأمن العربي.
لكن بيروت، وعلى رغم انتهاء الاقتتال العسكري المباشر مع انتهاء الحرب، دخلت منذ حينها وتحديداً بين عامي 1990 و2024 مرحلة وصايتين سياسيتين أثرت بصورة مباشرة وعلنية في شكل وطبيعة العلاقة مع الرياض، تمثلت الأولى بالوصاية السورية التي انتهت بشكلها العلني عام 2005 مع خروج الجيش السوري من لبنان، ثم الوصاية الإيرانية التي اشتدت وترسخت منذ عام 2010 وحتى 2024، قبل أن تضعف بصورة جذرية بسبب الضربات القاسية التي تلقاها “حزب الله”، وقطع غالبية طرق الإمداد الإيرانية التي كانت أساساً في تمويله واستمراريته.

الرئيس كميل شمعون يستقبل الملك سعود بن عبدالعزيز خلال زيارته إلى بيروت في سبتمبر (أيلول) 1957
تاريخ العلاقات السعودية – اللبنانية
بالعودة لما قبل مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية فيمكن القول إن العلاقات السعودية – اللبنانية بدأت رسمياً مع زيارة الرئيس كميل شمعون على رأس وفد لبناني رفيع المستوى إلى السعودية عام 1953 حيث التقى الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، وقد مثلت تلك المحطة نقطة تحول في مسار التفاعل السياسي والاقتصادي بين البلدين، وجاءت هذه الزيارة ضمن رغبة شمعون في تعزيز علاقات لبنان مع الدول العربية، وبخاصة مع تصاعد التوترات الإقليمية إبان ما عرف بـ “الحرب الباردة” بين القوتين العظميين حينها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، مع سعي لبنان إلى الحفاظ على توازنه بين القوى المتصارعة، وبعد مغادرة شمعون الحكم عام 1958 وانتخاب قائد الجيش حينها فؤاد شهاب رئيساً للبلاد، استمرت العلاقات بين لبنان والسعودية في التطور وبرزت السعودية كلاعب رئيس في دعم الاقتصاد اللبناني، إذ شهدت فترة الستينيات والسبعينيات ازدهاراً في التبادلات التجارية والاستثمارات السعودية في لبنان، بخاصة في القطاع المصرفي والعقاري، كما كانت السعودية ملجأ اقتصادياً لكثير من اللبنانيين الذين هاجروا إليها للعمل في مختلف القطاعات، واستمر الوضع على حاله لحين اندلاع “الحرب الأهلية اللبنانية” ومعها تعقدت العلاقة بسبب الانقسام الداخلي في لبنان.
وخلال أعوام الحرب الطويلة لعبت السعودية دور الوسيط في مراحل عدة وأسهمت في محاولات وقف النزاع، سواء عبر الجهود الدبلوماسية أو من خلال دعم الحلول السياسية، ففي عام 1976 استضافت الرياض قمة عربية غير عادية لبحث الحرب في لبنان وسبل إيقافها والتي كانت تعرف حينها بـ “حرب السنتين”، وقد انتهت هذه القمة بتشكيل قوات “الردع العربية” وقوامها نحو 40 ألف جندي سوري في لبنان، وبعدها بأعوام شهدت المنطقة إطلاق مبادرة السلام لحل الصراع العربي – الإسرائيلي ومن ضمنه أحداث لبنان، وتمثلت في مقترح قدمه ولي العهد السعودي آنذاك فهد بن عبدالعزيز عام 1981 رسمياً خلال قمة جامعة الدول العربية في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه في مدينة فاس بالمغرب، وربما كانت أول محاولة لحل النزاع بعد “معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل” عام 1979، وكانت الخطة مصممة لحل الصراع العربي – الإسرائيلي وتحقيق السلام الدائم في المنطقة.
“اتفاق الطائف” والدور السعودي في إنهاء الحرب
في عام 1989 رعت السعودية واستضافت “اتفاق الطائف” الذي أصبح حجر الأساس لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية وإعادة بناء الدولة، وشكل هذا الاتفاق نقطة تحول في العلاقة بين البلدين، إذ تعزز الدور السعودي في المشهد السياسي اللبناني وبرزت السعودية كراعٍ رئيس للاستقرار من خلال دعمها للحكومات المتعاقبة وتقديم مساعدات مالية ضخمة لإعادة إعمار لبنان، وخلال التسعينيات تعمقت العلاقات الثنائية وبخاصة في ظل العلاقة الوثيقة بين رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري والقيادة السعودية، فلعبت السعودية دوراً أساساً في إعادة إعمار العاصمة بيروت وتعزيز الاستثمارات في مختلف القطاعات، كما دعمت الاستقرار السياسي عبر تقديم الدعم المالي والسياسي للحكومات المتعاقبة، ثم أتى اغتيال رفيق الحريري عام 2005 كضربة غير متوقعة للبنان، وعده كثر اغتيالاً للدور السعودي في لبنان، وبعده دخلت العلاقات في مرحلة حساسة تزايدت فيها التوترات السياسية داخل لبنان.
العلاقات خلال العقدين الأخيرين بين التحديات والتغيرات
شهدت العلاقات السعودية – اللبنانية خلال العقدين الأخيرين، وتحديداً بعد عام 2010، مراحل من التوتر والتقارب وبخاصة مع تصاعد نفوذ “حزب الله” السياسي والأمني، مما أدى إلى تراجع الدعم السعودي للبنان خلال بعض الفترات، في مقابل محاولات متكررة للانضمام إلى جهود إنقاذ الاقتصاد اللبناني المتدهور، وقد تصاعد هذا الموقف بعد دخول “حزب الله” في صراعات عدة، ولا سيما في سوريا والعراق واليمن، مما اعتبر تدخلاً في الشؤون العربية والخليجية، وكانت السلطات الأمنية في البحرين والكويت قد اتهمت خلايا مرتبطة بالحزب بالتحريض والتدريب على أعمال تخريبية.
وخلال تلك الفترة من عام 2019 ظهر الأمين العام السابق لـ “حزب الله” حسن نصرالله في خطاب قائلاً إنهم لا يخجلون أن لديهم قتلى من الحزب في اليمن، فجاء اعترافه بوجود مقاتلين وخبراء من الحزب في اليمن بعد مقتل عدد من عناصره بغارات جوية استهدفت معسكرات تدريبية تابعة له ليفاقم الوضع سوءاً، مما دفع دول مجلس التعاون الخليجي والسعودية إلى اتخاذ قرار عام 2016 قضى بتصنيف الحزب منظمة إرهابية، ووفقاً لتقارير صحافية فقد لعب الحزب دوراً أساساً في تطوير الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية التي استخدمها الحوثيون في استهداف الأراضي السعودية.
ما بعد اغتيال رفيق الحريري
ومع تزايد نفوذ “حزب الله” في السياسة اللبنانية وبخاصة بعد اغتيال الحريري عام 2005، وتوجيه أصابع الاتهام إلى الحزب بالضلوع مباشرة في اغتياله بالتعاون مع نظام بشار الأسد في سوريا، وسيطرة الحزب على المشهد السياسي حكومياً ورئاسياً ونيابياً، اعتبرت الرياض أن الحزب يعطل المؤسسات اللبنانية ويستخدم لبنان كمنصة لخدمة مصالح إيران، وليس بعيداً من هذا السياق قرار السعودية وقف الاستيراد من لبنان عام 2021 بعد العثور على كميات كبيرة من الـ “كبتاغون” في شحنات لبنانية متجهة نحو السعودية، وكذلك أتت مواقف وزراء خارجية لبنانيين خلال الأعوام القليلة الماضية، محسوبين على أحزاب قريبة من الحزب ومتحالفة معه، ضد الرياض لتفاقم الوضع سوءاً.
وفي نهاية عام 2021 أعلنت السعودية استدعاء السفير السعودي في لبنان للتشاور، وطلبت مغادرة سفير لبنان لديها خلال 48 ساعة بسبب التصريحات المسيئة للرياض والتي صدرت عن وزير الإعلام اللبناني حينها جورج قرداحي حين دافع عن الحوثيين.
انفتاح مشروط
يراهن كثر اليوم أنه ومع وجود رئيس جديد في لبنان شدّد على “الإيمان بدور السعودية التاريخي في مساندة لبنان والتعاضد معه، وتأكيداً لعمق لبنان العربي كأساس لعلاقات لبنان مع محيطه الإقليمي”، فهناك فرصة لإعادة بناء العلاقات، لكن هذا يتطلب ضمانات لبنانية واضحة حول السياسات الخارجية والإصلاحات الاقتصادية ودور ونفوذ “حزب الله”، كما أن أي انفتاح سعودي جديد على لبنان سيكون مشروطاً بتحقيق توازن داخلي مع استعداد الدولة اللبنانية لاتباع سياسات أكثر استقلالية وبعيداً من المحاور المتناحرة.