حرية ـ (8/3/2025)
فيديل سبيتي
غالباً ما تتناول المواضيع المتعلقة بالمرأة في يومها العالمي، الثامن من مارس (آذار) من كل عام، العناوين العامة التي تتناولها منظمات الأمم المتحدة بصورة مكثفة، مثل المساواة بين الجنسين والعنف ضد المرأة والمراهقات وتأثير الحروب على المرأة والأسرة، كونها وأطفالها الحلقة الأضعف خلال الحروب التي تقع نتائجها الفعلية الواقعية عليهم.
تتطرق المواضيع أيضاً إلى السلطة الذكورية العائلية أو الاجتماعية أو في مؤسسات العمل على المرأة، ومن ثم التحرش الجنسي وختان الفتيات في بعض المجتمعات، والعنف الأسري، والتمييز القانوني أو التشريعي، سواء المدني أو الديني، في حق المرأة.
هذه العناوين كلها واقعية وملموسة في جميع المجتمعات البشرية المعاصرة تقريباً، حتى في المتقدمة منها، ورغم التطور على كل المستويات، سواء الاجتماعية أو الصناعية أو التقنية أو في عوالم التواصل والاتصالات، فإن معاناة النساء لا تزال قائمة كما لو أننا لا نزال في مجتمعات بدائية تقليدية محافظة.
لكن من جهة ثانية، يمكن القول إن تناول المرأة والنساء والفتيات من هذا المنظار فحسب يبدو وكأنه تقليل من فاعليتهن وقدراتهن التي يمارسنها فعلياً وعملياً في الحياة الاجتماعية اليومية الجارية، سواء كان ذلك بصورة منظورة أو بصورة خفية داخل آلة العمل والإنتاج وفي دفع مسار تطور المجتمعات البشرية.
لذا، فإن الإضاءة على دور المرأة الإيجابي الذي أدته عبر التاريخ والعصور منذ العصور البدائية حتى اليوم قد يعطيها كثيراً من الحق الذي تطلبه وتستحقه، خصوصاً أنها ليست نصف المجتمع فحسب كما اعتدنا على الترداد، بل هي أولاً الكائن الذي يحقق بقاء الجنس البشري في رحمها، وعمود الأسرة ومنشئتها وبانيتها ومبقيتها على قيد الحياة في عالم الصراع أو التنازع من أجل البقاء لتحقيق عيش كريم، إن لم نقل عيشاً مرفهاً أيضاً في عصرنا الحالي.
نجمة الأساطير
كثيراً ما كان للمرأة في سائر المجتمعات الإنسانية دور أساس في تطوير ثقافتها وحضارتها، وهذا ما يدل عليه حضورها في الأساطير والدين والفنون والسياسة بصورة متباينة على مر العصور. ففي بعض الأزمنة القديمة كانت الآلهة الأنثى مهيمنة على السماء والأرض معاً، وتملك القوة الأعلى، فتجسد الحكمة والخصوبة والحرب والطبيعة المعطاء. وخارج الأسطورة برزت النساء كقياديات حاربن في معارك شهيرة كان لها دور أساس في تغيير مسار التاريخ. وفي مجال الأدب كن شاعرات أبدعن، ومفكرات أسسن مدارس فكرية وفلسفية وتعليمية بارزة، خصوصاً في المدارس الإغريقية واليونانية القديمة وفي حضارات الأنهار المستقرة عموماً.
في حضارات بلاد ما بين النهرين ومصر القديمة، كانت الآلهة الأنثوية مثل إنانا السومرية وإيزيس المصرية وأثينا اليونانية تمثل القوى الإلهية العليا والقوى المجتمعية الأرضية الفاعلة والمؤثرة، وتمتلك وتمارس سلطات واسعة. وحتى لدى الشعوب الصغيرة كالكنعانيين والفينيقيين والآراميين، ازدهرت الآلهة الأنثوية مثل عشتروت وأليسار وحتحور، وكان لها دور محوري في تشكيل العوالم الروحية والاجتماعية للمجتمعات البشرية السائرة في طريق تطورها وتقدمها.

هي أولاً الكائن الذي يحقق بقاء الجنس البشري في رحمها
أما في الأديان الإبراهيمية فقد تجسد حضور المرأة بصورة رمزية أولاً ثم بصورة واقعية. فزوجتا النبي إبراهيم، هاجر وسارة، وهما والدتا إسماعيل وإسحاق، كانتا بمثابة النبع لمسارين تاريخيين متقابلين، وهما مسار اليهود والعرب، ولا يزال تأثيرهما حاضراً حتى يومنا الحالي، إذ تقوم الاتفاقات الإبراهيمية المزمعة بين العرب وإسرائيل على فكرة التقارب بين النسلين القادمين من أمين ومن أب واحد. كذلك، في الموسوية، كان لآسيا زوجة الفرعون ولأم النبي موسى دورهما الرئيس، وقد تم تمجيدهما لهذا الدور. بينما تقابلهما في الديانة المصرية نفرتيتي وحتشبسوت، وهما ملكتان واقعيتان كان لهما دور أساس في تغيير وتبديل مسار التاريخ المصري القديم في عهود حكمهما.
وفي المسيحية، لا يخفى دور السيدة مريم التي جسدت الطهارة والمحبة والعطاء، وقد لقيت تعظيماً كبيراً في سائر الأديان أو لدى الفرق والمذاهب الدينية المتفرعة عن الديانات الإبراهيمية الثلاث في ما بعد.
أما في الإسلام، فكان دور السيدة خديجة بنت خويلد، الزوجة الأولى لنبي الإسلام، أساساً في إطلاق الدين الجديد ودعمه سياسياً ومالياً، وهي التي كانت من أشراف الجزيرة العربية وأثريائها. أما لدى المذاهب المتفرعة عن الإسلام، فهناك دور إضافي لنساء النبي الأخريات، أو لابنته فاطمة، أو لبنات الصحابة لا يمكن لأحد إنكاره في مسار الإسلام وتقدمه في الحضارة الإنسانية العامة.
في الحرب والسياسة
هذا العرض يبين أن دور المرأة منذ العصور القديمة لم يقتصر على الأسطرة، بل تعداه إلى الواقع الحقيقي في ميادين السياسة والحروب، وعلى مر العصور، قادت النساء جيوشاً وحكمن دولاً مثل كليوباترا ملكة مصر التي استخدمت الدبلوماسية والزواج كأدوات للحفاظ على استقلال البلاد. كما قادت زنوبيا العربية تمرداً ضد الإمبراطورية الرومانية، في حين عززت الملكة إليزابيث الأولى مكانة إنجلترا كقوة عالمية، والأمر نفسه ينطبق على الملكة التي عاصرتها في روسيا كاترين الثانية. ولا يقل دور مارغريت تاتشر وأنغيلا ميركل في العصر الحديث عن تلك الملكات في قيادة بلادهن إلى مواقع بارزة في السياسة العالمية، بينما كانت القديسة جان دارك قد سطرت بطولتها في قيادة الجيش الفرنسي خلال حرب الـ100 عام.

ركيزة الركائز في عالم الصراع والتنازع من أجل البقاء
وظهرت في العصور القديمة النساء الشاعرات والكاتبات مثل إنخيدوانا السومرية، التي تعد أول شاعرة معروفة في التاريخ. وفي الحضارة الهندية القديمة كانت النساء مؤثرات في تطوير الموسيقى والرقص والفن القصصي، وقد أبرزت قصص “ألف ليلة وليلة” التي بات من شبه المؤكد أنها مترجمة عن اللغات الهندية دور المرأة في مثل هذه المجالات المهمة في تطوير الحضارة الإنسانية، ولا يخرج دور شهرزاد راوية الألف ليلة وليلة للملك شهريار عن هذا الإسهام، فحتى لو كانت مجرد شخصية روائية في هذه القصص فإن دورها هو الأساس في السيناريو العام، إذ إنها بقرارها وقف قتل النساء على يد الملك المنتقم كانت تروي له كل ليلة حكاية قبل أن ينام، وهكذا صنعت بهذه الرواية الملحمة الكبرى لهذه القصص التي ترجمت إلى كل لغات العالم وصارت منهلاً أدبياً وفكرياً وثقافياً وسينمائياً وروائياً لكل ثقافات العالم، وصارت شخصيات ألف ليلة وليلة معروفة لدى كل الأعراق والأجناس ونجوماً في مؤسسة “ديزني” مثلاً.
في الحضارة اليابانية القديمة برزت أسماء نسائية في الأدب والشعر مثل الشاعرة اليابانية موراساكي شيكيبو، التي تكرست كإحدى أهم الشاعرات والفيلسوفات في الأدب الياباني القديم تضاهي بأفكارها وآرائها أهم الفلاسفة اليابانيين المعروفين. وبرزت نساء مثل فاطمة الفهرية التي أسست جامعة القرويين في فاس بالمغرب، إحدى أقدم الجامعات في العالم، وهناك أسماء كثيرة يمكن تعدادها في العالم العربي مثل شجرة الدر، ونساء البلاط في عصور الخلافة اللاتي كن ذوات تأثير خفي على قرارات الخلفاء.
المرأة محرك الاقتصاد
لعبت المرأة دوراً محورياً في مسار الاقتصاد داخل المجتمعات البشرية، سواء في المجتمعات الزراعية أو الصناعية. ففي المجتمعات البدائية، كانت النساء مسؤولات عن جمع الغذاء وصيد الحيوانات الصغيرة وتأمين الغذاء اليومي وتنظيم الحياة الأسرية وتربية الأطفال وإبقائهم على قيد الحياة في ظروف صعبة جداً، وهو دور كان أساساً لضمان بقاء الجنس البشري نفسه. ومع تطور الزراعة واستقرار البشر كان للمرأة دور كبير في التحول من حياة الصيد والترحال إلى تكريس هذه الحياة المستقرة الجديدة، فالمرأة هي المزارعة والفلاحة الأولى ومربية الدواجن والحيوانات المستأنسة. ووفقاً للبحوث الحديثة، فإن المجتمعات التي اعتمدت على الصيد والجمع كانت النساء فيها يمثلن المصدر الرئيس للسعرات الحرارية اليومية عبر البحث عن الطعام، وهو دور يتطلب معرفة واسعة بالطبيعة والبيئة.

معاناتها لا تزال قائمة كما لو أننا لا نزال في طور البداوة
وفي العصر الصناعي الحديث، المنطلق في بدايات القرن الـ18، انتظمت النساء في العمل بالمصانع، فأسهمن في الإنتاج الصناعي رغم ظروف العمل القاسية. وحين حمل الرجال البنادق في الحربين العالميتين الأولى والثانية، خرجت النساء من البيوت إلى المصانع وحركن عجلة الحياة البشرية التي كان يمكن لها أن تتوقف بسبب غياب الرجال في حال لم تتدخلن في تسييرها، سواء في المصانع الحربية أو في مصانع الإنتاج على اختلافها. وكان لهذا التدخل دور أساس في ارتفاع صوت المرأة المطالبة بمساواتها في الحقوق والواجبات مع الرجل أو الذكر بعد قرون من الاستبداد الذكوري الممارس عليها لأسباب كثيرة تناولتها الأبحاث والنظريات.
قبل ذلك، وخلال الثورة الصناعية في القرن الـ19، أصبحت النساء جزءاً أساسياً من قوة العمل في المصانع، بخاصة في صناعة النسيج. ورغم الأجور المنخفضة كان عملهن أساساً في بناء الاقتصادات الحديثة.