حرية ـ (9/3/2025)
أزهر جرجيس يعتمد الكوميديا السوداء ليواجه سجن الحياة
عند الانتهاء من قراءة رواية “وادي الفراشات” للروائي العراقي أزهر جرجيس (دار الرافدين، دار مسكلياني)، تراود القارئ انطباعات عدة، أحدها أن الروائي قدم رواية غارقة في السوداوية على خلاف عنوانها الذي يوحي بالتفاؤل والأمل، ومع ذلك لم تكن السوداوية التي تضمها صفحات هذه الرواية مقلقة حقاً، لأن جرجيس كان ذكياً في عرض كل هذا السواد بأسلوب ساخر، محولاً تلك الكآبة إلى كوميديا سوداء، يرويها بطل لا يتوقف عن التهكم والسخرية حتى من نفسه تماماً كما سخرت منه أقداره البائسة.
ابن بغداد

الرواية العراقية (دار الرافدين – مسكلياني)
يفتتح أزهر السرد بصوت شخصية عزيز عواد، بحيث نجد أنفسنا معه داخل فضاء السجن، يروي لنا بأنه معتقل، من دون أن يكشف عن سبب اعتقاله، وأثناء وجوده هناك يتلقى زيارة من خاله جبران، الذي يجلب له مجموعة من الهدايا، من بينها دفتر غامض يحمل عنوان “دفتر الأرواح”، وعندما يتصفحه عزيز متأثراً ينتقل به الزمن من الحاضر إلى الماضي، فيستعرض شريط حياته منذ طفولته ومراهقته، مروراً بوفاة والده والمرحلة الثانوية من دراسته إلى فشله في الدراسة بسبب اعتكافه في مكتبة الخال جبران وتعلقه بالكتب.
في نهاية المطاف يجد عزيز نفسه مضطراً إلى اختيار كلية الفنون المسرحية، وهناك يغرم بتمارا، الشابة الفاتنة والثرية، فيصمم على الارتباط بها على رغم ظروفه الصعبة وفقره. ولكن سرعان ما يصطدم بواقع الحياة الزوجية التي تطيح الرومانسية، فهو يصبح مسؤولاً عن إعالة أسرته ومضطراً إلى العمل الكادح لضمان حياة كريمة، يعبر عن هذا قائلاً: “أما أنا فأدركت أن الشهادة الجامعية، في بلد يضرب الجوع خاصرتيه لهي أدنى قيمة من المسمار الذي يشدها إلى الحائط”.
تدور أحداث الرواية في مدينة بغداد وضواحيها، فتكون أكثر من خلفية للأحداث بل بطلة ثانية للحكاية، فغالباً ما يكتسب المكان أهمية في الرواية عندما ينجح الكاتب في تأثيثه بذكاء. وهذا ما فعله أزهر جرجيس، إذ أخذ القارئ في رحلة بين شوارع مدينة بغداد ومكتباتها، مستخدماً اللهجة العراقية في بعض الحوارات، مما يجعل القارئ قريباً من واقع الشخصيات ومتعاطفاً معها، وتحديداً عزيز، الذي يلاحقه النحس والحظ العاثر من بداية الرواية حتى نهاياتها، وهو صنو الشاب العراقي الذي يرى أحلامه تموت أمام عينيه، عاجزاً عن عيش حياة طبيعية في واقع قاسٍ وبلد تهيمن عليه المحسوبية والوجاهة، يموت فيه المواليد الجدد بسبب نقص الأدوية، ويعتقل فيه الأبرياء تحت شبهات تعسفية.
بساطة وقوة

الروائي أزهر جرجيس
يمكن لأي قارئ أن يلاحظ أن أزهر جرجيس لم ينشغل في روايته بالتجريب أو استخدام تقنيات معقدة، بل اختار أسلوباً يميل إلى السرد البسيط، كان واضحاً أن لأزهر حكاية يرغب في أن يرويها بطريقته، وهدفاً روائياً محدداً يسعى إلى الوصول إليه، من دون أن يفقد السيطرة على مجريات الأحداث أو مصائر شخصياته، تمكن من توجيه السرد محافظاً على تماسك النص، بحيث يجد القارئ نفسه مستمراً في القراءة بسلاسة على رغم مأسوية الأحداث وبؤس حياة الشخصية الرئيسة، اختار جرجيس أن يروي بصوت ضمير المتكلم، متقمصاً صوت عزيز عواد، ومستخدماً تقنية الاسترجاع الزمني للعودة إلى الماضي.
أما الزمن الروائي فقد اتخذ طابعاً دائرياً، وانتهى عند النقطة التي بدأ منها، لحظة تسلم “دفتر الأرواح”، وعلى رغم العناية الكبيرة التي أولاها الكاتب للمكان، فإن الزمن بدا مهمشاً، إذ لم يعط ما يكفي من المؤشرات لجعل القارئ مستحضراً في سياق نهاية التسعينيات، مما يجعله يتخيل أن الأحداث قد تجري في أي فترة زمنية.
ولعل ما يمكن ملاحظته على الرواية أن أجمل فصولها وأكثر ما يميزها لم يحظَ بالمساحة الكافية التي يستحقها، فمع التقدم في القراءة تبدو الرواية تقليدية إلى حد ما، تتشابه وتتقاطع مع عديد من الروايات، التي تسرد معاناة شاب طيب يكافح لإثبات نفسه، وتحقيق استقرار مهني وعاطفي.
في هذه المرحلة لا يبرز في الرواية عنصر فارق يميزها، حتى الوصول إلى ذروة الأحداث عند وادي الفراشات، في الصفحة 169، الذي شكل مفاجأة غير متوقعة قلبت مسار السرد تماماً، ويتجلى هذا المنعطف عندما يصل عزيز عواد إلى مقبرة صغيرة خارج مدينة بغداد، وهو يقل زبوناً أثناء عمله كسائق تاكسي، فيصف لنا الراكب على أنه رجل غريب الأطوار، يشبه الدراويش في هيئته، اسمه “بدري النقاش” يجمع جثث الأطفال المهملة كي يدفنها في الوادي، وكأن أرواح هؤلاء الأطفال تتحول إلى فراشات مضيئة تحوم فوق قبورهم، في صورة رمزية بديعة تمنح الرواية عمقاً مدهشاً وبعداً إبداعياً فريداً، كان من الممكن أن يكون تيمة رئيسة للرواية، لكن أزهر خصص لهذا الجزء مساحة سردية محدودة واستهلك معظم الصفحات في تفاصيل يوميات عزيز عواد ومحاولاته المستمرة للنجاة وتحقيق أحلامه في بغداد.
الذكاء والسذاجة
تتسم شخصية عزيز عواد بذكاء حاد وسخرية لاذعة، إذ يواجه أكثر اللحظات ألماً وبؤساً بنبرة ساخرة، مما يضفي على الرواية طابع الكوميديا السوداء، وعلى رغم حدة الذكاء، تعاني الشخصية سذاجة واضحة، وهو ما يعترف به عزيز نفسه، إذ يقع مراراً في ورطات يصعب تبريرها، ومنها حادثة التحرش التي أدت إلى فصله من عمله في الأرشيف، حين حاول – بحسن نية كما يدعي – ستر زميلته بعدما تمزقت تنورتها، لكنه وجد نفسه متهماً بدلاً من ذلك، إضافة إلى ذلك يحمل كتاباً ممنوعاً ويخفيه في مكتبة خاله، مما يتسبب في إغلاقها، على رغم أن خاله كان الشخص الوحيد الذي يساعده دائماً، كذلك فإن سوء تقديره للأمور يدمر زواجه، إذ تفقد زوجته ثقتها به وترفض العودة إليه، أما أكثر تصرفاته إثارة للدهشة فهي حمله جثة طفل كبير على المقاعد الخلفية لسيارته، غير مبالٍ بالحواجز الأمنية، مما يقوده إلى سجنه الأخير بعد سلسلة من الاعتقالات لأسباب غريبة وغير منطقية.
هذه المفارقات تجعلنا نتساءل حول هذا التناقض، إن كان مأزقاً فنياً في بناء الشخصية، أم يعكس طبيعة الإنسان البشرية التي تحمل تناقضات كثيرة، فالعالم مليء بأشخاص غريبي الأطوار، أذكياء يقعون في مواقف غبية، وأفراداً يتصرفون بعكس ما يتوقع منهم، عزيز عواد هو من تلك الشخصيات الروائية التي تشعر بأنها نابضة بالحياة، تجعلك تتخيل ملامحه ومنزله وعائلته، وكأنه شخص حقيقي لا مجرد شخصية من وحي الخيال، حتى الجانب الفانتازي في رواية “وادي الفراشات” سُرد بطريقة تصدق!
اختار الروائي العراقي أزهر جرجيس لرواية “وادي الفراشات” نهاية سعيدة، تحمل جرعة من الأمل والإيجابية، ربما تعبيراً عن أمله الشخصي في مستقبل أفضل لمدينته وبلده، الذي دفن فيه أحلام شخصياته، ينهي أزهر الرواية فجأة برسالة واضحة: “كلا، ما زال هنالك أمل” مما يذكرنا بأغنية فيروز: “إيه في أمل” التي غنت فيها الأمل وهي تحكي في الواقع انطفاءه وانتهاءه.