حرية ـ (10/3/2025)
من قال إن زمن الملاحم الشعرية ولَّى إلى غير رجعة؟ ومن قال إن الأساطير انطفأ نجمها وغارت مع مبدعيها في ظلمات الماضي السحيق، حيث لن يبزغ لها نجم أو يضيء كوكب ثانيةً؟ ولئن صح أن آخر ما بلغنا، نحن العرب من نتاج الملاحم المنقولة إلى لغة الضاد هي الإلياذة، مطلع القرن الـ20 (1904)، على يد سليمان البستاني وابتداعه مقدمة يقارن فيها بين جاهلية اليونان وجاهلية العرب، فإن استضاءة الشعراء العرب المحدثين بمآثر الملاحم وأساطيرها وما تحمله من دلالات عابرة للأزمنة ومعبرة عن عمق مشاعر قائلها، ما برحت أسلوباً مميزاً لهم من سائر الشعراء، أعني بهم الشعراء التموزيين وغيرهم.
ولكن أن يدعو الشاعر الإماراتي، وهو الشاعر عادل خزام (1963) شعراء من العالم قاطبة إلى جانب شعراء عرب إلى صوغ ملحمة شعرية، إنسانية كونية، يكون فحواها انشغالات إنساننا المعاصر وانهمامه بالقضايا المصيرية التي تؤرق وجوده، فهي لعمري مبادرة جديرة بالتنويه والإضاءة عليها، ومساءلتها في آفاقها التي توخت افتتاحها أمام المعنيين، قراء وشعراء ومشتغلين بالثقافة والأدب العالميين.
“مانسيرة” أو سيرة الإنسان

الكتاب الشعري
إذاً، بالعودة إلى الكتاب الملحمة الصادر حديثاً (2024) عن دار التكوين – دمشق، يعد أول ملحمة إنسانية الطابع بصياغة جماعية، شارك فيها 86 شاعراً وشاعرة، من بلدان العالم (إيطاليا وبلجيكا والبرتغال وإنجلترا وكولومبيا وناميبيا وألبانيا وطاجيكستان وأستونيا وإيران والأرجنتين وسيرلانكا وأستراليا واليابان والدنمارك ونيوزيلندا والبرازيل وكوريا إلى جانب شعراء من غالب الدول العربية المشرقية والمغربية، إضافة إلى الشاعر الإماراتي عادل خزام). أما حكاية تأليف هذه الملحمة الشعرية الفريدة في مطلع القرن الـ21 فيرويها الشاعر المؤلف عادل خزام في المقدمة قائلاً إنه لما آتته فكرة تأليفها الجماعي، عمد إلى الاتصال بجمع من الشعراء والشاعرات، من دول وحضارات متنوعة، عارضاً عليهم فكرة تأليف هذه الملحمة، حتى إذا قبل الانتظام في المشروع، وكتب جزءاً أو بعضاً من فصل في الملحمة، ليرسله إلى شاعر آخر. وهكذا دواليك، إلى أن يكتمل الفصل، فيترجم إلى العربية ويصحح، ثم تعاد كتابته إلى أن يبلغ تمامه.
وقد تألفت الملحمة من 16 فصلاً بعناوين تساعد المؤلفين الشعراء على تركيز قصائدهم في ما له صلة بما يمكن أن تشمله الملحمة عن موضوع الإنسان والإنسانية، على مدى الأزمنة، وصولاً إلى زمننا الحاضر، من مثل أساطير البشر الأولى، ودوران الإنسان في الجغرافيا والزمن، والبشر مركز الكون، وزوايا وعينا الأعمى، وممالك الصمت، ونبوءة الفناء، ونحن بشر رماديون، ومجتمع القنبلة الذرية، واللامتناهي ملكنا أيضاً، وعناوين أخرى.
أساطير البشر ودورانهم في الأرض
في الفصلين الأول والثاني، على التوالي، يعالج الشعراء أساطير الأولين، لما أدركوا عظمة الخلق، ومضوا يسائلون الغيب عن أسرار الكون، ويحارون في تعيين القدرات المسيطرة على وجودهم، وعلى هذا رأيتهم ينشئون أساطير التكوين الأولى، من دون إغفالهم مآسي البشر ونكباتهم المتتالية حتى كتابة هذه السطور. ومن هذا القبيل كان منطلق الشعراء الذين راحوا يحاكون الأزمنة، ويصوغون ما اعتبروه أساطير إخوانهم في الأزمنة الغابرة، ويقولون:

الشاعر عادل خزام
“في البدء كان العالم شيئاً واحداً/ لا غرب لا شرق، لا وضوح ولا غموض/ ولا البداية تعرف أن لها نهاية/ ولا النهاية بدأت، أو صار لها مؤيدون…” (ص20). “من الظلام الدامس/ من وقت يتمدد ممطوطاً إلى ما لا نهاية/ قبل البشرية/ هناك، عندما انفجرت الأشكال كلها…” (ص22). “تقول سيرتنا: ذات مرة كان هناك الفراغ العظيم/ الذي نشأ منه الكون/ ومنه استيقظت الحياة، ونبت الإنسان…” (ص23).
وبينما يعرض الشعراء، لمحاً وإيجازاً، لأساطير البشر الأقدمين، لا يجدون ضيراً في تحويل بعض الأساطير، وإضافة أبعاد فلسفية تنمى إلى موسوعية الشعراء وثقافتهم وتوجهاتهم ومشاعرهم ورؤيتهم للعالم. فيقول شاعرهم: “كان العالم كله يخفق بقوة في صدر أمه/ يتحدث بكلمات لا تزال غريبة ومستهجنة: الكراهية، الوحشة، الدمار، الحواجز، حرق السافانا، ذبح الغابات/ ومع ذلك،/ فإنه سيتعرف على كلمة الحب من نظرات والدته…” (ص31).
وفي الفصل الثاني من الملحمة يصوغ الشعراء رؤيتهم في ما آل إليه الإنسان من “دوران في الجغرافيا والزمن”، فيقررون أن الإنسان، في بداية الخلق، كان يملك الكون كله، وأن الأرض كلها كانت مسرحاً له، ولا حد لحراكه، “أو في الأقل هكذا كان يظن”، ولكنه انكفأ بسبب محدوديته وقصوره. وفي هذا يقول الشعراء:”في أول الخلق فقط/ كان كل الكون ملكاً للإنسان/ أو في الأقل هكذا كان يظن/ قبل أن ينسى الكلمة التي من نطفتها خلقت روحه/ قبل أن ينسى ألوان الحب السبعة مثل السماوات السبع…” (ص34).
ولكن فكرة ملكية الأرض للإنسان هذه سرعان ما تبين بطلانها، تحت وطأة الحروب والنزاعات والاستعباد وضغائن العنصرية وحملات الاستبداد يجردها الإنسان الحاكم ضد الناس المحكومين. “لم يكن هناك ما هو سهل/ لأن الإمبراطوريات أرادت الهيمنة على العالم/ أرادت إخضاع الأجناس الأخرى، خنقها، ومحوها/ وقد نجحوا… هناك حشود ضخمة من الناس المدفونين والمحروقين والمخنوقين/ أطلقوا على بعضهم لقب أسود، هندي، مختلط، أصفر/ وهناك الذين عُوملوا كعبيد، وأُبيدوا، شنقوا، وصلبوا/ وكانت جريمتهم الوحيدة هي عرقهم المختلف، وأجسادهم القوية/ والجميلة…” (ص37).
مركز البشر والصمت
وفي الفصول المتعاقبة الثلاثة يواصل الشعراء، مؤلفو الملحمة الشعرية صوغ رؤيتهم إلى العالم من وجهة فكرية وتخييلية وطوباوية في آن، إذ يضعون فكرة أن البشر هم مركز الكون موضع الشك، ويعتبرون أن هؤلاء غير أهل لهذه الوضعية، ما داموا يكثرون من الحروب، ويحدثون من الشقاق والتلويث ما لا يقوون على دفع تبعاتهما لتطاول كل مظاهر كوكبنا. يقولون: “احمرَّ الأفق اللامتناهي بسبب ارتفاع شهوة الدم/ تكاثرت الحروب اللاهبة/ مياه المحيطات أيضاً، تلوثت/ بكى ملحها، تخثر في طوفان الخسارات والخيبات/ وفسد مع ارتفاع الجوع والفقر…” (ص46).
إذاً، هو الشعر الملحمي المعاصر، على أيدي الشعراء الـ86، ومنهم الشاعر عادل خزام، يجادل في قضايا راهنة، وفلسفية، ويدحض ادعاءات كانت لا تزال، إلى حينه، مسلمات، مستنداً إلى الوقائع التي يصورها مآسي كونية، وانقلاباً مفجعاً في مصير الكوكب، وإن يكن على يد التكنولوجيا. “لقد ابتلعت التكنولوجيا كل شيء/ أصبح الصمت جزءاً منا في عالم يصعب فيه/ أن تجد لحظة فرح/ وصار الحب، مجرد بقايا وذكرى في متاحف الأمس…” (ص47).
ولكن هذه الرؤية، وإن رضيت النفاذ إلى قاع الحياة العصرية، تنطوي على بعد طوباوي هو من صميم المثالات التي لا وجود لشعر من دونه، يتمثل في خلاص الكون بالحب وحده. وفي هذا الشأن يقول الشعراء: “غداً، سيتطهر الكون من جديد/ لن تفرقنا الكراهية، لن يبتلع أطفالنا الجشع/ لا بالحسد، ولا بعنصرية اللون أو العقيدة/ ستنطفى الحروب والمآسي العبثية/ فقط سيكون هناك الحب/ في ذلك اليوم، اليوم الحلم…” (ص47). وههنا يتعالى إنشاد الشعراء إعلاء للحب وتمجيداً له، وجعله مهداً للغات الإنسانية، تتهاوى عنده الحدود الوطنية، وتتلاشى العصبيات، وتتعاظم الحكم لصالحه، حتى لتحسب جنوناً، في مقابل الشؤون اليومية. “إنها لا تحتاج إلى لغة أخرى. وأقصد هنا روح النور/ الفواصل بين أرض وأرض، والحدود الوطنية، تتلاشى وتتغير/ على المدى الطويل. تدوم اللغة أطول من حياة الناس/ ويبقى الحب أبدياً كما هو دائماً” (ص52).
وفي ختام الإنشاد تشف اللغة الشعرية، في مسرى غنائي، تعزف فيه الذات العليا فرحها العظيم، لدى إدراكها سبيل الخلاص بالحب، الذي يتجاوز الحكمة والمعرفة الكاملة. “ها هي زهرة التوليب المزهرة تتفتح للقلب النابض بالحياة، فاختر بزرة للعقل، بزرة لقلبك/ بزرة للحياة، كي تجد غاية معناك/ اختر الحكمة العالية، وكن فطناً/ لتنال المعرفة الكاملة/ كن مثل روح النار/ تلك الموجودة في لب اللهب المشتعل” (ص61).
وإذ يلتفت الشعراء إلى أزمة الوعي عند البشر، من إخوانهم، يرون أن لب الأزمة في تغاضي البشر عن معنى الحياة، والتساؤل عن غايات الإنسان السامية من وراء خوضه المغامرات، واكتسابه المعارف، وسقوطه في التجارب، وارتكابه المعاصي والخطايا. “قلت ذات مرة إنك لست في حاجة إلى أن تعرف معنى الحياة/ ولكنك أنت معنى الحياة/ ولديك كل ما يجب أن تكونه أو تعرفه/ أنت تعرف ما سيأتي غريزياً…” (ص64).
وعلى هذا النحو يتحول الحوار الأحادي إلى استخلاص تجريه الذات الواعية والمتخيلة، وبلغة تقارب المقدس من دون أن تمس به، مفاده أن نجاة البشر من عماهم الفكري والروحي يكمن في رأب الصدع بين القلب والفكر، بين العقل والقلب.
قضايا وأسئلة
طبعاً، لن يكون بوسع هذه العجالة أن تلم بمجمل القضايا والمواضيع التي تناولتها هذه الملحمة، وإنما إشارة طفيفة إلى أهمها قد تكون باعثاً على الاستزادة والتعرف إلى أول ملحمة شعرية في القرن الـ21، متعددة الأعراق واللغات، والمشارب. في الفصول الأخرى، يبسط الشعراء رؤاهم في ما خص “نبوءة الفناء” أو في ما بات متداولاً بما سمي “نهاية العالم المعاصر” بسبب ما أحله الإنسان فيه من مضار بيئية لا تعوض. وفيها أيضاً آراء في “مجتمع القنبلة الذرية” وما يمكن أن يؤدي إلى فناء البشر، إن ظل الحكام والناس على انحرافهم الخلقي، وكذلك نقض الشعراء فكرة “اللامتناهي ملكنا أيضاً” وغيرها مما يحسن بالقراء التعرف إليه وتذوق أشكال الكلام الشعري، المنزلة في قوالب قصيدة النثر، والنشيد، والمقطعات الشعرية، والنثر المرسل، وغيرها. على أن جميعها مصوغة في لغة عربية متمكنة، وبليغة.
ولكن السؤال الذي حاول الإجابة عنه، ناظم الملحمة الشاعر الإماراتي عادل خزام، في المقدمة، حين افترض أن القراء سيسألون عن صاحب المقول الشعري، في متن كل فصل، فيرد “يمكنك العودة إلى المرجع الإرشادي في نهاية الكتاب لتعرف اسم الشاعر صاحب القصيدة أو المقطع” (ص13). لا يزال ملحاً عندنا، ما دامت النصوص مندمجة في كيان نصي أكبر. وأياً يكن الأمر، تعتبر هذه الملحمة الشعرية الإنسانية عملاً مبتدعاً جديراً بالتأمل والنقاش، والتبصر في إمكانات الشعر المستقبلية.
وللعلم فحسب، نورد بعضاً من أسماء الشعراء المشاركين في هذا العمل الملحمي، منهم: باولو روفللي وجيرماين دروغينبروت وسيف الرحبي وألفارو مايو وكريس سولت وكونسيساو ليما وشروق حمود ويوجينيا سانشيز نيتو وكيموجيتسي جوزيف مولابونغ وزكية المرموق وإيرما كورتي وبيبي كوستا وعبدو كاخور كوسيم وجوري تالفيت وغيرهم كثير.