حرية ـ (12/3/2025)
كارين اليان ضاهر
منذ عقود تتكثف الجهود لنشر ثقافة وهب الأعضاء في المجتمع اللبناني وتعزيز مستوياته. هذه المساعي كانت دوماً أقرب لأن تكون فردية، وكأنها اليد التي تصفق وحدها في ظل تهاون الدولة واستبعاد القضية من سلم أولوياتها رغم أنها تمثل أسمى درجات العطاء الإنساني. أما الأزمة، فأتت بضربة قاسية عندما كانت الجهود تأتي بثمارها مع استفادة الجهات الرسمية المحلية من تجارب ناجحة لدول متقدمة في هذا المجال، والتعاون معها في سبيل التقدم وتحقيق نسب أعلى من الوهب، كسبيل لإنقاذ حياة مئات المرضى على لوائح الانتظار.
في هذا التحقيق نسلط الضوء على تجارب أشخاص كانوا قد فقدوا الأمل وكتبت لهم حياة جديدة بفضل خطوة قام بها واهب وعائلته ليضمن استمرارية الحياة. هي تجارب وجدنا فيها إيماناً لا يتزعزع ونظرة مختلفة إلى الحياة الجديدة التي رسمها الواهب لهم بقرار وحس إنساني عال.
حياة جديدة ومشاعر سامية
خضع حسين إلى عملية زرع كلية من 29 عاماً، ومنذ تلك اللحظة ولد من جديد. وكأنها كانت انطلاقة له في حياة جديدة مع نظرة مختلفة إلى الحياة. حاز لقب “عميد زراعة الأعضاء” على حد قوله، لأن الله أنعم عليه بأعوام طويلة بعدها وصحة ممتازة سمحت له بالاستفادة من الكلية التي زرعت له طوال هذه المدة في حال غير مسبوقة. استطاع أن يرى أحفاده، ما لم يحلم يوماً بأن يتحقق له. وها هو اليوم حريص على نشر الوعي حول أهمية الوهب الذي يعده أعلى درجات العطاء في المجتمع. في حديثه، يشير إلى أنه كان يعمل في قسم غسل الكلى في أحد المستشفيات اللبنانية ويدرك جيداً حجم معاناة كل مريض. وبدأت مشكلات الكلى لديه باكراً حينما كان متزوجاً وأباً لأطفال صغار.
بدأ يعاني مشكلات خطرة استدعت البدء بغسل الكلى، منذ تلك اللحظة، أدرك أن الأمل مفقود وأنه لن يعيش طويلاً، فحياة من يغسل الكلى قصيرة نسبياً بسبب الظروف الصعبة والمضاعفات الصحية التي يعانيها، فيكون في حال موت سريع خلال ما لا يزيد على 10 أعوام.

خضع حسين (في الوسط) إلى عملية زرع كلية من 29 عاماً ومنذ تلك اللحظة ولد من جديد
ويقول “بلغت مرحلة لم أعد أستطيع فيها حتى أن أمشي، ولا أقوم بأبسط الأعمال الروتينية. كدت أفقد عائلتي، خسرت كثيراً من الوزن وانقلبت حياتي رأساً على عقب. ورغم أن الأمل كان ضئيلاً آنذاك بأن يتأمن واهب تقدمت بطلب لإجراء عملية زرع وصار اسمي على لائحة الانتظار. وبعد معاناة شديدة دامت ثلاثة أعوام لشاب في مثل سني مع مشقات غسل الكلى، وبعد أن فقدت الأمل، تأمن الواهب وعمره 15 سنة. لكن الاتصال أتى وأخبرني الطبيب أن جراحتي في اليوم التالي”.
يقول حسين الذي يبلغ من العمر اليوم 68 سنة، إن الواهب منحه حياة جديدة، وهو حريص على نشر هذه الثقافة لأهميتها في كل مناسبة يوجد فيها، ولا يتردد في التحدث عبر وسائل الإعلام والمؤتمرات لنشر الوعي حول أهمية خطوة مماثلة، ويؤمن إلى أقصى حد بهذه القضية بعد تجربته كما ويعد أن الشاب الذي وهبه كليته موجود في داخله وهو يحمل اسمه أيضاً، ويعده شريكاً له في الحياة بملذاتها وصعابها. فهما متكاملين من اللحظة التي خضع فيها لعملية الزرع وكتب له عمراً جديداً.
قلب جديد وحياة جديدة
خضع فادي متى إلى عملية زرع قلب منذ نحو 14 عاماً، ومنذ ذاك الوقت كتب له أن يعيش حياة جديدة مع عائلته التي كادت تحرم منه. كان يعاني ضعفاً في عضلة القلب نتيجة إصابته بفيروس أثر في غشائه، مما أدى إلى مضاعفات صحية خطرة منعته من أن يعيش حياة طبيعية، ومن المشي، وممارسة أي نشاط. حتى إنه بات عاجزاً عن دخول الحمام وعن حمل طفلته الصغيرة. ونشاط عضلة القلب قد بلغ 10 في المئة فحسب، ولم يكن له أمل بالعيش.
كانت حياته محصورة بين جدران البيت والمستشفى وعلى جهاز الأوكسجين. هذا، إلى أن تأمن الواهب وأتت الفحوص مطابقة. كان يوماً مفصلياً في حياته، ذاك اليوم الذي خضع فيه لجراحة زرع القلب وفق ما يوضح في حديثه. تكللت العملية حينها بالنجاح وهو من ذلك اليوم لا يعاني أية مشكلة ويكتفي بالمتابعة الطبية.
في شهادته لـ”اندبندنت عربية” يدعو كل شخص موجود اسمه على لائحة الانتظار إلى أن يتحلى بالأمل، وألا ييأس أبداً إلى أن يتوافر واهب. “فليحافظوا على إيمانهم بالله ويتمسكوا بالأمل. ولمن وهبني قلبه أقول له إني أشكره من كل قلبي على إنقاذ حياتي. أؤكد له أن قلبه لا يزال ينبض في داخلي، وأذكره بصلاتي وأدعو له بالرحمة، وأذكر عائلته باستمرار على هذا العطاء الكبير”.

تراجعت بشكل كبير عمليات وهب وزراعة القرنيات في لبنان
انطلاقة خجولة وإنجازات كبرى
بدايات دخول قطاع الطب في لبنان عالم زراعة الأعضاء كانت عام 1985، عندما أنشئ أول مركز لزرع الأعضاء في مستشفى رزق في بيروت مع الدكتور الراحل أنطوان اسطفان والدكتور غابي كامل.
ثم تأسست الهيئة الوطنية لزرع ووهب الأعضاء عام 1999 بقرار وزاري كمرجع رسمي وحصري لمراقبة ومتابعة عملية وهب وزرع الأعضاء بإشراف وزارة الصحة العامة، لم تكن انطلاقة أعمالها سهلة ولا تلقائية.
طوال أعوام، بقي وجود الهيئة حبراً على ورق وحضورها خجولاً، حتى عام 2009 عندما وضع وزير الصحة آنذاك محمد جواد خليفة أسس برنامج وطني موحد لوهب وزرع الأعضاء والأنسجة وتفعيل الهيئة الوطنية.
في هذا الإطار تشير المنسقة العامة في الهيئة الوطنية لوهب وزرع الأعضاء السيدة فريدة يونان في حديثها مع “اندبندنت عربية” إلى أن وزارة الصحة العامة خصصت آنذاك للهيئة مساهمة مالية غير ملائمة لمشروع بهذا الحجم. لذلك، تكثفت الجهود للتواصل مع جهات صديقة خارج لبنان، وتحديداً إسبانيا التي تسجل أعلى معدلات وهب أعضاء، للتمويل والمضي قدماً في المشروع، وذلك عبر اتفاقية مشتركة.
حينها أقيم مؤتمر كبير مع دورات تدريبية استمرت ثلاثة أعوام، ووضعت البنية التحتية للمشروع مع إصدار دليل يضم مراحل الوهب، وبرنامج أدخل على المستشفيات، وتدريب لممرضين وأطباء في لبنان وخارجه، ومنهم من أرسل إلى أوروبا ضمن دورات تدريبية.
وتضيف “انتقلنا إلى مستوى آخر مع وضع لائحة بشروط صارمة، وضوابط لتنظيم القطاع في مجال الوهب من أحياء أقارب وغير أقارب. لكن في مختلف المراحل، بقي الشق المالي عائقاً ومطلباً أساساً لضمان استمرارية هذا المشروع الكبير وبلوغه أهدافه المرجوة. وبقيت المساهمة المالية للدولة بسيطة. كما أخذنا موافقة وزارة التربية لإدخال برنامج وهب الأعضاء في المناهج التعليمية في المدارس والجامعات. فكان هدفنا إحاطة شاملة بنشر هذه الثقافة على مختلف المستويات”.
على أثر هذه الجهود، تحقق ارتفاع ملحوظ في أرقام الواهبين، فانتقل لبنان من واهبين اثنين إلى 17 واهباً في السنة. كما ارتفعت نسبة الناس الذي يوافقون على فكرة الوهب من 10 إلى 46 في المئة بفضل وسائل نشر الوعي التي اعتمدت.
أتت الأزمة الاقتصادية التي ضربت لبنان عام 2019، لتشكل ضربة حقيقية لقضية وهب الأعضاء. وبدلاً من الاستمرار بالتقدم، تسببت بتراجع في الأرقام حتى بلغت معدلات الموافقة على فكرة الوهب في ذلك العام 38 في المئة. حتى إن الهيئة خسرت المساهمة المالية البسيطة التي كانت تخصصها الدول لدعم البرنامج، ومن دون المساهمة المالية، يعد الأمل مفقوداً لضمان استمرارية البرنامج.
تكشف يونان إلى أنهم خسروا القسم الأكبر من قيمة التمويل بسبب انخفاض قيمة الليرة اللبنانية في مقابل الدولار الأميركي. لكن الأسباب وراء هذا التهاون يعود بصورة أساسية إلى غياب الرؤية المستقبلية في الدولة، وقلة الوعي في شأن هذه القضية الجوهرية، وعدم تحديث القوانين، فيما عدم توفر الأموال اللازمة حالياً لعمليات الوهب يشكل تحدياً كبيراً للهيئة والمرضى، فيما يكشف الأطباء أن عملية الوهب الواحدة قد تصل كلفتها إلى 8 آلاف دولار أميركي، وهي تحصل على حساب وزارة الصحة العامة وجزء منها على حساب الهيئة الوطنية التي لا إمكانات لها حالياً، مما يرغمها على استبعاد العمليات إلى حين استعادة المساهمة المالية من الدولة.
إجراءات وانتظار
لا تعد آلية الوهب والزرع بسيطة، بل تتخللها مراحل عديدة. ويخضع المريض الذي يحتاج إلى عملية زرع إلى تقويم نفسي وطبي، ويتم إعداد الملف الخاص به بإشراف طبيب وجراح، لإدخال اسمه في لائحة الانتظار بإشراف الهيئة الوطنية التي تشرف على العمليات داخل الأراضي اللبنانية حصراً. كما يخضع إلى تقويم سنوي لمتابعة حاله والتأكد ما إذا كانت لا تزال تسمح بإجراء عملية الزرع. هذا، بوجود لجنة تدقق طبياً وقانونياً وأخلاقياً في عملية الوهب في المستشفى.
قد يطول الانتظار لأعوام، ويراوح معدل أعوام الانتظار بين خمسة وسبعة أعوام على مستوى العالم، إلى حين توافر الواهب المطابق جينياً من النواحي كافية. لكن في لبنان، يختلف الوضع عما هو عليه في دولة أخرى بسبب قلة الدعم للبرنامج وعدم توافر الدعم المادي.
وتذكر يونان وهي طفلة أجريت لها أول عملية زرع كبد عام 1999 وأصبحت اليوم طبيبة أطفال. وتقول “كان الأمل مفقوداً لها والغد قاتم لولا شاء القدر أن يأتي الواهب المطابق لينقذ حياة وحياة كثيرين غيرها من الموت”.

أتت الأزمة الاقتصادية عام 2019 لتشكل ضربة حقيقية لقضية وهب الأعضاء في لبنان
من جهة أخرى تعد عملية الوهب والزرع في غاية الدقة، فما إن يتوافر الواهب يبلغ المريض الذي ستُجرى له عملية الزرع. وخلال أربع ساعات، يكون كل شيء حاضراً لتُجرى العملية والمريض في المستشفى. لذلك، هناك تواصل مستمر للهيئة مع الأطباء والمستشفيات لمتابعة الحالات بعدما تكون قد بلغت عنها.
التحديات الكبرى في قضية وهب الأعضاء مادية بصورة أساسية. هذا، إضافة إلى غياب الخطة الوطنية وحملات التوعية لإعادة الأمور إلى مسارها الصحيح لتقليل أعداد المرضى على لائحة الانتظار وتأمين أعداد ثابتة من الواهبين، وإن كان النقص في الواهبين وفي تلبية عمليات الزرع موجوداً على صعيد عالمي
وتكشف التقارير الطبية أن عدد بطاقات الوهب في لبنان بلغ عام 2021 نحو 33 ألفاً فيما يصل الآن إلى 36 ألفاً، وهي بطاقات يحملها من يعلن نيته وموافقته على التبرع بأعضائه بعد الوفاةـ
بالأرقام وبمقارنة بين عدد عمليات الوهب التي شهدها لبنان قبل أزمة عام 2019 وبعدها، تكشف الهيئة الوطنية لزرع ووهب الأعضاء أن عدد عمليات وهب وزراعة الكلى بين عامي 2010 و2019 بلغت 78 فيما العدد انخفض إلى ست بين عامي 2020 و2023، القلب من 23 إلى عملية واحدة، الكبد من 12 إلى عمليتين، الرئة من عمليتين إلى صفر، والقرنيات من 208 عمليات إلى صفر، خلال الفترة نفسها.
الوهب حيث تغلب العاطفة
عالمياً، كانت أولى عمليات زرع الأعضاء قد أجريت في خمسينيات القرن الماضي لكلية بعدما تركزت الأبحاث عليه لأنها العملية الوحيدة التي كان من الممكن أن تجرى من واهب حي آنذاك.
وفق رئيس لجنة وهب الأعضاء في مستشفى “أوتيل ديو دو فرانس” البروفيسور موسى رياشي، توسعت عمليات الوهب والزرع لتشمل مختلف الأعضاء وصولاً إلى زرع الرحم التي تعد من أهم التطورات في جراحات الزرع، ويقول “تبقى المشكلة الكبرى في لبنان حجم المعارضة لهذه الثقافة. ففي عام 2000، بلغ حجم الرفض نسبة 95 في المئة. وفي دراسة أجريت عام 2011 تبين أنه لم يتغير الكثير من حيث القبول للفكرة. أما في فرنسا فثمة تفاوت في مستويات القبول بين منطقة وأخرى. لذلك، يجب أن نشدد على أهمية التحضر لفكرة الموت، إلى جانب نشر الثقافة والمعرفة حول الوهب لأهمية هذه القضية للبلاد. أما في المستشفى فنعمل على التقرب من عائلات لديها حال مستعصية لتحضيرها للفكرة. وبدأنا تسجيل عدم المعارضة الاختيارية عند الدخول إلى المستشفى، كما في فرنسا. هي موافقة مسبقة ويمكن التراجع عنها”.
ووفق ما يوضحه رياشي غالبية عمليات الزرع في العالم تجرى من أشخاص متوفين. أما في لبنان فمعظمها من أحياء بسبب غلبة العاطفة. علماً أنه يمكن أن يكون هناك موت دماغي في الوفاة، وهي تشكل نسبة 80 في المئة من الواهبين. وهناك المتوفون الذين يتوقف القلب بصورة مفاجئة لديهم، ويجب عندها التحرك سريعاً.