حرية ـ (17/3/2025)
في فضاء المعرض ينتصب هيكل لأخطبوط ضخم، يبدو ككائنٍ أسطوري تتسلل أذرعه عبر الأبواب وتلتف حول الجدران، كأنها تريد ابتلاع الفراغ كله.
يمكننا هنا التعامل مع هذا التركيب الرئيسي لهيكل الأخطبوط، كبوابة لدخول هذا العالم الذي تشكله الفنانة بمزيج دافىء من التفاصيل اليومية. يبدو التركيب استعارة بصرية لقدرة العملِ المنزلي على التسلل إلى كل تفصيلة في حياة المرأة، مُذكراً إياها بأن أدوار الرعاية لن تتركها حتى في فضاءات أحلامها. هي استعارة بصرية تُجسد التناقض بين الرغبة في الخلق الفني والثقل اليومي للعمل المنزلي.
في زاوية أخرى من مساحة العرض، ثمة صورة فوتوغرافية كبيرة لامرأة شابة داخل مطبخ ضيق. ترتدي المرأة زياً مُزركشاً يُشبه جسد “الدعسوقة”، تلك الحشرة التي ترمز للبراءة والقدرة على التحليق، رغم هشاشتها. على طاولة في ركن آخر، تقبع كراسات مفتوحة تحتوي على رسوم يدوية ملونة، تتخللها قوائم مصاريف منزلية وحوارات عائلية حول تقسيم الأعمال. هنا، تتحول الكراسات إلى أرشيف شخصي يُوثق التفاصيل الصغيرة التي تُشكل حياة المرأة، كأسعار الخضروات ومواعيد مدارس الأطفال، وحتى الأحلام الفنية المدفونة تحت ركام الواجبات. يضم المعرض أيضاً شريط فيديو قصيراً ومزيجاً من الصور الفوتوغرافية والكتابات.

هموم يومية
العنوان الذي اختارته الفنانة يُلخص الأفكار التي تنطوي عليها هذه التركيبات. “بالحب” في العامية المصرية هي كلمة تُستخدم غالباً على نحو ساخر لوصف الخدمات التي تُقدم بلا مقابل. هذا التعبير الذي يخفي وراءه مرارة التهميش، يصبح في سياق المعرض مُنطلقاً لتساؤلات أعمق عن طبيعة العمل غير المأجور الذي تُجبر المرأة على تقديمه “بالحب”، ليس لأنها تختاره، بل لأن النظام الاقتصادي والاجتماعي يفرضه عليها كجزء من “واجباتها الطبيعية”. لا تنتقد الفنانة هنا فكرة الحب بذاته، بل تُشير إلى اختطاف هذا المفهوم وتحويله إلى أداة لقمع المرأة واستغلال طاقتها. فالحب الذي يُفترض أن يكون اختياراً حراً، يتحول في سياق العمل المنزلي إلى التزام مُجتمعي تُجبر المرأة على تأديته من دون مقابلٍ مادي أو معنوي. أما الأخطبوط فهو استعارة لطبيعة العمل المنزلي الذي يتسلل ككائنٍ لامرئي إلى كل جوانب حياة المرأة.
أذرع الأخطبوط التي تتخطى الغرفة إلى الخارج تُجسد تماهي الحدود بين الاهتمامات الشخصية والعمل المنزلي، إذ تظل أعباء المنزل تلاحق المرأة كظل لا يفارقها. يذكرنا العمل بأن الجهود اليومية للمرأة، من تنظيف وطبخ ورعاية هي أعمال حقيقية يُستهلك فيها الوقت والطاقة، لكنها تُختزل في النهاية إلى “لا شيء” في الحسابات الاقتصادية الرسمية. ينتقد المعرض هذه النظرة عبر تحويلِتلك الممارسات إلى سرد بصري، ليلفت انتباهنا إلى حجم الجهد الخفي الذي تقوم به المرأة يومياً.
لا تنفصل هذه التجربة الفردية والنقاشات الدائرة من حولها بلا شك، عن الإطار العالمي الأوسع، ففي السنوات الأخيرة، تحول النقاش حول العمل المنزلي غير المأجور من قضية نسوية هامشية إلى موضوع مركزي في خطاب حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. تقارير الأمم المتحدة تُشير إلى أن النساء يقدمن ما يعادل 12.5 مليار ساعة عمل منزلي يومياً بلا أجر، وهو رقم يعادل 11% من الناتج المحلي العالمي. يلتقط معرض رانيا عاطف هذه الحقائق ويُحولها إلى سرد بصري مؤثر. فالحوارات المكتوبة في الكراسات، ليست مجرد شكاوى شخصية، بل هي صدى لأصوات ملايين النساء اللواتي يُجبرن على تأجيل أحلامهن بسبب أدوار مجتمعية ملقاة على عاتقهن. فكيف يمكن للمرأة إذاً أن تحقق ذاتها في عالم يربط قيمتها بما تقدمه للآخرين مجاناً؟ أو هكذا تتسائل الفنانة عبر هذا المعرض.
تمنح الفنانة هنا العمل المنزلي قيمة جمالية تليق بحجمه الحقيقي، فالتركيبات التي يضمها المعرض تبدو كمحاضر اعتراف علنية بجمال أوجهدِ ما يُسمى العمل غير المُنتج. في هذا السياق، يصبح المعرض شكلاً من أشكال المقاومة ضد النظام الاقتصادي الذي يستفيد من العمل الخفي للمرأة دون مقابل. من ناحية أخرى، يفتح البرنامج الموازي للمعرض، والذي يضم عروض أفلام ونقاشات حول الفكرة نفسها، باباً لتحويل النقاش الفردي إلى حراك جماعي يطالب بإعادة تقييم الأدوار الاجتماعية وتوزيعها بشكل عادل. لا يسعى المعرض هنا بالطبع إلى تقديم إجابات جاهزة بقدر ما يطرح أسئلة مقلقة حول دور الفن في معالجة القضايا الاجتماعية. “بالحب” هو احتفاء بكل تلك التفاصيل التي تُشكلنا، وتذكير بأن النضال من أجل الاعتراف يبدأ برؤية ما لا يُرى.