حرية ـ (19/3/2025)
سيد ضياء الموسوي
تلك هي المشكلة في العقل الديني السياسي، لا أحد يلتقط الدرس من واقعية الأحداث التي تمر بالمنطقة، ويكررون ذات الأخطاء وينتظرون نتائج مختلفة.
من خلال خبرتي لسنين طوال ومعرفة بالعقلية الدينية والسياسية للتيارات الدينية السنية (حماس، الجهاد، الإخوان، داعش) وغيرها، والشيعية (حزب الله، الدعوة، الحوثيون)، هناك خلل استراتيجي في فهم السياسة لذلك هي بحاجة إلى الواقعية.
والواقعية تكمن بتحليل أي واقع سياسي ميداني من النظر إلى موازين القوى بواقعية قراءة حجم القوة للأحزاب وللآخر وفق تقارير علمية رقمية بعيدا عن العاطفة واللغة الثورية والأحاديث الغيبية والشعارات التاريخانية المجتزأة من سياقاتها الدقيقة.
المشكلة تكمن في غياب عقول استراتيجية لفهم الواقع بعيدا عن شعارات (العزة والذلة) وشعارات القبضات المشدودة.
أكبر خطأ قام به حزب الله هو خيار (جبهة الإسناد)، فقد قام هنا بجلب الوحش، وهو مشغول بغزة، إلى داره، وكانت النتيجة احتراق الجنوب وتصفية قيادات الحزب جميعا الصف الأول والثاني والثالث، بمن فيهم الأمين العام السيد حسن نصر الله، عدا آلاف المصابين من البيجر، عدا تراكم المنكوبين في الجنوب وكل لبنان، إلى سقوط حليفه التاريخي سوريا ودمار هائل لغالبية لبنان خصوصا القرى الشيعية.
هذا الحريق مازال يشتعل في مناطق أخرى ومستمرا.
وبدلا من المراجعة لكارثية ما حدث، كرر الأمين العام للحزب نعيم قاسم ذات الأخطاء بخطاب لا يحمل أي لغة للمراجعة، وبدلا من استخدام نقد عقلي رقمي واقعي للحدث خرج على الجماهير النازفة بمقولة “لقد انتصرنا”.
منذ 23 عاما، وأنا أنتقد عقلية الإسلام السياسي من ثقافة الارتطام بالجدار، واستخدام شعارات (الذلة والعزة والموت لأمريكا، وهيهات منا الذلة، وأما النصر أو الشهادة، القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة…)، وغيرها، من شعارات تُستقطع من سياقها التاريخي وتطبق في واقع قائم على اختلال فضيع لموازين القوى.
السياسة الواقعية تكمن في فهم القوة ولغة الأرقام وفن الممكن والمرونة العقلية لفهم موازين القوى والتغيرات، وهي التي تفوز. أنا أتكلم بلغة علمية لا عدائية للإسلام السياسي أو للشخوص.
هذه التيارات تحتاج إلى الواقعية، ثم الواقعية، ثم الواقعية.
هل هناك كارثية في التفكير أكبر من الاستمرار بنفس المنهج الثوري بعد أحداث غزة وما جرى فيها وبعدها لبنان وسوريا ومازالت ذات العقلية في الخطاب والمنهج هي هي؟
فالحوثيون بدلا من الواقعية السياسية استمروا بتهديد الملاحة، واليوم جاء دورهم وإيران في الطريق، فبدلا من التقاط درس سقوط نظام الأسد، قامت إيران برفض رسالة أمريكا الأخيرة وسيأتي الدور عليها.
العقلية الإيرانية مازالت تدار من الحرس الثوري، والتي أثبتت فشلها في صناعة دولة حضارية، فلا يمكن اختصار أهل البيت والإمام علي (ع) في قطعة سلاح أو عداء للعالم.
سوريا الأسد، الأب والابن، قاما بخطأ استراتيجي، حيث رهنا النظام بأكمله بموضوع سياسي وهو فلسطين، سواء بمنطق براغماتي أو إيمانا بجزء من القضية وبشعارات لا تتناسب مع المرحلة وليست محل تقدير حتى للفلسطينيين أنفسهم، والتي أول ما سقط نظام الأسد عمت الاحتفالات في فلسطين من خالد مشعل لأصغر شاب. وأثبتت التجربة أن الأيديولوجيات غير قادرة على إدارة دولة بواقعية، فالدولة لا تدار بغيبيات، ولا شعارات تاريخية، ولا بعقيدة ثورية أو بجر أوجاع التاريخ المختلفة وتفجيرها في واقع عالمي سياسي معقد.
السياسي المحنك يدافع عن قضايا عربية كبرى كفلسطين، لكن لابد أن تكون الأولوية لوطنه، ويتحالف مع دول قوية سياسيا واقتصاديا مع القوى العظمى في العالم وليس التشبث بشعارات غير واقعية، ويعادي كل العالم، وكأنه يريد إنقاذ العالم وتضييع أموال شعبه، وكل ما يمتلك في سبيل ثورية استاتيكية غير واقعية تؤدي إلى انهيار بلده.
أخطاء الرئيس جمال عبدالناصر تكررت بأشكال مختلفة في عالمنا العربي، من كارثية عبدالكريم قاسم وذبح النظام الملكي بالعراق، إلى عقلية الثورة الإيرانية، وقياداتها إلى مغامرات صدام حسين، إلى ليبيا القدافي إلى إخوان مصر واليمن، إلى حماس، إلى حزب الله لبنان، إلى الحوثيين، إلى غنوشي النهضة في تونس.
نعم الدولة تنمو وتسمو بفصل السياسة عن الدين وفتح الحريات دون تدخل بعلاقة الإنسان بربه.
هناك مفاهيم عند الإسلاميين في قائمة (المينيو السياسي الثوري) هي سبب كل هذه الفوضى والضياع.
- فلسطينيون أشد من فلسطين
- نظرية “التكليف الشرعي” حيث يكلفونك للموت دون رأيك ويقولون لك إنه تكليف من الله. والسؤال: من يحدد التكليف؟ ولماذا أنت ترهن حياتك وحياة مجتمعك لشيء يسمى تكليفا وأنت كمجتمع أولى بتحديده؟
- نظرية “بلغ ما بلغ من الدماء“
وهي إحدى مفاهيم إيران، والتي تعني مهما بلغت الدماء نزفا لا يهم مادام الهدف “مصلحة الإسلام”.
والسؤال: ماذا لو كان القرار السياسي خاطئا؟ فمن يتحمل الكوارث؟ - استخدام الغيبيات في الحروب الواقعية والنصوص أمام طائرات الـ F35 وغيرها. وهذه كارثة الكوارث.
كي أعرف الواقع لابد من دراسته بالعقل والعلم ولغة الأرقام وموازين القوة وليس بالنصوص، لأن النصوص محكومة بظروف سياسية تاريخية خاصة بها. - عدم المراجعة لأخطائهم ومجرد ينبري أحد لنقد الأداء لإرشادهم يتم وضعه في خانة الأعداء.
وبطول تاريخ الإسلام السياسي لا يوجد يوم خرج فيه أحد من القيادات اعترف بهزيمة، فدائما منتصرون، وهذا هو الجحيم بعينه، لأنه دليل على عدم المراجعة لأي خطأ وقع وأيضا ينبئ بتكرار ذات القرارات السياسية الكارثية مستقبلا، بمعنى يتكرر خطأ السنوار في أكثر من منطقة وإن بصور مختلفة.
فـ “السنوارية” ظاهرة موجودة في كل أحزاب الإسلام السياسي في التفرد بالقرارات، وسوء تقدير الموقف.
ويصبح قرار أخذ الناس للمحارق كرمية نرد على طاولة مسلخ الجماهير، إن أصابت فهي منتصرة، وإن خابت فهي منتصرة.
أقول لجميع أصحاب الإسلام السياسي خصوصا بعض الشيعة المتأثرين بهكذا خطاب، أوقفوا كل شيء، من لبنان إلى العراق إلى كل مكان ولكم الخطوات: - اقطعوا أي علاقة معنوية أو سياسية مع إيران، وأعيدوا النظر في نظرية ولاية الفقيه، فـ 99% من الفقهاء لم يطرحوها، أو لا يؤمنون بها، وكونوا مثل طائفة البهرة، فهي طائفة شيعية إسماعيلية على ولاء لحكام بلدانهم ومنشغلون بالعلم والاقتصاد وبعيدون عن السياسة.
خليجيا أثبت قادة الخليج أنهم أكثر قادة العالم حكمة ومرونة وحفاظا على شعوبهم ودولهم وابتعادا عن دخول مغامرات سياسية أو استعراض قوة على العالم. وهذا هو المنهج الصحيح المتوازن الواقعي.
قدمت أكثر من خطاب عبر السوشال ميديا كناقد ومستشرف للمستقبل، لذلك أنصح قادة إيران بتغيير المنهج في التعامل مع العالم، وإلا ستكون النهاية كنهاية النظام السوري. وأنا أقول ذلك حرصا على سلام المنطقة من الحروب ومزيدا من النزف، فلا أجمل من واقعية وذكاء اليابان من غزو العالم بصادراتها العملاقة بعد تعرضها للقنابل النووية بعد الحرب العالمية الثانية.
استعرضت قوتها بالعلم والمعرفة والاقتصاد وليس بخطابات ثورية.
ويكون تغيير المنهج في إيران باستفتاء بتغيير الدستور من ديني إلى مدني، وفصل الدين عن السياسة، مع جعل كل إنسان مخيرا في علاقته مع الله، وجعل الحجاب حرية شخصية دون فرضه بالقوة، وقصر دور رجال الدين في المساجد بعيدا عن إدارة الدولة مع الانفتاح الكبير على أمريكا والغرب والخليج والعالم انفتاحا سياسيا اقتصاديا، والتخلي الكامل عن الميلشيات، وبدلا من تصدير الثورة العمل على حفظ الثروة للشعب الإيراني.
هذا المنهج سيحفظ إيران وشعبها والمنطقة من تداعيات خطيرة.
كما أدعو كل المليشيات في المنطقة إلى تفكيكها، والرجوع لحضن الدولة، والاندماج لكل ميلشيا أو حزب مع دولته، والعمل على تقوية وطنه.
أقول:
منذ 23 عاما كل مقالاتي وحواراتي وكتبي ومنهجيتي تصب في ذات فكرة الواقعية السياسية، وحفظ الوطن والولاء للقيادة في أي وطن تنتمي له هذه الحركات، وترك الشعارات وثقافة الارتطام بالجدار، والتخلي عن السعي لبناء دولة داخل دولة، وجعل الدولة هي التي تحدد مسار العلاقات الخارجية، وهذا ما أتمناه اليوم.
وجع فلسطين وجع إنساني غائر في ضمير كل إنسان يمتلك ذرة إنسانية، والألم لما يقع على الناس من مدنيين أطفالا ونساء وشبابا في عمر الزهور لا يمكن تبريره، وحديثي يصب في خانة أنه مهما كان الوجع يجب ألا يقود إلى مزيد من الكوارث على مناطق أخرى بقرارات تزيد من الوجع بدلا من وقف النزف.
السؤال: هل ستفهم هذه الحركات ذلك، ويضعون كلامي في موقع الناصح، ويمتثلون ويَنجون ويُنجون ملايين من الجماهير التي قد تذهب ضحية قررارت خاطئة؟
أتمنى ذلك، وأتمنى إذا ما وقعت كوارث مستقبلية أن يرجعوا لما أطرحه منذ 23 عاما من نصائح، وأنا أقرع الأجراس، فهل يتلقطون الدرس قبل فوات الأوان؟
المنطقة مقبلة على هزات كبيرة ليس أقلها ماحدث من سقوط نظام الأسد، فأتمنى أخذ نصائحي بعين المسؤولية.
فالرجوع للوطن، والقيادة والحكمة والواقعية السياسية والمنهج الحضاري الوسطي العقلي الفلسفي في فهم الحياة هو ما يقود إلى السلام والأمن والتطور الحضاري..