حرية ـ (20/3/2025)
كارين اليان ضاهر
خلال شهر رمضان يترقب الجميع موسم المسلسلات والبرامج التلفزيونية التي تعرض وتتنافس على مختلف القنوات، ومعها تجتمع العائلات والأصدقاء بعد موعد الإفطار، وتتسمر أمام الشاشات لمتابعة هذه الأعمال التي يجد القيمون عليها في هذا الشهر فرصة للاستفادة من نسب مشاهدة عالية.
لكن في السنوات الأخيرة بدا واضحاً أن المسلسلات والبرامج الرمضانية التي تعرض على الشاشات باتت بعيدة كل البعد من أجواء هذا الشهر، وبخاصة بالمقارنة مع ما كنا نشاهده في السابق. فغابت كل الأعمال التي كانت يترقبها المشاهدون لارتباطها بهذه المناسبة، من فوازير رمضان ومسلسلات تاريخية وأعمال تأخذ منحى إنسانياً، وتسعى إلى نشر رسائل معينة لها صلة بمبادئ هذا الشهر وأحكامه. في المقابل نجد أن القنوات العربية باتت تتنافس على تقديم مسلسلات أبطالها كبار نجوم الدراما، وترصد لها مبالغ خيالية لإنتاجها وتلاقي إقبالاً كبيراً من المشاهدين، فيما تثير جدلاً لاعتبارها لا ترتبط بشهر رمضان.
فوازير رمضان نجاحات غابت
لا تزال فوازير رمضان التي عرضت من عقود، باستعراضاتها وأغانيها، محفورة في ذاكرة كثيرين. وكان الجميع يجد متعة خاصة في متابعة هذه الحلقات التلفزيونية الاستعراضية التي تعرض في كثير من الدول العربية، وخلالها كانت تقدم أحاجي أو أمثلة وتوزع جوائز على المشاركين الفائزين الذين يرسلون إجاباتهم أو يشاركون مباشرة.
بقيت الفوازير تستقطب المشاهدين من فترة الستينيات حتى مطلع الألفية الجديدة، انطلقت أولى الفوازير العربية مع نيللي التي قدمتها من عام 1975 إلى عام 1981، قبل أن يقدم الفنان الراحل سمير غانم شخصية فطوطة من عام 1982 إلى عام 1984 من إخراج الراحل فهمي عبدالحميد. وفي العام التالي، قدمت الفنانة شيريهان “فوازير ألف ليلة وليلة” الشهيرة، ومن منا لا يذكر تلك الفوازير التي قدمتها الفنانة الاستعراضية حتى عام 1988، بأجمل اللوحات الاستعراضية والأحاجي والأمثلة التي ارتبطت بشهر رمضان وقد ترقبها الكل سنة بعد سنة.

المسلسلات والبرامج الرمضانية التي تعرض على الشاشات باتت مختلفة جداً عن السابق
ومن بعدها، قدمت فنانات أخريات الفوازير مثل صابرين وهالة فؤاد، ثم يحيى الفخراني في “فوازير المناسبة”، قبل أن تقدم شيرين رضا ومدحت صالح “فوازير الفنون”. بعدها، في عام 1991، عادت نيللي وقدمت “فوازير عجايب صندوق الدنيا” التي لاقت نجاحاً باهراً أيضاً، ومن بعدها “أم العريف” في عام 1993، التي تعتبر من أشهر الفوازير حتى اليوم، قبل أن تعود شيريهان وتقدم مرة جديدة “حاجات ومحتاجات” الشهيرة في عام 1994.
كثيرون من الفنانين وكثيرات قدموا الفوازير الرمضانية في سنوات متتالية، منها ما حقق نجاحاً باهراً وبقيت محفورة في الذاكرة، ومنها ما كان أقل نجاحاً، إلا أنها كلها كانت من الأعمال التي ترقبها الكل على الشاشات في شهر رمضان. لكن وعلى رغم النجاحات الكبيرة التي حققتها قبل عقود، نجد أن إنتاجات الفوازير غابت تماماً اليوم.
أيضاً غابت المسلسلات التاريخية وغيرها من الأعمال المشابهة، أو نجد ربما عمل واحد فحسب، ولا يحقق حتى النجاحات المرجوة ونسبة المشاهدات في ظل زحمة الأعمال التلفزيونية ذات الطابع التجاري. فالمسلسلات التاريخية القليلة التي تقدم تثير جدلاً دوماً لسبب أو لآخر، وإن كانت أحياناً تخصص لها موازنات كبرى غير مسبوقة في تاريخ الدراما العربية.
إنما ما سر غياب هذه الأعمال اليوم وهي التي كثيراً ما ارتبطت بشهر رمضان؟
الإنتاج أهم الأسباب
يعيد الصحافي الفني ربيع فران غياب الأعمال التاريخية وفوازير رمضان عن الشاشات، وعدم وجودها في قائمة الأعمال التي تقدم ضمن السباق الدرامي الرمضاني إلى سبب رئيس هو “إنتاجي”، فيما لا يعول المنتجون اليوم على هذا النوع من الفن والأعمال، وإن كان قسماً كبيراً منها قد حقق نجاحات عندما فشلت أخرى.
وبحسب فران فإن الجميع لا يعتبر قادراً على تحقيق النجاح في هذا النوع من الأعمال، فيما حصل تحول كبير في السنوات الأخيرة في الأعمال الرمضانية، وبصورة أساسية بعدما أتت الدراما المشتركة لتسيطر على نطاق واسع وتفرض وجودها، وحلت مكان البرامج والمسلسلات التي اعتاد المشاهد على رؤيتها وكانت تحقق النجاحات.

في عصر التكنولوجيا والسرعة لم يعد هناك تركيز على المسلسلات التاريخية
من جهة أخرى، لا يمكن أن ننسى أنه في عصر التكنولوجيا والسرعة، ومع بدايات الألفية الجديدة لم يعد هناك تركيز على المسلسلات التاريخية. وتأتي الإنتاجات لتلبي التوجهات السائدة واهتمامات المشاهدين التي اختلفت في هذا العصر، أما الدراما المشتركة التي سيطرت في السنوات الـ10 الأخيرة، فسواء كانت تقترب من قيم رمضان وأجوائه أم لا، فقد حققت نجاحات كبرى وأرقام مشاهدات مرتفعة.
ويقول فران “المسلسلات التاريخية التي قدمت للمشاهدين لم تكن أيضاً على قدر الطموح الجماهيري، وقد يكون هذا سبباً وراء تراجع الاهتمام بها، وعدم تحقيقها النجاحات الكافية وانخفاض أرقام المشاهدات. مثال على ذلك مسلسل عمر بن الخطاب الذي اعتبر أضخم الانتاجات العربية وبلغت كلفة إنتاجه 53 مليون دولار أميركي، واستغرق تصويره نحو عام. إنما لم يحقق النجاح المرجو ولا الجماهيرية ونسبة المشاهدة العالية التي كانت متوقعة، فصحيح أنه كان هناك تمويل ضخم وحشد كبير من الممثلين فيه، إلا أن عوامل عديدة تسببت بفشله منها المغالطات التاريخية التي أحدثت جدلاً حوله، كسيرة تاريخية لشخصية دينية، وهذا ما يحصل غالباً مع المسلسلات التاريخية”.
يرى الصحافي الفني أن محتوى الفوازير ليس من الأعمال التي قد تحقق النجاح بسهولة اليوم، فيما لم يعد هناك فوازير تنافس الروائع الرمضانية التي حققت شهرة واسعة منذ عقود، وعلى رأسها فوازير نيللي وشريهان، بما فيها من محتوى ومؤثرات وإنتاجات.
وعن سبب عدم توجه شركات الإنتاج نحو الفوازير راهناً، يعتبر فران أن عدم توافر المحتوى المناسب من الأسباب الرئيسة وراء ذلك بما أن كبار كتاب محتوى الفوازير رحلوا، وكتابتها دقيقة وليست بالعملية السهلة التي يمكن أن ينجزها أياً كان. ويبقى المحتوى أساسياً لنجاحها، إلى جانب المؤثرات والخدع البصرية، لذلك قد لا يكون سهلاً أن يأتي المنتج الذي يغامر بمبالغ طائلة في عمال مماثلة قد لا تحقق النجاح المرجو.
لذلك تتخذ معظم المسلسلات حالياً منحى تجارياً وتلبي متطلبات المشاهد، وأيضاً بحسب فران تسيطر على الدراما أيضاً المحسوبيات والمصالح والتجارة والمساعي وراء الكسب المادي. فقد تنقل بعض المسلسلات الواقع، لكن تتجه إلى المنحى التجاري، وهنا أساس المشكلة. حتى أن الجيل الجديد ليس قادراً اليوم على التعرف إلى التاريخ من خلال أعمال تليق بشهر رمضان وتنقل الأحداث التاريخية، بل لا بد له من البحث لو أراد ذلك. وحتى إذا طرحت قضايا إنسانية في الموسم الرمضاني، يحصل ذلك من باب تجاري استهلاكي.
في الوقت عينه، يتوقع فران يأتي يوماً المنتج الذي يغامر ويغير هذا الاتجاه عبر عمل يحمل رسائل إنسانية تليق بشهر رمضان، بعيداً من الجانب التجاري الاستهلاكي، إذ لا يمكن أن يستمر الوضع على حاله بسيطرة أعمال غير لائقة على السوق الاستهلاكي.
في تلبية متطلبات العصر
تعتبر الصحافية والناقدة الفنية جوزيفين حبشي من جهتها أن فوازير رمضان كانت أشهر الأعمال الرمضانية التي تعرض على القنوات العربية وتستقطب نسبة عالية من المشاهدين، حتى أنها تحولت إلى “طبق رئيس على الموائد الرمضانية”، وكانت انطلاقتها في مصر في سستينيات القرن الماضي، إذ حققت رواجاً واسعاً ونجاحات لافتة، بخاصة مع نيللي وشريهان وسمير غانم وأيضاً فؤاد المهندس. وتقول “للفوازير تاريخ عريق في مصر والعالم العربي، ومن الفنانيين من قدمها لمواسم عديدة، لكنها توقفت لأنها تتطلب إنتاجاً ضخماً ولها تكاليف هائلة بسبب الاستعراضات والرقصات والموسيقى والمؤثرات، والأزياء المبهرة في 30 حلقة، وأجور الراقصين والكومبارس والديكورات المتغيرة”.
وتضيف أنه في فترة من الفترات التي حققت فيها نجاحاً مهماً، كان الهدف منها تقديم جوائز للمشاركين الذي يعطون إجابات صحيحة. لم يكن هناك اتصالات مباشرة وإنترنت، بل كانت اتصالات هاتفية، وتعلن النتائج في آخر الشهر. أما اليوم في عصر السرعة، فليس هناك من داع ليشارك الناس ولتقديم الجوائز من خلال الفوازير التي لها تكاليف عالية. هناك برامج مباشرة وهي كثيرة في غالبية الدول العربية، ومنها ما هو على الأرض مع الناس، إذ يوجدون في أماكن معينة حيث يتوافد الناس أيضاً ويفوزون بجوائز كثيرة مباشرة وهدايا، ومنهم من يربح عبر الاتصال المباشر فيكون الفوز سهلاً.
هذا النوع من البرامج لا يتطلب إنتاجاً، بل يمكن فيها توفير أموال الإنتاج وتحقيق أرباح من خلال الإعلانات والممولين، وبالتالي في عصر السرعة والتكنولوجيا صار من الممكن الاعتماد على هذا النوع من البرامج التي تساعد في تحقيق ربح سريع للمشاهد وللمحطات بدلاً من التكاليف الهائلة للفوازير.
قبل سنوات عديدة، لم تتمكن الفوازير الرمضانية الأخيرة التي قدمت من تحقيق نجاحات كتلك التي كانت سابقاً، وكان آخرها للفنانة اللبنانية ميريام فارس، ولم تتكرر بعدها التجربة بسبب التكاليف الهائلة وصعوبة تأمين نجمة متكاملة ومحتوى لائق، إضافة إلى الجهود الكبرى. يضاف إلى ذلك أن الفوازير التي كانت تقدم آنذاك كانت ضخمة، لكن مع تقدم التكنولوجيا وفي عصر الذكاء الاصطناعي، لا بد من تقديم عمل لائق يواكب العصر بصورة مختلف عن الأعمال التي كانت تبدو مبهرة في الثمانينيات. وهنا يعتبر النقاد الفنيون أنه حتى يكون العمل مبهراً اليوم لا بد من اعتماد التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ما يتطلب تكاليف أكبر بعد، لذلك في حال توافر موازنة كبرى، لا يفضل المنتجون الدخول في مشروع مماثل ذات التكاليف الهائلة.
ينطبق ذلك على المسلسلات التاريخية ذات الخلفية الدينية التي اعتاد المشاهد على ترقبها في رمضان، فهي مكلفة للغاية ولها إنتاج ضخم وتكاليف هائلة لاستعادة حقبات في التاريخ مع ديكورات ملائمة، وأي إنتاج ضعيف يفشل العمل حتماً. حتى أن عملاً مماثلاً يتطلب دراسات معمقة ليكون متكاملاً وناجحاً تجنباً للجدال حوله كعمل حساس يتناول شخصيات تاريخية ودينية، إذ إن كاتب السيناريو يجب أن يكون متعمقاً في التاريخ، أما الأعمال التي تقدم حالياً فلا تتطلب كل هذا العمق وفق ما توضحه حبشي، ويمكن لكتاب كثيرين أن يكتبوا أعمالاً اجتماعية أو كوميدية أو غيرها في رمضان، لذلك تفضل الأعمال الاجتماعية والكوميدية المواكبة للعصر، التي يمكن أن ترضي المشاهد وتجذبه بما تقدمه من جديد، وتسليه أيضاً، هي تنقل الواقع وتقدم قضايا اجتماعية تهم الناس حالياً، ولا يكون من الصعب كتابتها وإنجازها ولا تتتطلب إنتاجاً ضخماً.