حرية ـ (22/3/2025)
كارين اليان ضاهر
انقضت قرابة أربعة أشهر على انتهاء الحرب الإسرائيلية في لبنان ولا يزال الجدل مفتوحاً حول أطنان الردم التي خلفتها في المناطق المتضررة. وتُطرح إشكالية كبيرة حول مصير الركام وسبل التخلص منه، وهي ليست المرة الأولى التي يواجه فيها لبنان هذا التحدي. فالمشهد يتكرر بعد كل حرب تتعرض لها البلاد، وكان آخرها قبل حرب 2024، حرب يوليو (تموز) 2006، وإن كانت كمية الردم آنذاك لا تقارن بتلك التي خلفتها الحرب الأخيرة. آنذاك طمر الردم بطرق عشوائية في مكبي الناعمة (جبل لبنان) والكوستا برافا (بيروت). وحتى اللحظة لم يحصل أي اتفاق في شأن الردم المتجمع في المناطق المتضررة، ويترقب الأهالي أي قرار يُتخذ، في وقت تطرح تساؤلات حول الحلول المتاحة في مثل هذه الحالة، وما يمكن اللجوء إليه في تجارب مماثلة كما في سوريا وغزة أيضاً والآليات المعتمدة في موجهة أزمة مماثلة.
أطنان بانتظار الحلول والمشكلة في محتوياتها
قدرت الردميات التي خلفتها الحرب الإسرائيلية الأخيرة في لبنان بـ50 مليون متر مكعب، مما يوازي ثمانية أضعاف الكمية التي خلفتها حرب يوليو 2006. لذلك تُطرح إشكالية كبرى حالياً حول آلية معالجة الأزمة التي من المفترض تأمين حل سريع وجذري لها في مناطق مدمرة، حيث يترقب الأهالي بفارغ الصبر انطلاق عملية إعادة الإعمار ليعودوا إلى مناطقهم ومنازلهم. وفي وقت تتواجه فيه جهات عدة في طرح آليات وحلول معينة وتعارضها أخرى، تطول فترة الانتظار لانطلاق عملية إعادة الإعمار بعد إزالة الردم. حتى اللحظة لا تزال الردميات موجودة بالأطنان في المناطق المتضررة.
وتشير المستشارة البيئية – الاقتصادية فيفي كلاب إلى أن المشكلة الأساسية ليست في الركام بذاته، بل الخطر موجود في ما يحوي عليه سواء في لبنان أو في سوريا أو في غزة، “وهذا ما يستدعي اللجوء إلى آليات مدروسة وآمنة من النواحي كافة. ففي أطنان من الردميات مخلفات ناتجة من قصف مبان دمرت، وتحوي مواد بناء ومخلفات عسكرية وشظايا وقذائف وذخائر غير متفجرة، وأسلحة، وغيرها من المواد التي يجب معالجتها وفق معايير معينة. في الركام مواد كثيرة قد تشكل خطراً من جهة، ويمكن الاستفادة منها من جهة أخرى والاستثمار فيها في عملية إعادة التدوير كما يحصل في تجارب مماثلة. تضاف إليها المواد الموجودة في المنازل من إلكترونيات وبطاريات وكمبيوترات وألواح طاقة شمسية يمكن أن يحصل منها تسرب لمواد سامة مثل الرصاص والكادميوم، وهي مواد تشكل خطراً على صحة الإنسان. ويمكن إعادة تدويرها والاستفادة منها أيضاً. كما يحوي الركام أدوية ومستلزمات طبية ومبيدات زراعية ومواد تنظيف فيها كيماويات، وتستدعي أيضاً معالجة خاصة، ومن المفترض أن ترسل إلى مراكز متخصصة لإعادة تدويرها بما أنها تشكل خطراً على الإنسان وصحته وعلى البيئة ما لم تعالج وفق المعايير الدولية”.

تقدر كمية الركام التي خلفتها الحرب الإسرائيلية الأخيرة بثمانية أضعاف الكمية التي نتجت من حرب يوليو 2006
نقل المواد ومعالجتها
“في تجارب مماثلة من المفترض فرز المواد التي يحويها الردم وجمعها ونقلها إلى مصانع متخصصة تعالجها، وإلى مراكز إعادة التدوير. فكل من هذه الأنواع يعالج وحده لتجنب الخطر الذي يمكن أن ينتج منها، وهنا تكمن المشكلة الأساسية في عملية إدارة الركام. فبعد أن أنجز الشق القانوني فيها مع إقرار دفتر الشروط، يبدو البدء بالتنفيذ شائكاً ويشكل تحدياً”، بحسب كلاب التي أضافت “إذ تتزايد المخاوف في شأن المرحلة المقبلة في المعالجة بوجود احتمال رمي الركام في البحر أو في المطامر العشوائية من دون معالجة صحيحة ومدروسة كما حصل في تجارب سابقة في مطمر كوستا برافا ومطمر نورماندي (جبل لبنان) وغيرهما”.
وكان مطمر الكوستا برافا أقيم عام 2016 بطريقة عشوائية من دون أي دراسة، ومن دون التزام الآليات والمعايير التي من المفترض التقيد بها في مثل هذه الظروف. فلم تؤخذ بالاعتبار الآثار البيئية الكارثية له، والأضرار التي خلفها في البيئة البحرية والتغيير في النظم البحرية والتيارات البحرية التي يمكن أن تنقل الملوثات إلى مناطق أخرى. آنذاك، لم تحصل إدارة الملف بطريقة مناسبة ووفق الأصول، وثمة مخاوف من أن تتكرر التجربة الفاشلة، مرة جديدة، ويزيد الوضع سوءاً في حال المضي بمشروع توسيع مطمر الكوستا برافا.
وفي المرحلة الأولى، تشدد كلاب على أهمية الحماية المشددة للناس على الأرض مع رفع الأنقاض، “كما يجب حماية السكان في المناطق المتضررة والقريبة، سواء في لبنان أو في غزة أو في المدن السورية. بعدها، هناك ضرورة للقيام بدراسة دقيقة لتحديد المكان الذي يجب أن توضع فيه المخلفات. وبموازاة مهمة الجيش اللبناني في نزع الذخائر المتفجرة وغيرها من المخلفات العسكرية، لحماية أهالي المناطق، يجري تدريب فرق الطوارئ استعداداً لحسن التعامل مع المخلفات السامة التي يتم سحبها”.
من جهة أخرى ثمة آلية محددة لنقل الردميات بكثير من الدقة للحد من الغبار الناتج منها لاعتباره يكون محملاً بالجزيئيات الصغيرة والمعادن الثقيلة التي يمكن أن تدخل إلى الرئتين، وتسبب مشكلات في الكبد والجهاز التنفسي. أما عملية الفرز ففي غاية الأهمية عند النقل بطريقة آمنة إلى مكان موقت. ففيها، يجري فصل الركام بحسب مكوناته، فيكون قسم منه صالحاً لإعادة التدوير وإعادة الاستخدام مثل المواد البلاستيكية والمعادن، كما يمكن سحب الباطون وفرزه ليستخدم في الأراضي الزراعية أو الأرصفة، ويمكن استخدام الركام الخرساني أيضاً في مناطق المقالع والكسارات بعد فرز المواد القابلة لإعادة التدوير. أما المواد الخطرة، فتفرز بصورة منفصلة للتخلص من المواد السامة بطريقة علمية بحسب نوعها. وتتطلب معالجة هذه المواد والتخلص منها أماكن متخصصة قد لا تكون متوافرة في لبنان، فيمكن إرسالها إلى خارج البلاد وفق الاتفاقات الدولية، حيث تتوافر مناجم أو محارق متخصصة لمعالجة الرماد المتطاير الصادر عنها تجنباً للأخطار، علماً أن هذا النوع من المناجم متوافر في أوروبا في بلدين هما ألمانيا والنرويج”.
وبعد معالجة المخلفات الخطرة يجب إعادة تأهيل التربة لإعادة التوازن البيئي، وهنا كان الخطأ الفادح الذي وقع فيه المسؤولون في مطمر نورماندي، وقد نتجت منه أخطار بيئية وصحية. آنذاك، جمعت المخلفات في وسط بيروت وجرى ردم البحر في ما أصبح واجهة بيروت البحرية بدلاً من فرز الردم ونقله بالشكل الصحيح ووفق الآلية المناسبة إلى أماكن آمنة. فنقل الردم من دون فرز للمخلفات والمواد السامة ومن دون إعادة تدوير، للتخلص منه سريعاً، وهناك مخاوف من تكرار التجربة ذاتها نظراً إلى المساعي إلى تحقيق الربح السريع بغض النظر عن الأخطار والتداعيات والخسائر، بما أن الربح السريع يبقى أولوية بالنسبة إلى البعض.
وتابعت المستشارة البيئية – الاقتصادية “دمر الردم المستخدم البيئة البحرية وخُلقت أراضٍ لبيعها ضمن مشاريع مربحة تؤمن ربحاً سريعاً. فكانت هناك مساعٍ لتحقيق مردود اقتصادي سريع بدلاً من العمل على التطوير البعيد المدى الصديق للبيئة، حتى إنه هُدم في الوقت نفسه عدد كبير من الأبنية القديمة من أجل الربح السريع، في وقت تقضي فيه الآلية الصحيحة والمناسبة في مثل هذه الظروف بتوفير مكان موقت، لكن في الوقت نفسه لا يمكن أن يطلب من أهالي المناطق المتضررة الانتظار طوال هذا الوقت حفاظاً على البيئة، وحتى يتأمن المكان الموقت. وهناك مخاوف أيضاً من أن يتحول هذا المكان الموقت إلى دائم، كما حصل في تجارب سابقة، وهنا تكون الكارثة الحقيقية. لذلك تشدد جمعيات بيئية على ألا تحصل عملية نقل الردم والتعامل مع المخلفات بطريقة عشوائية، بل وفق سياسات مدروسة يتم فيها التعامل مع المخلفات خوفاً من الاختلال البيئي الذي يمكن أن ينتج من ذلك، والأضرار الصحية أيضاً على المواطنين”.
وبعدما حصل من اختلال بيئي وما نتج منه من تداعيات كارثية عن التجارب السابقة، لا يمكن التهاون هذه المرة أيضاً. لذلك المطلوب وضع استراتيجيات مدروسة لضمان إدارة آمنة لعملية نقل الردم وفرز المخلفات وبلوغها مواقع آمنة، وهي عملية قد تتطلب وقتاً طويلاً، خصوصاً في ظل التأخير الحاصل بعد انتهاء الحرب. أما مسألة توسيع مطمر الكوستا برافا، فغير ممكنة أبداً، بحسب كلاب، “لما لذلك من آثار بيئية أخطر بعد. وأيضاً لا يمكن تحويل مواقع موقتة إلى دائمة، علماً أن المطمر كان قد أقيم أولاً بمساحة 160 ألف متر مربع وقدرة استيعابية تصل إلى 1500 طن كبديل موقت لمطمر الناعمة وحل لأزمة النفايات التي استمرت طوال أشهر عام 2015. في وقت يجب أن يسبق فيه أية خطوة من هذا النوع تقويم للأثر البيئي، وقد أدى وجود هذا المطمر إلى تلوث البحر والهواء، وهو يعد من أكبر المطامر ويستقبل أطناناً من النفايات يومياً”.
التجارب السابقة في لبنان
تجدر الإشارة إلى أنه في التجارب السابقة في لبنان، وبعد حرب يوليو 2006، واجه لبنان المشكلة ذاتها وجرى طمر قسم من الردم في مطمري كوستا برافا والناعمة، لكن لم تكن كميات الردم موازية لتلك التي خلفتها الحرب الإسرائيلية الأخيرة، بل كانت أقل بكثير. وفيما تواجه فكرة ردم البحر اعتراضات بيئية كثيرة، لم يتوصل المسؤولون إلى حل أو مقترح جدي في شأن أطنان الردم التي تتطلب حلاً سريعاً وجذرياً. وما هو متفق عليه حتى الساعة هو توسيع مكب الكوستا برافا لقربه من الضاحية الجنوبية لبيروت. أما المطلوب فهو توفير مطامر صحية متخصصة للتخلص من الردميات التي لا يمكن إعادة تدويرها بعد الفرز، والتخلص من المواد الخطرة وفق المعايير الدولية.

بعد أشهر من انتهاء الحرب فب لبنان ليست هناك مقترحات لإزالة الردم
وثمة مشكلة فعلية، وهي أنه بعد أشهر من انتهاء الحرب ليست هناك مقترحات على الأرض بعد لآليات يمكن اللجوء إليها لإزالة الردم. ويبقى الخوف من أن تصبح أي مواقع موقتة يتم اختيارها بصورة غير مدروسة دائمة. أما نقص التمويل فتحدٍّ آخر، إضافة إلى القرار السياسي والرفض المجتمعي للأماكن التي يقترح نقل الردم إليها. فكلها عوامل تزيد من التحديات والصعوبات، في وقت لا يمكن فيه القيام بأية خطوة من دون استشارة المجتمع المحلي أولاً بطريقة شفافة ووفق شروط معينة. ويمكن للجيش أن يسهم في كشف المواقع المناسبة لنقل الردم عبر الأقمار الاصطناعية، بالتعاون مع خبراء مساحة وبالاستناد إلى معلومات متوافرة لدى الدولة، كما تلعب الوزارات ومجلس الإنماء والإعمار دوراً في ذلك، وتقوم الهيئات الناظمة بمتابعة العمل.
الانطلاق بهذه الآلية يتطلب وقتاً وتمويلاً وخبرات دولية، فكلها عوامل ضرورية لا غنى عنها. وثمة حاجة إلى الخبرات الدولية لأن الخبراء المحليين قد لا يعرفون كل التفاصيل والآليات التي يجب اعتمادها. فثمة دول مثل فرنسا وألمانيا تملك خبرة حول الاستراتيجيات المطلوبة في حالات كهذه بعد حروب عاشتها مثل تجربة الحرب العالمية. من هنا أهمية التعاون الدولي، مع ضرورة المراقبة الصارمة للمواقع للتأكد من الالتزام بالمعايير وحماية من التلوث في البيئة أو البحر بعد فشل تجارب سابقة، إضافة إلى إمكان الاستفادة من مواد مُعاد تدويرها لإعادة استخدامها في عملية إعادة الإعمار، لكن تشير كلاب إلى أن ثمة من يعرقل ذلك لأنهم يفضلون الاستفادة من بيع مواد جديدة بدلاً من اللجوء إلى إعادة التدوير.
في سوريا وغزة وضع مختلف
في غزة يبدو الوضع مختلفاً، فصحيح أن الوضع مؤلم، إلا أن ثمة مبادرات محلية هدفها إعادة التدوير، ولو كانت صغيرة. ومن خلال عمليات مبتكرة، يجري تحويل المخلفات إلى منتجات مفيدة.
في غزة أيضاً هناك قلق بيئي وصحي كبير وثمة حاجة إلى تعاون دولي، إلا أن التخلص من الردم كان أسهل في تجارب سابقة بالمقارنة مع لبنان، وهو كذلك اليوم، لعدم وجود ألواح طاقة شمسية وإلكترونيات، مما يخفف من الضرر والهواجس. وقد يكون الحل معقداً في كل الحالات، لكن في حروب سابقة لجأوا إلى طحن الردم وإعادة تدوير كميات هائلة منه. أما في سوريا فالوضع متأزم أكثر لاستخدام أسلحة وصواريخ من نوع آخر في الحرب، إضافة إلى ما سببه الزلزال سابقاً من دمار وما خلفه من ردم. وثمة حاجة إلى أموال طائلة قُدِّرت بـ400 مليار دولار.