حرية ـ (23/3/2025)
بشير مصطفى
لا يخرق سكون عطلة نهاية الأسبوع داخل الحديقة العامة في أبي سمراء سوى صرخات الأطفال المنضوين حديثاً ضمن الكشافة، وعبق الليمون الذي يعيد إلى ذاكرة أهالي طرابلس شمال لبنان تاريخ المدينة التي طالما اشتهرت بالفيحاء.
في هذه الزاوية يافعون يتسابقون، وفي زاوية أخرى آخرون يدرسون ويطالعون، وبين هذا وذاك، جموع الشبان يتراصفون، مرسخين ثقافة الانضباط. وما يلفت الأنظار الاحترام الشديد بين مكونات الفريق، والتحية التي تعكس القيم المشتركة، في موازاة الإقبال الشديد للأهالي على إلحاق أبنائهم بكتائب الكشافة التي تجاوز عمرها 100 عام في لبنان. حيث يعد الأهالي أن الكشاف هو “مساحة آمنة لتنمية شخصية أبنائهم، وتطوير مهاراتهم الاجتماعية والثقافية”، بخاصة أن الكشاف شكل تاريخياً أول التنظيمات الجماعية في المجتمع المشرقي، التي رسخت ثقافة التعاون والعمل التطوعي بين الفئات الشابة والصغيرة.

تنعكس ثقافة الكشاف مباشرة على أسلوب حياة وسلوكيات المنتسبين
الكشاف مدرسة
تنعكس ثقافة الكشاف مباشرة على أسلوب حياة وسلوكيات المنتسبين. يشاركنا الشاب عبدالقادر الأطرش الذي انضوى في الكشاف قبل 13 عاماً، منطلقاً من تجربته الشخصية، فقد انضم إلى مفوضية عمر بن عبدالعزيز في الكشاف المسلم “من أجل التغلب على عادة الخجل، وقلة العلاقات الاجتماعية”، ولكن “سرعان ما تطور العمل الجماعي، وارتقى في السلم الهرمي للكشاف”. ويلفت “لقد شكل الكشاف محطة فاصلة في حياتي الخاصة، فقد فتح لي الأبواب من أجل السفر إلى الولايات المتحدة، إذ كان أحد أسباب قبولي للانضمام إلى مشروع الزمالة والتبادل الحضاري بين لبنان وأميركا، وقضاء سنة في ولاية ويسكانسون”، و”من ثم ساعدني على الالتحاق إلى كلية العلوم والطب في الجامعة الأميركية في بيروت لإكمال التحصيل الدراسي”. ويلفت الشاب العشريني أن “الحياة الكشفية والانضباط هي الجزء الأساس في حياته، ولا يمكنه التخلي عنها تحت وطأة أي ظرف، حيث يؤجل أحياناً بعض الدروس للالتحاق بالمخيمات والنشاطات”.
الظاهرة الكونية
تشكل الكشافة رسالة سلام عالمية، إذ تكشف التقارير أن نحو 60 مليون كشفي في العالم يتوزعون على 200 دولة، ويسهم هؤلاء في عمليات التنمية المستدامة، وتنشئة الشبان والشابات.
يعود الفضل في هذه الظاهرة إلى الضابط في الجيش البريطاني بادن باول صاحب كتاب “الكشافة للفتيان”، الذي أسهم في تنظيم أول مخيم كشفي عام 1907 في جزيرة باونسي التابعة للمملكة المتحدة بمشاركة 20 فتى، قبل أن يحشد أكثر من 11 ألف كشفي في لندن بعد عامين فقط من إطلاق تصوره.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى في 1914، نشأ نظام الطلائع، ومن ثم بدأ تطبيق برنامج “أشبال الكشافة للفتيان” ممن تقل أعمارهم عن 11 عاماً، وفي 1918، تشكلت مرحلة الجوالة للفتيان الأكبر سناً وللراشدين الشباب، وبعد عامين فقط أي في 1920، انعقد المؤتمر الكشفي العالمي الأول، إبان تنظيم أول مخيم كشفي عالمي في لندن، وفي حينه حضرت 33 جمعية كشفية وطنية.
ولاحقاً استمر تطور الكشافة في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، وقد أسهم هؤلاء الكشافة في برامج إطعام الجوعى ومساعدة الجرحى والقيام بكثير من المهام الاجتماعية الأساسية في تلك المرحلة.

فتيات يشاركن في استعراض كشفي في كابول عام 1965
أسهم توسع المنظمة العالمية للحركة الكشفية في تبؤها الوضع الاستشاري العام في المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة عام 1947. وساعد استقلال عدد كبير من الدول في إطلاق الحركة الكشفية فيها، واستمرت بالتطور على المستوى العالمي، وأصبحت جزءاً من السياسات الاجتماعية والاقتصادية، والحفاظ على التنوع البيئي. وفي عام 2007، احتفلت الكشافة بمئويتها من خلال تنظيم مخيم كشفي عالمي في لندن التي تشكل مسقط رأس هذه الحركة. وفي عام 2018، انطلقت الكشافة من أجل التنمية المستدامة بغية التأسيس لإشراك الشبان في خطط التنمية، وصولاً إلى إطلاق “قبيلة الأرض” كمجتمع عالمي للعمل البيئي ولتمكين جيل الشباب في معالجة آثار التغير المناخي. وجاءت جائحة كورونا لتبرهن صوابية إدماج الكشافة في التنمية المحلية، وسياسات التمكين والدعم المجتمعي، فيما تستمر الحركة الكشفية في دورها الريادي التربوي، وتعزيز المهارات الحياتية والقيادية للشباب.
أكثر من 100 عام في لبنان
في عام 1912، انضوى لبنان تحت الحركة الكشفية العالمية، وبدأ مع تأسيس الكشاف العثماني الذي أصبح لاحقاً “الكشاف المسلم” مع تأسيس دولة لبنان الكبير. ويؤكد “الريس” سعيد معاليقي أنه عام 1921، تأسس اتحاد كشافة لبنان الذي يضم حالياً 41 منظمة كشفية من كافة الانتماءات الدينية والطائفية، وحتى السياسية، وقد عكس منذ البداية التركيبة الاجتماعية التعددية في البلاد، حيث يضم قرابة 200 ألف كشفي في لبنان، و5 ملايين كشفي في العالم العربي. انطلق هذا المسار في لبنان مع الثلاثي التنظيمي: الكشاف المسلم، والكشافة المسيحية- الحكمة، والكشافة الإسرائيلية نظراً إلى وجود طائفة يهودية في لبنان. ويعد الكشاف المسلم أول التنظيمات الكشفية وأقدمها في لبنان، ويشير القائد رامي الصوفي إلى أن “الحركة الكشفية في لبنان جاءت امتداداً لما أسسه القائد الإنجليزي بادن باول، الذي استثمر في العمل التطوعي من أجل الخدمة الاجتماعية، والاهتمام بجميع الفئات العمرية، وانتقالها إلى العالم العربي على يد الأخوين خيري، ووصلت إلى لبنان على يد القائد توفيق الهبري في بيروت، ومن ثم التركيز على المبادئ الأساسية “الواجب نحو الله، والواجب نحو الذات، والواجب نحو الوطن بغية تأسيس مواطن صالح وصاحب قيم”، والنأي بالنفس عن التدخلات السياسية والدينية، والتعاون مع كل الناس على أسس إنسانية، والحفاظ على الطبيعة والنظافة وسلامة الحيوانات. ويعود الصوفي الذاكرة إلى عهد الحرب الأهلية في لبنان، عندما أسهم في تنظيف الشوارع عقب الحرب الأهلية، وصولاً إلى مراكمة الإنجازات مع الزمن، ولعب دور اجتماعي من خلال تقديم “الصحن اليومي للمحتاجين”، وحملات محو الأمية وتعليم الطلاب، و”تأمين عبوات الأوكسيجين للمرضى في زمن كورونا، وأشاع الفرح في مسيرات الاستقلال، وعيد المولد النبوي الشريف، ومسيرة عيد الأضحى.
مسيرة الوحدة الوطنية
تمتاز الحركة الكشفية في لبنان بدقة التنظيم، والاستقلالية النسبية عن السلطة السياسية، وهو انعكاس عفوي للتنوع الثقافي والاجتماعي في البلاد، وعدم التصاق التنظيمات بسلطة الحزب الواحد الحاكم. يلفت نائب القائد العام لجمعية الكشاف العربي في لبنان سعيد معاليقي إلى مكانة لبنان القيادية في المنظمة العالمية للحركة الكشفية التي تضم 176 دولة، منوهاً بأن “اتحاد كشاف لبنان هو الممثل الشرعي الوحيد للحركة الكشفية في لبنان”. ويتمسك بمكانة الحركة الكشفية على المستوى المحلي والدولي، حيث تضم 60 مليون كشاف، و5 ملايين على مستوى المنطقة العربية، ويمثلون 20 دولة عربية، ويسهمون في تربية النشء، وشباب مثقف وواع، وذات ولاء وطني، وترسيخ ثقافة التطوع على المستوى الكوني. ويؤكد الدور الريادي الذي لعبته الحركة الكشفية في لبنان منذ جائحة كورونا، وصولاً إلى إغاثة النازحين والهاربين من الحرب الإسرائيلية على لبنان في سبتمبر (أيلول) 2024 وتنظيم العمل في المدارس وتوزيع العائلات على مراكز الإيواء، مروراً بالتخفيف من أوجاع المتضررين من تفجير مرفأ بيروت، حيث أسهم 5 آلاف متطوعة ومتطوع كشفي بنصف مليون ساعة تطوع لخدمة الناس والإغاثة والترميم.
يتحدث معاليقي عن “تدريب 1000 قائد كشفي سنوياً، حيث يأتمر بكل قائد 30 منتسباً متطوعاً”، والعمل لتطوير المناهج المتطورة التي يتبعها اتحاد كشاف لبنان لمواكبة العصر، الذي اكتسب شهادة “جي سات” التي تشكل اعترافاً بمعايير الجودة العالمية، والالتزام بقيم نزاهة وشفافية وحوكمة الحركة الكشفية في لبنان.
خارج السياسة
يؤخذ على بعض التنظيمات الكشفية اللبنانية التصاقها بالأحزاب السياسية، واستخدامها كأداة للاستقطاب وتأطير الأجيال الصغيرة في السن، تمهيداً لإلحاقها في التنظيم الحزبي الواسع، حيث تنظم استعراضات شبه عسكرية في الاحتفاليات الحزبية. يؤكد معاليقي “يضم اتحاد كشاف لبنان 41 منظمة كشفية من كل الطوائف والمناطق، وتمثل كل أطياف المجتمع اللبناني، تعمل معاً من دون أي تأثير للخلافات السياسية. وفي فترة انقسام لبنان إلى حكومتين وجيشين، ظل اتحاد كشاف لبنان موحداً إبان الحرب الأهلية، واستمرت المخيمات في الشرقية والغربية كما اصطلح خلال الحرب اللبنانية”. ويضيف “حاولت الأحزاب السياسية بعد انتهاء الحرب الأهلية في بداية التسعينيات الإمساك بالحركة الكشفية، وأنشأوا اتحاد شباب لبنان، ولكن هذا الاتحاد لم يستمر لأنه لم يمتلك منهجاً ومنظومة متكاملة، فيما استمرت الحركة الكشفية. لذلك، أعادت الأحزاب النظر باستراتيجيتها، والتحقوا بمنظومة اتحاد كشاف لبنان الذي يلتزم بالنظام العالمي للعمل الكشفي، والأنظمة الداخلية والأعراف الكشفية العامة، لذلك انضم إلى الاتحاد كشافة المهدي والرسالة (يمثلان الثنائي الشيعي)، الحرية (القوات اللبنانية)، والعنفوان (الكتائب)، والتقدمي، وكشافة المستقبل، وآخرين”، جازماً “من يدخل العمل الكشفي فعليه خلع عباءته السياسية والطائفية”.

يؤخذ على بعض التنظيمات الكشفية اللبنانية التصاقها بالأحزاب السياسية واستخدامها كأداة للاستقطاب
بين الكتائب والحزب
في التفاصيل، نجد مثلاً أن حزب “الكتائب اللبنانية” تأسس في بداياته كحركة كشفية عام 1936، وكان حينها حركة كشفية شبه عسكرية بوجه مسيحي ماروني تدعو إلى استقلال الكيان اللبناني بذاته، وذلك في مواجهة “كشاف المسلم” الذي كان يدعو آنذاك إلى الوحدة السورية والعربية، كما تقول التقارير والمراجع التاريخية، قبل أن يتكور لاحقاً ويصبح حزباً في العقود التي تلت، وهو لا يزال قائماً حتى يومنا هذا.
واليوم، تكثر الانتقادات التي توجه إلى حركة المهدي الكشفية، التي تنتمي لـ”حزب الله” باعتبارها حركة شبه عسكرية، وهنا يقول المنتقدون، إن هذه الحركة لم تعد تنتمي بشكل تام إلى لبنان خصوصاً أن المنتسبين إليها يضعون على ثيابهم الكشفية صورة المرشد الإيراني، كما أنها تشارك في تجمعات وكأنها أشبه بحركة مسلحة منها إلى تنظيم كشفي.
يذكر أن عدداً من عناصر كشافة المهدي قتلوا في الحرب الأخيرة بين إسرائيل و”حزب الله”.
العائلة الكشفية واحدة
في المقابل، يؤكد أمين عام اتحاد كشاف لبنان وعضو اللجنة الكشفية العربية “استبعاد التنظيمات الكشفية التي لا تلتزم بالأعراف والمبادئ الكشفية النزيهة التي تنبذ السلاح والطائفية”، ومن ثم “التزام المخيمات بشعارات ومظاهر الوحدة وعدم التفرقة بين إنسان وآخر، وتقديم أفضل نموذج عن التنوع الطائفي والثقافي للمجتمع اللبناني خلال الملتقيات الدولية على مستوى العالم، التي يبذل الكشافة كل إمكاناتهم من أجل خدمة المجتمع والتربية وحفظ الأخلاق ورسالة الوحدة والانصهار. ناهيك بالصدق والأمانة حيث يسهم شبان الكشاف بتقديم الخدمات التطوعية والإنسانية”.
خلال قرن و13 عاماً، رسخت الحركة الكشفية جذورها عميقاً في المجتمع اللبناني، وقد حضرت في كافة المناسبات والأزمات. ويتطرق علاء الوزة مفوض الشمال في كشافة الجراح التي تأسست عام 1937 على يد القائد فؤاد حيدر في الزيدانية بيروت، إلى عمق الدور الذي تلعبه الحركة الكشفية في لبنان “العابرة للنسيج اللبناني المتنوع، حيث تتوزع مفوضيات الجراح في مختلف المحافظات من الشمال إلى الجنوب وبيروت والبقاع”، جازماً “عدم تأثير الانتماءات وخلفيات القادة على عمل الكشافة وحياديتها بسبب عدم تعاطي السياسة أو الطائفية، وهو ما أسهم في استمرارية التنظيم لأكثر من ثمانية عقود، حيث كان القائد علي الطحان يجمع التبرعات من لبنان والأشقاء في دولة الكويت لشراء العقارات وتسجيلها باسم الجمعية الكشفية، وصولاً إلى تأسيس مستوصفها الخيري عام 1990″، مذكراً بالدور الذي لعبته كشاف الجراح في تأسيس فريق دفاع مدني وإسعاف خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وتقديم شهداء من طرابلس وصور خلال العمل الإغاثي، وتأسيس مطبخ خيري في بيروت وطرابلس، وغيرها من المشاريع التي تحاول تخفيف معاناة المواطنين. ويتمسك الوزة بـ”الأثر العميق للقيم الكشفية في نفوس المنتسبين، وتوارث الانتماء من الآباء إلى الأبناء، حيث بتنا أمام عائلات كشفية”، وهو ما يؤمن الاستمرارية للجمعية من خلال التطوع، والتقديمات والإسهامات الشخصية والعينية، ويخلص إلى أن “الكشاف كان ولا يزال حاجة في لبنان، فهو كان حاجة خلال الحرب الأهلية لجذب الشبان ومنعهم من الانزلاق وراء السلاح، أما حالياً فهو ضرورة لإبعادهم عن الآفات الاجتماعية وآثار التقنية”.