حرية ـ (24/3/2025)
هلا الخطيب كريّم
وأنا أحاول أن أتحسس المرحلة بأطراف أصابعي لأدخل رسمياً عتبة “سن اليأس” تاركة رأسي في الخارج صاغيةً إلى ما ستُمليه عليَّ أطرافي وهي تقيس حرارة المكان وصقيعه، أكلف الكتابة عن سن اليأس. أرى أن الصدفة طريفة، وربما جذبها إلى الكون لأغوص وأبحث نظرياً وتطبيقياً في “مرحلة الوحش” كما يعدها كثر.
يقول طبيبي عن تلك الهبات الساخنة التي تمر من أصابع قدمي إلى رأسي كشعلة من النار التي تقطع الأنفاس والدموع التي تنهمر لأي سبب ومن دون سبب والمزاج المتقلب الذي ربما يحتاج إلى صفعة ليتوازن قليلاً، وآلام الرأس المبرحة التي لا تتوقف، يقول إن كل هذا ليس سوى رأس جبل الجليد، وإن ما خفي أعظم.
فتحت هذه التقلبات لائحة من المشكلات الصحية التي ترافق المرحلة، وتسكن وتفتك بها كهشاشة العظام وضمور العضلات، إضافة إلى انعدام الرغبة وأعراض مختلفة بين امرأة وأخرى. أحمل رزمة من الهرمونات الطبيعية والأدوية، وأحتضن جسدي المنهك، وأضمده بإيجابية ليستمر في مرحلته الجديدة، ونكتشف معاً متعتها وفرادتها. فعبارة سن اليأس وحدها قد تجذب مشاعر مرتبكة وحالة نفسية متردية، فمن أين أتت هذه العبارة القاتلة، التي رافقها عبارة توازيها قسوة وهي أزمة منتصف العمر؟

النظرة الاجتماعية لسن اليأس تختلف بين المجتمعات
كيف اجتاح سن اليأس اللغة؟
تحمل كلمة “اليأس” في اللغة العربية معنى الحزن والإحباط، واستخدمت لوصف مرحلة انقطاع الطمث من حياة المرأة، ولكن المفهوم دخل إلى اللغة العربية من خلال الترجمة عن اللغات اللاتينية، حيث يعرف باسم Menopause. وهو مشتق من الكلمتين الإغريقيتين “men” أي شهر و”pausis” أي توقف، ويعني حرفياً “توقف الدورة الشهرية”. وقد بدأ تداول هذا المصطلح في الأوساط الطبية والعلمية، ثم انتشر تدريجاً في المجتمع. ومن غير المعروف بصورة محددة كيف اقتحمت كلمة اليأس هذه المرحلة عندما ترجمت الكتب الطبية الغربية إلى العربية في أواخر القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20، حيث تربط المرحلة بفقدان الخصوبة والأمل في الإنجاب لدى المرأة، وكأن حياتها برمتها ترزح تحت عبء وظيفي واحد، وهو إنجاب الأطفال.
أما علمياً وطبياً فالمصطلح المستخدم هو الإياس، وهو مصطلح عربي يشير إلى انقطاع الحيض بصورة دائمة عند المرأة نتيجة لانخفاض إنتاج الهرمونات الأنثوية الإستروجين والبروجسترون، قد يبدأ من سن الـ45 وما فوق. ويستخدم مصطلح سن اليأس شعبياً، على رغم ما يحمله من دلالة سلبية، مما جعل الأطباء يقترحون استبدال مصطلحات مثل “سن النضج” أو “سن الحكمة” به.
ومما لا شك فيه أن النظرة الاجتماعية لسن اليأس تختلف بين المجتمعات، حيث تلعب التقاليد والثقافة دوراً في تشكيل هذه النظرة. فينظر بعضها إلى سن اليأس على أنه نهاية لمرحلة الأنوثة والخصوبة، بينما ترى مجتمعات أخرى أنه بداية لمرحلة جديدة من النضج، مرحلة طبيعية في حياة المرأة، تحمل في طياتها تحديات وفرصاً. من خلال فهم هذه المرحلة والتعامل معها بصورة إيجابية، يمكن للمرأة أن تستمتع بحياة صحية وسعيدة في هذه المرحلة الجديدة.
خيانة الجسد
تقول نائلة (52 سنة)، وهي أم لـ5 أطفال أنها على رغم تحضيراتها النفسية لمرحلة سن اليأس فإنها شعرت بأن جسدها بات يخونها، “كل شيء يتغير بصورة مرعبة، والهبات الساخنة تجعلني أحترق من الداخل. أتقلب في الفراش وأستيقظ متعرقة ومتعبة، وأشعر بالإرهاق طوال الوقت، وأفقد السيطرة على مشاعري، وأحس بالوحدة والحزن وكأنني هجرت للتو. أما التركيز فتحول صفراً. ومن ناحية أخرى لم أعد أحبني ولا أشعر بأنوثتي، فبشرتي جافة وشعري يتساقط، وكأنني فجأة طعنت بالسن، ولم يعد لديَّ رغبة في الحياة، ولا في العلاقة الحميمية التي باتت تسبب الألم بسبب الجفاف. باختصار أشعر أنني مريضة جسدياً ونفسياً ولا أعرف نفسي، ووحيدة على رغم محاولات زوجي تفهم وضعي فإنني أشعر أن لا أحد يفهمني. كل ما شعرت به دق نواقيس الخطر في حياتي وحياة عائلتي. فنصحتني إحدى صديقاتي التي مرت ببعض ما مررت به اللجوء إلى المساعدة الطبية، وبعض الممارسات الطبيعية والغذائية. في الواقع عندما أنظر إلى من كنت عليه قبل عام أشعر بالرعب، وأواظب على التمارين والأدوية والمكملات التي أعادت إلى طبيعتي أو في الأقل جزءاً منها”.

التحدث إلى نساء مررن بالتجربة يخفف وطأة المرحلة
سن الحرية
في سياق معاكس تقول سارة منصور إنها أخيراً وصلت إلى تقاعد لطيف، فلا مفاجآت شهرية، ولا قلق إذا تأخرت الدورة الشهرية “إنه نوع من الحرية بعد عقود من القلق. الآن أمارس حياتي كأنني في إجازة في كل معنى الكلمة، فالأولاد كبروا، بعضهم سافر والبعض ما زالوا يسكنون معي، لكنهم يعتمدون على أنفسهم”. وعن العوارض التي تصيبها تقول “أنا بطبعي إيجابية في كل ما يحصل، فالهبات تذكرني أنني ما زلت مليئة بالطاقة، وتمنحني دفئاً غير متوقع في الشتاء، وأتعرف الآن على جسدي بكل حب، وأحتفل بكل تجعيدة جميلة، وأتخلص من تلك المزعجة. حتى إنني أشعر بلامبالاة رائعة، فلا أهتم بمراضاة أحد ولا بأمور تافهة، أحياناً أفكر أن هذا النضوج الذي كثيراً ما تمنيته طوال حياتي، وهذا السكون والصفاء الذهني الذي يرافق هذه المرحلة يجعلني أحتفي بها وأعيشها بتفاصيلها”.
لم تنكر سارة أنها مرت بأيام صعبة، لكنها سرعان ما وضعتها على طاولة معالجتها النفسية، ووجدت حلولها السريعة كونها لا تحب “الدراما”، كما تقول، “بالطبع أنتبه لنظامي الغذائي كما فعلت طوال سنوات عمري. فلكل مرحلة طعامها الخاص. وعندما كنت حاملاً بأطفالي، على سبيل المثال، كنت أتناول أطعمة وفيتامينات مناسبة أيضاً، بالضبط كما أفعل الآن. المهم الآن أنني محظوظة، حيث لا مسؤوليات جساماً تلقى عليَّ، وأعيش حياتي كما أريد من دون مقاطعة مزعجة”. وتختم “لا أدري كيف يسمونه سن اليأس، إنه بالنسبة إليَّ سن الحياة والحرية والقوة والمغامرات الجديدة التي لا يثنيني شيء عن خوضها”.
وكأن قبله كان سن السعادة!
بلامبالاة تامة تتحدث رانيا عن سن اليأس وتقول، “كل شيء يعدونه أمراً أو حدثاً جللاً، الناس يحبون الدراما، ولكن سن اليأس ليس مرضاً، إنه مجرد مرحلة عمرية، وليسموه ما شاءوا، فالأمر بالنسبة إليَّ لا يستحق التفكير العميق، إنها مرحلة من مراحل عمري في الحياة المستمرة، ولا أريد أن أقلق حول مستويات هرمون الإستروجين في جسدي، فهذا شأن الطبيب. وأنا أعيش الفترة كأي فترة من عمري. وعلى رغم أنني لم أتزوج ولم أنجب فإنني لم أشعر بأنني خسرت فرصة أن أكون أماً كما حصل مع شقيقتي التي شيعت حياتها إلى مثواها الأخير عندما توقف الطمث المزعج. والمضحك فعلاً عندما يقولون إننا بلغنا سن اليأس وكأننا كنا نعيش قبلها سن السعادة. برأيي اليأس أو التأقلم أو السعادة قد نعيشها في أي عمر”.
مرحلة انتقالية طبيعية
تكشف اختصاصية في علم النفس السريري والمرضي clinical and pathological psychologist ماريا شلهوب لـ”اندبندنت عربية” عن أن المقصود بسن اليأس هو المرحلة التي تمر بها المرأة عندما تنتهي دورتها الشهرية بصورة دائمة، ويحدث ذلك عادةً بين سن 45 و55 سنة. ومع انقطاع الطمث التام، الذي يدل عليه غياب الدورة الشهرية لمدة 12 شهراً متتالياً لا تعود المرأة قادرة على الإنجاب بصورة طبيعية، ولكن تسمية “سن اليأس” قد تحمل دلالة سلبية، حيث تشير إلى “نهاية” أو “فقدان القدرة”، مما ينعكس سلباً على كيفية رؤية هذه المرحلة، لذا أجد أن هذه التسمية غير دقيقة، وهي ليست سوى مرحلة انتقالية طبيعية ومليئة بالتحديات والفرص الجديدة. ويمكن استخدام مصطلحات مثل “مرحلة التغيير” أو “مرحلة النضوج”، والتي “تعكس فكرة النمو والتحول بدلاً من الانتهاء”.
وتلفت ماريا شلهوب إلى أنه في هذه المرحلة تتغير هرمونات المرأة مثل “الإستروجين” و”البروجسترون”، فيتوقف التبويض وتنقطع الدورة الشهرية. كما تنخفض مستويات “التستوستيرون” لدى الرجال بمرور الوقت، لكن لا تحدث فجوة حادة مثلما لدى النساء. وتعيش المرأة هذه الفترة عادة بالقلق في شأن فقدان الخصوبة والتغيرات الجسدية وتغيرات دور المرأة في المجتمع التي قد تؤثر فيها نفسياً. فيواجه بعضهن مشاعر الاكتئاب أو التوتر بسبب هذه التحولات الجسدية، في حين تكون التغيرات أكثر تدريجية لدى الرجال، ويمكن أن تؤدي إلى مشاعر القلق في شأن التقدم في العمر، وفقدان القوة الجسدية والعجز الجنسي.

اختصاصية علم النفس ماريا شلهوب تؤكد ضرورة الدعم الاجتماعي والنفسي في مرحلة الإياس
التوعية الصحية والنفسية
تعتبر ماريا أنه لا بد من إدارة التغيير النفسي للمرأة “فالتثقيف الصحي النفسي عن هذه المرحلة مهم جداً لتقليل القلق المتعلق بها، والاستشارة النفسية أو الدعم الاجتماعي يمكن أن يساعدا في التعامل مع المشاعر السلبية. كما أن التمارين الرياضية تعزز النشاط البدني، وتساعد في تقليل أعراض مثل التوتر والاكتئاب، لا سيما تلك الأنشطة التي تساعد على تحمُّل الوزن الجسدي، إذ إنها تدعم قدميك وساقيك ووزنك في المشي أو الجري أو الرقص. وتأتي التغذية السليمة في اتباع نظام غذائي متوازن يدعم صحة العظام والقلب بفوائدها أيضاً، مثل تناول الأطعمة الغنية بالكالسيوم كالحليب واللبن والكرنب للحفاظ على صحة العظام. كما أن العلاج بالأعشاب والتأمل والعلاج السلوكي المعرفي أدوات تسهم في تحسين الصحة النفسية، وكذلك الحصول على قسط كبير من الراحة، والتزام روتينات النوم المنتظمة، وممارسة اليوغا أو التاي تشي أو التأمل، والتحدث إلى سيدات يعشن بالمرحلة نفسها، كل هذا يساعد في فهم المرحلة وأعراضها. كما لا بد من التحدث إلى طبيب قبل تناول المكملات العشبية أو الأدوية التكميلية، وتجنب التدخين وعدم شرب أكثر من الحد الموصى به من الكحول”.
أعراض جسدية ونفسية
من الأعراض الجسدية الشائعة تذكر ماريا الهبات الساخنة، حيث تشعر المرأة فجأةً بالسخونة أو البرودة في الوجه والرقبة والصدر، وقد يجعلها تشعر بالدوار والتعرق الليلي ومشكلات النوم التي تسبب التعب والانفعال أثناء النهار وخفقان القلب بسرعة بصورة مفاجئة والصداع يكون أسوأ من المعتاد مع آلام العضلات والمفاصل، إضافة إلى تغير شكل الجسم وزيادة الوزن وتغيرات الجلد وجفافه والحكة وانخفاض الرغبة الجنسية والتهابات المسالك البولية المتكررة وآلام الأسنان واللثة، لكن كل هذه العوارض يمكن تخفيفها عبر تحسين النمط الحياتي من ممارسة الرياضة بانتظام والتخفيف من تناول الكافيين والتأكد من الحصول على قسط كافٍ من النوم”.
وتتحدث ماريا عن العوارض النفسية مثل التقلبات المزاجية والاكتئاب والقلق، مشيرة إلى إمكان تخفيفها عبر العلاج النفسي مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT) والتأمل أو دعم العائلة.

تفهم الشريك يلعب دوراً إيجاباً في حياة المرأة أثناء مرورها بأزمة منتصف العمر
الدعم الاجتماعي
تحتاج السيدة التي تمر بهذه التغيرات التي لا يفهمها جسدها بسرعة ويحتاج إلى وقت للتكيف معها إلى الدعم الاجتماعي من قبل الشريك والأسرة والمجتمع. فيساعد هذا الدعم في تعزيز الشعور بالقبول والطمأنينة، ويخفف الشعور بالوحدة أو العزلة. إذا كان هناك شريك حياة داعم، فإن العلاقة الصحية يمكن أن تساعد في التخفيف من المشاعر السلبية. وتقترح ماريا استراتيجيات للتكيف، منها تعزيز التواصل المفتوح مع الشريك والأسرة، والانتظام في الأنشطة الاجتماعية مثل الانضمام إلى مجموعات دعم أو فعاليات رياضية والتركيز على الذات، مثل تطوير الهوايات الشخصية أو التعليم المستمر لتعزيز الثقة بالنفس.
في النهاية، يبقى المهم ألا تركن المرأة ذاتها إلى رف سن اليأس ولا تقبل أصلاً بهذه التسمية المحبطة، وتستمر في حياتها محملة بما أثقلته السنوات من تجارب ونضج ودروس، تخرج مما اعتادته لسنوات من مهام طبيعية ووظائفية، وتستقل حافلة الراحة قدر ما استطاعت بكثير من الإيجابية، وتطلق العنان لحريتها من وظائف الخصوبة، مزودة بما يلزم من فيتامينات ونشاطات، مستمتعة بكل لحظة خاصة في مجتمع بات ينظر بصورة إيجابية أو أقل سلبية إلى الإياس، فهي فترة وستمر.