حرية ـ (27/3/2025)
حسن فحص
ما بعد سقوط دمشق، وخلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، بذل النظام الإيراني كثيراً من الجهد لقطع الطريق على أي إمكان للتصادم بينه وبين تركيا بقيادة رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، فالضربة التي لحقت بالنظام الإيراني بخسارته الورقة السورية لم تكن ولن تكون عابرة، لما ترتب عليها من نتائج وتداعيات.
وعلى رغم ذلك فقد حرص المرشد الأعلى للنظام على الابتعاد من تسمية الحكومة التركية عند حديثه عن مثلث المؤامرة التي تعرضت لها إيران في سوريا، إضافة إلى إسرائيل والولايات المتحدة، لكن ذلك لم يمنع أصواتاً عدة لكبار المسؤولين الإيرانيين من سياسيين وعسكريين بتوجيه الاتهام المباشر للجار التركي.
القيادة الإيرانية رصدت عن كثب الدور البديهي الذي لعبته أنقرة في دعم العملية العسكرية التي بدأتها قوات “هيئة تحرير الشام”، وخط السير الذي رسمه لحظة بلحظة الرئيس التركي أردوغان لتطور العملية العسكرية وانتقالها من مدينة إلى أخرى، إذ أجبرت التطورات النظام في طهران على القبول بالأمر الواقع والاعتراف بالتحول الذي حصل على الساحة السورية وحتى الإقليمية، والتراجع أو النكسة التي لحقت بمشروعه لحساب الدور التركي في الإقليم، وبالتالي السعي لدى القيادة الإيرانية والعمل للانتقال إلى مرحلة استيعاب الضربة التي لحقت بها، والبحث عن آليات التعامل مع هذا المستجد والإستراتيجي.
الصراع الصامت بين طهران وأنقرة ليس مستجداً أو مستحدثاً، فإضافة إلى جذوره التاريخية، وجد كثيراً من الترجمات على مدى العقود الأربعة الماضية، بخاصة في القراءة الإسلامية للسلطة التي سعى إلى تقديمها الاسلاميون الاتراك في مقابل القراءة الإيرانية، لدرجة أن كثيراً من الأصوات التغييرية أو الإصلاحية في المنظومة الإيرانية طالبت في كثير من المحطات باعتماد القراءة والآلية التركية في إسلامية السلطة والنظام.
لكن السلوك أو الأسلوب الذي اعتمده الرئيس التركي، والسعي إلى تكريس المركزية ومحورية القيادة، شكلا نوعاً من الارتياح لدى القيادة في النظام الإيراني، إذ لم يعد النموذج التركي في تجربة الإسلام السياسي هو النموذج الأمثل أو البديل لما لديهم، إلا أن تحدياً جديداً بدأ يبرز بين الطرفين منذ بداية الانتفاضات العربية الشعبية أو ما سمي بـ “الربيع العربي”، الذي تحول في جانب أو بعض منه إلى صراع بين المشروع الايراني الذي سبق أن بدأ يتمدد في الإقليم، والمشروع الطموح لتركيا بأن تكون مرجعية السلطات المنبثقة عن هذه الانتفاضات، وبناء محور جديد للإسلام السياسي الذي تريده في الإقليم.
الصراع أو التباين الإيراني – التركي لم يقتصر على الصراع حول ما يسمى العمق الإستراتيجي لمشروع كل منهما، بل انتقل إلى مستوى أكثر تعقيداً وصعوبة وخطورة بالنسبة إلى النظام الإيراني من خلال الطموحات التي لم يُخفها الرئيس التركي، والتي تمس البعد الجيوسياسي لإيران في محيطها الجيوستراتيجي، وهذه المرة ليس في الشرق الأوسط بل في مناطق كانت تعتبرها طهران مستقرة ولا تشكل مصدر قلق، إن كان في آسيا الوسطى أو العمق الأوراسي، أو في منطقة القوقاز الجنوبي، أو على حدودها الشرقية في أفغانستان وباكستان.
ولم تكن إشارات الرئيس التركي عابرة عندما أعلن دعمه المطلق لحكومة أذربيجان بقيادة الرئيس إلهام علييف، بخاصة في مساعيها إلى فرض تعديل جيوسياسي على حدودها مع أرمينيا عبر إحداث ممر بري يربط بين شطريها المركزي وإقليم نخجوان، ثم في دعمه التصعيد الأمني والعسكري الذي تصاعد بين طهران وباكو والذي كاد أن يؤدي إلى تفجير حرب بينهما أواخر صيف 2021.
والطموحات التركية بالحلول بديلاً عن إيران لم تقتصر على منطقة القوقاز الجنوبي بل توسعت إلى أبعد من ذلك عندما كشف أردوغان عن مساعيه إلى إقامة “هلال تركي” بمحورية أنقرة يربط بين تركيا ودول آسيا الوسطى، ثم من خلال بناء ممرات للنقل البري حول إيران تربط بين العمق الآسيوي والسواحل التركية باتجاه أوروبا، ولم يكن مشروع أردوغان في نزع الأوراق الايرانية الجيوسياسية والجيواقتصادية عابراً أو كلاماً في الفراغ، بل كان متكاملاً وذا بعد ثقافي، برز من خلال محاولة الاستيلاء على التراث الثقافي لإيران، وبدأ من محاولة مصادرة جلال الدين الرومي البلخي “مولانا” وضمه إلى التراث التركي، ثم أعلن مصادرة شاعر آخر وهو نظامي الكنجوي خلال إحدى زياراته للعاصمة الأذربيجانية باكو.
والمحطة الأخيرة في سلسلة المصادرات الأردوغانية للتراث الثقافي الإيراني كانت قبل أيام، عندما اعتبر أن “عيد النوروز” تراث مشترك يمكن أن يشكل أحد المحاور التي تجتمع عليها الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى، وقد ترافقت هذه المواقف للرئيس التركي مع سلسلة من الأحداث القومية التي شهدتها مدينة أرومية، مركز محافظة أذربيجان الغربية، بين المكونين الأساس فيها، أي الترك الأذريين والأكراد، على خلفية رفض الجماعة التركية الغزو الذي حصل للمدينة جراء الاحتفالات الضخمة وغير المسبوقة التي أقامها الأكراد احتفاء بـ “عيد النوروز”، وهذه الأحداث والمواجهات التي حصلت بين هاتين الجماعتين اعتبرتها منظومة السلطة والحكم في طهران مؤشراً خطراً على الاستباحة للأمن القومي الإيراني، باعتبار أنها ليست أحداثاً داخلية أو عابرة بل هي جرس إنذار ومؤشر إلى تهديد جيوسياسي، والسبب في هذا الاستنفار الإيراني ما سبق أن شهدته هذه المناطق، وبخاصة المحافظات الأذرية، من تصاعد المطالب القومية المدعومة من دولتي تركيا وأذربيجان، إضافة إلى ما تتمتع به تركيا من نفوذ داخل هذه المناطق، والذي دفع كثيراً من الذين شاركوا في هذه الاضطرابات إلى رفع العلم التركي، ورفض محافظ المحافظة الحديث باللغة الفارسية واستخدام اللغة التركية بديلاً عنها، وقد زادت مواقف أردوغان الموقف تعقيداً عندما عاد للحديث عن حقوق تركيا في بعض المدن الإيرانية، وتحديداً أرومية وتبريز.
وتأخذ هذه التطورات أهميتها وخطورتها، أنها، وبحسب تقدير منظومة السلطة، تجري في ظل ما تتعرض له إيران والنظام من حصار وتهديد وأخطار نتيجة التهديدات التي يمارسها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، وبالتالي فإن الموقف التركي يصب، بحسب هذه القراءة، في وضع النظام بين فكي كماشة التهديد الخارجي من جهة، والاضطرابات الداخلية وتمزيق إيران من جهة أخرى، وبالتالي فإن دقة المرحلة تضع هذه القيادة في موقف حرج، إن كان في السكوت عنها وما قد تؤدي إليه من تطورات قد تخرج عن قدرتها على الاستيعاب، أو اعتماد الشدة والقسوة والقمع، وما قد يؤدي إليه ذلك من إمكان تفجر صراعات قومية ومناطقية قد لا تقتصر على المناطق الكردية والأذرية، بل تتعداها إلى مناطق أخرى تعيش على صفيح ساخن وتنتظر اللحظة التي تنفجر فيها.