حرية ـ (27/3/2025)
يسري حسان
يعرف المهتمون بتاريخ الفنون أن المسرح في العراق تمتد جذوره إلى الربع الأخير من القرن الـ19، أي إنه مسرح عريق، استطاع، عبر سنواته الطويلة، أن يكون جزءاً فاعلاً ومؤثراً في مسيرة المسرح العربي.
وعلى مدى تاريخه قدم هذا المسرح مئات الأسماء المهمة، سواء في الكتابة أو الإخراج أو التمثيل أو التنظير أو عناصر العرض المسرحي كافة، ومنهم من تلقوا دراساتهم خارج العراق، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية، وعادوا إلى بلادهم لتطبيق ما درسوه عملياً مع المسرحيين من مواطنيهم.
المؤكد أن المسرح العراقي مر بفترات ازدهار، وانكسار كذلك، وربما عانى كثيراً بسبب ما شهدته البلاد من حروب واحتلال أميركي وصراعات سياسية وأيديولوجية، أثرت بالسلب عليه، لكنه منذ سنوات عدة بدأ في استعادة عافيته، ومضى في احتلال المساحة التي تليق به، وهو ما تمثل في عديد الفعاليات المحلية والدولية التي شهدها خلال السنوات القليلة الماضية.

المسرحية العراقية “وين رايحين”
في العام الماضي كان لي حظ السفر إلى بغداد مرتين، الأولى في يناير (كانون الثاني)، للمشاركة في مهرجان المسرح العربي الذي نظمته الهيئة العربية للمسرح في العاصمة العراقية، أما الثانية فكانت في ديسمبر (كانون الأول) للمشاركة في مهرجان بغداد الدولي الرابع للمسرح. في المرتين كانت الملاحظة الأساسية أن المسارح الثلاثة التي استضافت عروض المهرجانين (المسرح الوطني، مسرح الرشيد، مسرح المنصور) لم يكن بها موضع لقدم في كل المسرحيات التي عرضت على خشباتها، وهو ما يعني أن الجمهور العراقي محب للمسرح ومقدر لدوره ومتعطش لمشاهدته، وينتظر كثيراً من مسرحييه.
تعلق السؤال الذي طرحته على بعض النقاد والفنانين، بحال المسرح العراقي الآن، إلى أي مدى بدأ يتعافى ويسترد مكانته على الساحة العربية، وما الصعوبات التي تواجهه، وما تصوراتهم لمستقبله؟
مفترق طرق
رغم إقامته الدائمة في باريس، حيث يعمل، فإن الناقد والكاتب العراقي محمد سيف حريص على متابعة المسرح في بلده الأصلي، وهو يرى أنه بعد عام 2003، وجدت فنون الأداء نفسها أمام مفترق طرق، متقاطعة ومتراكبة، مما جعل المشهد المسرحي العراقي المعاصر يندرج في نفس سياقات الوضع الاجتماعي والسياسي للبلد، الذي تشظى أكثر من ذي قبل، بسبب الحروب المتتالية، والنظام الديكتاتوري السابق، والغزو الأميركي الذي أغرق البلد في فوضى عارمة بعد تدميره البنى التحتية من خلال القصف المروع، وافتعاله آليات سياسية ودينية مرتجلة. لذلك سيطر الغموض والارتباك على المشهد العام للأحداث.

مسرحية “لير يحاكم القدر”
أول الأسئلة التي قد تبرز في خضم هذه الفوضى يطرحها محمد سيف، وهي، ما الأشكال التي يمكن أن تظهر في الدراماتورجيا العراقية لتساعدنا على فهم هذا الجحيم الكارثي، كيف يمكن مقارنة ذلك بفترات أخرى في المسرح العراقي؟ ويجيب، لا شك أن المقاييس قد تغيرت، بخاصة أن النظام العشائري الإسلامي الذي تأسس في هذا الوقت كان يحول بشكل غير مباشر نوعاً ما دون ممارسة الفن، من خلال تقويض الدعم المادي والمعنوي للفن والفنانين، بحجة تردي الوضع الاقتصادي وتبعاته على المجتمع. وبقدر ما كان لهذا الوضع الجهنمي الجديد جوانبه السلبية، فقد كان له جوانبه الإيجابية أيضاً، لا سيما أنه أتاح للفنان العراقي مساحة من الحرية والديمقراطية، مما أثر كثيراً على مضمون النصوص المسرحية وعروضها، وذلك بكسر التابوهات، وانعكس ذلك أيضاً على الأداء التمثيلي وتأثيث الفضاء المسرحي ورؤى الإخراج التي حاول مخرجوها جر المسرح إلى رؤاهم التجريبية، إذ ظهر ما نسميه “مسرح الجسد الدرامي أو الكيروغرافي”. إضافة إلى إدخال تقنيات جديدة تتمحور حول الجسد والسينوغرافيا والإضاءة والتكنولوجيا الرقمية التي فتحت آفاقاً جديدة للابتكار من خلال إدخال اللعب بخيال الظل والتسجيل الصوتي والكمبيوتر وصورة الفيديو والتلفزيون والتصوير السينمائي في العرض المسرحي.
ويمكننا أن نرى، كما يقول محمد سيف، إن معظم العروض المسرحية العراقية في هذه الفترة لم تعد تعتمد كثيراً على النصوص العالمية أو شخصياتها، بل تكتفي بالشخصية العراقية وما تعانيه هذه الأخيرة من مأساة يومية جهنمية. فالبطولة لم تعد قدرية، بل أصبحت واقعاً معاشاً مليئاً بالرعب والسقطات التراجيدية، على عكس سقطات أبطال المأساة الإغريقية. والحدث لم يعد واحداً، ولم يعد خطياً إلا في حالات نادرة، ولم يعد خاضعاً للوحدات الثلاث التي حددها أرسطو. لقد تحول المكان إلى عدة فضاءات داخل الزمكان للحدث أو بالأحرى أصبحت الأحداث تظهر هنا وهناك أو في مكان آخر، مما أدى إلى تجزئة المكان وتشكيله على شكل قطع أو أقسام متناثرة، تجد الشخصيات فيها نفسها محكومة بشروط مكانية خاصة ومحددة، إذ لم تعد البداية والنهاية محسوسة، فالزمن مجزأ، بل أصبح هجيناً نوعاً ما، الماضي يأتي إلى الحاضر، لا ليكون متراكباً عليه بل مجاوراً له كما لو كان مطابقاً له، والمستقبل يكاد يكون غير موجود.

المسرحية العراقية “عزرائيل”
وبهذه الطريقة، يقول محمد سيف، يمكن تمديد الحاضر إلى ما لا نهاية، طالما أنه لا يوجد تصور للغد. كل شيء مظلم، ويعيش في دوامة كارثية، والكلمات في هذه النصوص ذات تدرجات دافئة وباردة، مليئة بالانحناءات والهمزات والكسرات، ومن ثَم فهي حروف، والحروف مستقيمة ودائرية ومتعرجة ومنحنية ومليئة بالنقاط التي تشبه النمش على الوجوه وغبار الروح. فلا أحد يحكم في هذا البلد ببراءة، اختلط الكذب بالصدق، كما لو كانت معركة يرويها المسرح نفسه. ومع ذلك هناك بصيص أمل في نهاية النفق الذي انزلقت فيه البلاد والعباد، بخاصة أن الحرب أصبحت نموذجاً للدراما المعاصرة.
تغيير دراماتيكي
وبحسب الناقد العراقي جبار وناس، فإن المسرح في العراق، وفي راهن ما نعيش، لا يكاد يبتعد عما يحصل من أحداث ومنعطفات يمكن عدها كبيرة إذا ما نظرنا إلى ما تركته من آثار، بعض منها أسهم في خلخلة البناء القيمي والنسيج المجتمعي في العراق، وبالذات بعد التغيير الدراماتيكي المزلزل الذي حصل بعد 2003 والشيء الكبير في حركة المسرح في العراق أنها تواصلت مع هذه الأحداث وتلك المنعطفات فكان لخشبات المسرح أن تكون في تواصل واستلهام وتداخل فني عميق كالذي حصل مع ظاهرة التهجير والقتل على الهوية أثناء ما شهده العراق من حرب طائفية وأيضاً مع ما ارتكبه “داعش” من أفعال مروعة أودت بالآلاف من العراقيين، وأيضاً في تجسيد ما حل في العراق من خراب مادي وروحي أسهمت في وجوده السياسات الخطأ التي أدارت دفة الحكم من قبل الأحزاب ذات التوجهات الدينية، والتي وقفت بالضد من حركة الثقافة والفن والإيمان الحقيقي بدوره الفاعل في حركة المجتمع وتطوره. هذا فضلاً عما استجد في حركة المسرح أنها شهدت ظهور ما كان يعرف بالهوامش والمضمر والمقموع سابقاً، سياسياً، اجتماعياً، دينياً، راح يأخذ له مساحة واضحة في مجمل عملية الاشتغال المسرحي وصرنا مع فعاليات مسرحية متنوعة مهرجان “نظران المسرحي” في محافظة البصرة، ومهرجان “ينابيع الشهادة” في محافظة بابل، ومهرجان “الطف المسرحي” في محافظة النجف، ومهرجان “أبو تراب” في محافظة المثنى، ومهرجان “مسرح الشارع” في محافظة كركوك، وأيضاً في محافظة أربيل، ومهرجان “منتدى المسرح الجاد” في الفلوجة، محافظة الأنبار، وكل هذه المهرجانات تقام خارج العاصمة بغداد التي شهدت هي الأخرى إقامة مهرجان المسرح العربي في العراق ومهرجان بغداد الدولي، ويمكن عد هذه الفعاليات دليلاً على عافية المسرح في العراق.

مسرحية “السيرك”
أما عن المشكلات التي تعترض حركة المسرح، فيقول جبار وناس، إنها كثيرة تبدأ بانعدام البنى التحتية للمسرح، وفي غالب المحافظات، فلا نجد مسرحاً حقيقياً وبخاصة في المدن الفاعلة في إدامة وتواصل مسيرة المسرح كما الحال في مدن البصرة، الناصرية، الحلة، الديوانية، كربلاء، النجف فهذه المدن فاعلة في إنتاج وتقديم فعاليات المسرح، إضافة إلى ما يقدم في العاصمة بغداد، ولكنها تعاني أشد المعاناة حين التفكير أو الشروع في تقديم ما تريد من أعمال مسرحية لانعدام أو تلاشي وجود قاعة مسرحية لائقة. ومن المشكلات الأخرى التي يرصدها وناس، ضمور دور الفرق المسرحية الأهلية والتي كانت تعد الأساس في قيام وظهور حركة المسرح في العراق، ويضاف للمشكلات أيضاً التوقف غير المسؤول لفعاليات منتدى المسرح الذي يعد الحلقة الوسطى التي كانت تغذي المسرح بعديد من الكفاءات المسرحية على صعيد التأليف والإخراج والتمثيل وباقي مكملات إنشاء العروض المسرحية.
انطفاء الضوء

مسرحية “الجدار”
أحمد شرجي ممثل وأكاديمي عراقي يقول، إن المسرح العراقي يعد من المسارح المهمة عربياً وذلك لتنوع اشتغالاته الإجرائية على مستوى العرض المسرحي، جيل الرواد له معامله الاستغلالية كلاسيكياً وطرازياً وأسلوبياً، والأجيال الأخرى تسعى إلى فك مبدأ الأبوة الفنية من خلال فتح طرق جديدة للعرض المسرحي وخلق خصوصيته الفنية، خصوصاً بعد رجوع كثيرين من بلدان مختلفة. كل ذلك رسخ خصوصية المسرح، لكن الأزمات السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية، قوضت كل تلك الالتماعات، ودخلنا في مرحلة مسرح سلطة ومسرح مناهض للسلطة، والأخير لم يسمح لتجربته بالخروج والانفتاح على الآخر. وقد أسهم ذلك، في رأي أحمد شرجي، في انطفاء ضوء المسرح العراقي المشع دائماً، وبعد سقوط النظام عام 2003 خرج المسرح العراقي للبوح العلني، وهذا مشكل كبير لأن الواقع يقال فيه كل شيء ولا يمكن نقله بكليته إلى المسرح، حتى تحول المسرح إلى خطاب سياسي وابتعد عن الفعل الجمالي، ولكن بعد أكثر من عقد، والخلاص من الخطاب العاطفي، بدأت المقترحات وإجراءات العرض المسرحي تنحو إلى الجمالي والإنساني، لأن المسرح ليس منبراً سياسياً، إضافة إلى انفتاح البلد على التجارب الجديدة والمعاصرة، إن كانت تقدم داخل العراق أو في المهرجانات الدولية، فقد أسهم هذا في البحث عن رؤى مغايرة للعرض المسرح، ناهيك بجيل جديد لم يشاهد أي عرض للمخرجين الكبار، لأن معظمهم توقف عن تقديم العروض المسرحية، ولهذا أخذ هذا الجيل على عاتقه التصدي لسيرورة المسرح العراقي، وملخص كل ذلك التنوع الجيلي في التعاطي مع فكرة العرض وتقديمه، بدأ يترك أثره في المسرح العراقي، فالذي يقدمه مخرج بقيمة جواد الأسدي مؤكد مختلف عما يقدمه حيدر منعثر أو سنان العزاوي أو علاء قحطان، أو غيرهم من الأجيال الجديدة.
التنوع في الشكل

العرض العراقي “قطار بصرة لندن” (خدمة العرض)
وعندما نتحدث عن المسرح العراقي فنحن، كما يقول مهند العميدي، فنان وأكاديمي عراقي، إزاء فعالية ثقافية ارتبطت منذ نشوئها وتكوينها بالناس، فالعاملون على المسرح كان همهم الأكبر هو تثوير الجماهير واستفزاز مشاعرهم وعواطفهم، ومن هنا كان المنطلق الكبير والمنعطف متمثلاً في الرعيل الأول الذي درس خارج العراق وجاء محملاً بالوعي المسرحي والرؤى المغايرة عن السائد، وهنا كان التنوع في شكل العرض بل في كل أنساق العرض المسرحي، فمنهم من تبنى منهجية برتولد برخت، كالراحل إبراهيم جلال، ومنهم من تبنى منهجية ستانسلافسكي، وهم الفنانون الذين درسوا في أميركا، ومن هنا بدأت النهضة الحقيقية للمسرح العراقي وهو يحمل هموم الناس وتطلعاتهم للعيش بحرية، فقاد هذا التنوع إلى خلق أجيال جديدة تحمل نفس الهم لتقدم عروضاً مسرحية ذات قيمة عالية في مختلف العقود، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي وصولاً إلى تسعينياته، كان المسرح العراقي متوقد الذهن حاضراً دوماً، يناقش ويحلل المتغيرات التي طرأت على البنية المجتمعية العراقية.
وعندما نذكر عقد التسعينيات وما رافقه من متغير خطر، ألا وهو الحصار الاقتصادي على البلد، وإن حاولت السلطة آنذاك أن تهيمن وتسير الخطاب المسرحي نحو مرادها، نجد عروضاً ومنهجيات عديدة، كما يشير مهند العبيدي، فالشيوخ يقدمون عروضهم، والأجيال التي جاءت بعدهم تقدم عروضها، وكذلك ازدهر ما يعرف بالمسرح التجاري، وهو مصطلح أطلق في العراق على مسرح الشباك الذي ينتهج الواقعية مع الكوميديا، وفي المقابل نرى منتدى التجريبي حاضراً بعروض الشباب، أي أن هناك تنوعاً كبيراً في الأساليب والمناهج والأجيال، إلا أن المسرح العراقي ما بعد 2003 غاب عنه هذا التنوع فحضرت منهجيات تكاد الغالبية تتفق عليها، بوعي أو من دونه، ثم ظهرت موجة الكيروغراف التي جعلت العرض المسرحي العراقي وكأننا أمام مجرد فرق راقصة، وأيضاً كان هناك تأثر بما يسمى ما بعد الدراما فضاعت هوية العرض وضاع معها الخطاب الموجه وابتعد الجمهور عن المسرح العراقي، إلا أننا لا نبخس عروضاً كبيرة، قدمت في هذه الفترة، حقها، للمخرج مهند هادي والمخرج كاظم النصار وكذلك المخرج حيدر منعثر، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المسرح العراقي قادر أن يستعيد عافيته بما يمتلكه من إرث كبير وتقاليد مسرحية رصينة وأدوات وخبرات بشرية قادرة أن تعيد العافية إلى المسرح وتعيد الجمهور إلى صالاته، فالمسرح في العراق ليس مجرد عرض مسرحي بل إنه نسق ثقافي ضمن البنية المجتمعية العراقية.