حرية ـ (29/3/2025)
رفيق خوري
في الولاية الأولى أوحى الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه يتمنى الحكم على طريقة نظيره الروسي فلاديمير بوتين: لا أحد في الحكومة والحزب يجادله، ولا تردد في مجلس الدوما حيال تشريع القوانين التي يريدها. لكن معاونيه تصرفوا على أساس أنهم “بوليصة ضمان” لضبط ترمب ومنعه من التهور، ولذلك طردهم واحداً بعد آخر، و”الدولة العميقة” عرقلت رغباته وعملت ضدها أحياناً.
أما في الولاية الثانية فإنه حكم على طريقة بوتين: أوامر تنفيذية بأعداد غير مسبوقة، وكونغرس جمهوري يجادل قليلاً قبل أن يطيع، ومعاونون ينفذون الأوامر، واندفاع في ضرب “الدولة العميقة” وتفكيك “الدولة الإدارية”. لا بل إن ترمب بدأ على الصعيد الدولي حرباً تجارية على حلفائه قبل الخصوم، وهدد بإلغاء التحالفات التي صنعتها أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، وجاء بوزير دفاع يقول بصراحة إنه “لا فائدة من الأمم المتحدة”. والمشهد ناطق: ترمب يمارس سياسة مسدس الكاوبوي ودفتر التاجر. والكاوبوي يهدد أية دولة باستخدام القوة، والتاجر يفتح الدفتر لتسجيل الأرباح من التهديد أو استخدام القوة، من الحصول على المعادن الثمينة في أوكرانيا إلى إخراج الصين من قناة بنما وحلول شركات أميركية مكانها.
وليس هذا نتاج اندفاعات ارتجالية بمقدار ما هو جزء من تخطيط. فالعالم الذي يريده ترمب هو “عالم التحول نحو القائد القوي والأمة العظيمة والحضارة المتفوقة”، كما يقول مدير معهد كينان في مركز ويلسون ومؤلف كتاب “هجر الغرب” البروفيسور مايكل كيماج في مقال تحت عنوان “القوة الأميركية في عصر القومية الجديد”.
وترمب هو الأخير في الانضمام إلى صف القوميين الجدد: شي جينبينغ في الصين وبوتين في روسيا، وناريندرا مودي في الهند ورجب طيب أردوغان في تركيا. بوتين يحاول إحياء “عالم روسيا” واستعادة مرتبة القوة العظمى التي ذهبت مع الاتحاد السوفياتي، وشي هو “بوتين مكبر”، ومودي يلاعب “القومية الهندوسية” كأيديولوجيا مهيمنة في الهند، وأردوغان نقل تركيا “من ديمقراطية حزبية إلى عرض رجل واحد أوتوقراطي”، وترمب هو الإمبراطور بإذعان الآخرين.
ترمب رفع في المكتب البيضاوي صورة الرئيس رونالد ريغان وأوحى أنه يسير على خطاه، لكن ريغان كما يقول ماكس بوت في كتاب جديد بعنوان “ريغان حياته وأسطورته”، كان “أكثر أيديولوجية وأكثر براغماتية مما فهمه معظم الشعب”. وقال في خطاب عام 1984 “إن الانعزالية لم ولن تكون رداً مقبولاً على الحكومات الطغيانية”، وقال في خطابه الأخير إلى الأمة “المهاجرون هم مصدر عظمة أميركا والسر وراء كونها فريدة بين الأمم”.
أما ترمب فإنه على العكس من ذلك، أقل أيديولوجية يبحث عن التفاهم والتعاون مع الحكومات الطغيانية، ويهاجم المهاجرين ويعمل على طرد 10 ملايين مهاجر من أميركا. لا بل إنه يستخدم الدولة كسلاح سياسي، وهذا في منتهى الخطورة على أميركا، كما يرى البروفيسور ستيفن ليفيتسكي، لأنه يخلق وضعاً تصعب العودة عنه، بحيث إن “الدستور لا يمكنه إنقاذ الديمقراطية”. ذلك أن ترمب يقود أميركا إلى حكم الأوليغارشية من فوق ومعهم ماسك حامل المنشار الكهربائي والبلطجية من تحت. ويرى من بقي من العقلاء بين الاستراتيجيين الجمهوريين أخطار الانتقال من طلب أصحاب “الخبرة والكفاية والمؤهلات” إلى طلب الذين يريدون القنابل ويفجرون الأشياء.
وإذا كان العالم اليوم في مرحلة “المعركة الرابعة على أوراسيا”، حسب هال براندز الأستاذ في مدرسة الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، فإن اللعبة تتركز في المثلث “الأميركي، الصيني، الروسي” في رأي المراقبين. وليس ما فعله ترمب خلال الاتصال الأخير مع بوتين سوى إضافة قوة وشرعية إلى رئيس روسي يغزو أوكرانيا ويخيف أوروبا. فمن الوهم رهان ترمب على تحالف مع بوتين لمواجهة الصين، في سيناريو معاكس للتحالف بين ماو ونيكسون ضد الاتحاد السوفياتي، لأن الظروف مختلفة تماماً. وخلال سبعينيات القرن الماضي كانت القطيعة قوية بين النظامين الشيوعيين الصيني والسوفياتي، وماو هو الذي بادر إلى فتح الباب الأميركي عبر الرسالة مع صديقه إدغار سنو بعد ضربة عسكرية سوفياتية للصين على نهر ميسوري، ونيكسون هو الذي التقط الفرصة لبناء تحالف ثنائي في المثلث ضد الضلع الثالث السوفياتي.
أما اليوم فإن بين شي وبوتين “شراكة استراتيجية بلا حدود”، وهما معاً ضد النظام الدولي الذي بنته أميركا وضد هيمنتها ويعملان لنظام متعدد الأقطاب، لا بل إن شي يضيف إلى ذلك شعار “آسيا للآسيويين” في إشارة إلى الرغبة في إخراج أميركا من تحالفاتها مع اليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين وسواها، ودعمها لتايوان.
لكن العقبات ليست قليلة أمام ترمب في الداخل، حيث اللعبة تدور مع مليوني موظف فيدرالي وحزب ديمقراطي يلتقط أنفاسه ونخبة مجروحة. والتحديات كبيرة في الخارج، ولا سيما داخل الشرق الأوسط، حيث يوحي المشهد الحالي أن اليد العليا لأميركا وإسرائيل. غير أنه مشهد موقت مملوء بالصعاب والتضاريس السياسية العصية على الكاوبوي الأميركي وتابعه الإسرائيلي. حتى إنهاء الحقبة الإيرانية في المنطقة فإنه لن يغير كل شيء، إن لم تكن التسوية وقيام دولة فلسطينية على الجانب الآخر من الرصيف، والمسافة بين الرصيفين طويلة.