حرية ـ (30/3/2025)
رفيق خوري
ليس نقل المحادثات بين وزيري الدفاع اللبناني والسوري من دمشق إلى جدة مجرد تغيير مكان. ولا كان اتفاق أميركا وروسيا على اختيار جدة والرياض لمفاوضات بين مسؤولين كبار فيهما حول العلاقات الثنائية ثم حول هدنة في حرب أوكرانيا مع لقاءات أميركية-أوكرانية، ولاحقاً لقمة مفترضة بين الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين، مسألة على طريقة الاجتماعات في جنيف أو فيينا أو مدريد. فما يحدث هو حركة في إطار متغيرات جيوسياسية واستراتيجية تشير إلى دور كبير للسعودية كقطب إقليمي له موقع دولي مهم. وما ترمز إليه رعاية الرياض للمحادثات اللبنانية-السورية هو الإمساك بملف العلاقات بين بيروت ودمشق لحل المشكلات الموروثة من نظام الأسد. والملح حالياً هو تركيز الاهتمام على ترسيم الحدود المتشابكة في بعض المناطق، وضبط عمليات التهريب وصنع الكبتاغون وإنهاء التداخل بين العشائر و”حزب الله” وسلاحه وفلتان المسلحين على طرفي الحدود. وإذا كان الحكم الجديد في لبنان يواجه تحديات ما بقي من الحقبة الإيرانية، والإدارة الجديدة في سوريا لم تمسك بعد بكل مناطق البلد وقواه وهي تواجه إرث النظام السوري، فإن السعودية هي الضمان لتصحيح هذا الوضع. وإذا كانت الثقة هي “عملة الدبلوماسية” كما قال وزير الخارجية الأميركي الراحل جورج شولتز، فإن الثقة هي الأساس في نهج السعودية وموقفها وسياستها، ثلاثية “وساطة وثقة وضمان”.
والتطور بارز في الدور السعودي، فخلال الستينيات والسبعينيات من القرن الـ20 كان الثلاثي المصري- السوري-السعودي هو قاطرة العمل العربي وقائده. الملك فيصل أعلن قطع النفط عن أميركا وأوروبا خلال حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 دعماً لمصر وسوريا. والملك فهد قاد مع الملك الحسن الثاني والرئيس الشاذلي بن جديد اللبنانيين إلى اجتماعات الطائف والتوصل إلى “اتفاق الطائف” خلال عام 1989، الذي أوقف حرب لبنان وفتح باب استعادة الدولة. والملك عبدالله هو الذي قدم عندما كان أميراً وولياً للعهد مبادرة السلام التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام 2002. والملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان قادا السعودية إلى خمسة أمور كبيرة.
أولها التركيز، ودعوة العرب جميعاً إلى التركيز على التنمية وصناعة المستقبل بدل الاندفاع في حروب عبثية، وكانت رؤية 2030 هي قمة التركيز. وثانيها تنويع العلاقات الدولية بعد درس الهجوم الإيراني على منشآت النفط من دون أن تفعل واشنطن شيئاً، بحيث صار الانفتاح على روسيا والصين وأوروبا من دون التخلي عن العلاقات مع أميركا التي عرضت عقد “معاهدة دفاع” مع الرياض. وثالثها تقوية العمل العربي المشترك والعمل الإسلامي المشترك عبر ما هو أكثر من عقد القمم العربية والقمم الإسلامية. ورابعها إجبار واشنطن على التسليم بما سماه فيليب غولدن “الحليف السعودي الصعب والذي لا بد منه”. وخامسها الاستعداد لمواجهة ما يمكن أن يصبح واقعاً، وهو قيام “منتدى أمني للشرق الأوسط” على أساس أن “الشرق الأوسط وحده يمكن أن يعالج الشرق الأوسط” حسب داليا داسا وسنام وكيل في “فورين أفيرز”.
ذلك أن ثورات ما سمي “الربيع العربي” أدت إلى كوارث وانهيارات في بلدان عدة، ولكن “لا سوء حظ من دون بعض الحظ” كما يقول مثل أفريقي. فالبروفيسور مارك لينش صاحب كتاب “الحروب العربية الجديدة” يرى أن الفشل “أنتج نظاماً عربياً وأعاد تشكيل العلاقات الإقليمية”. كيف؟ الملاحظة التي سجلها هي أن القوى التقليدية العربية الكبرى لا تكاد تعمل في ظل مشكلات كبيرة، وأن “الدول الخليجية تزدهر وتنمو”. وبكلام آخر إن قيادة العالم العربي تتركز في السعودية، والحاجة كبيرة إلى دور قيادي ضامن لأن انتشار الدول الضعيفة والفاشلة يشكل خطراً حتى على الدول القوية والغنية. لا بل إن “ما يقرر ميزان القوى في الشرق الأوسط ليس قضية فلسطين بل مصير الدولة الفاشلة في أفغانستان والعراق ولبنان وسواها”، حسب والي نصر.
ومن هنا أهمية العمل السعودي لانتشال لبنان وسوريا من الفشل وبناء دولتين فيهما. باب الخروج من الفشل في سوريا هو قيام سلطة تعكس تنوع المجتمع وتقيم العدالة الانتقالية لمعاقبة الذين ارتكبوا المذابح أيام النظام السابق، والمذابح الجديدة بعد سقوط النظام. ومعالجة الحساسيات الطائفية هو ما يمهد لرفع العقوبات الأميركية والأوروبية وتقديم المساعدات العربية. والنجاح في لبنان يتوقف على إجراء إصلاحات ضرورية ومطلوبة واحتكار الدولة للسلاح أو ما يسميه ماكس فيبر “العنف الشرعي”، وإخراج الاحتلال الإسرائيلي من النقاط التي بقي فيها خلال الحرب مع “حزب الله”، بحيث يمكن بعدها تقديم المساعدات لإعادة الإعمار وتنشيط الاستثمارات والانتقال من التحكم إلى الحوكمة الرشيدة. والسؤال هو، ماذا عن ضغوط الرئيس دونالد ترمب ومواقفه “السوريالية” في موضوع غزة ودعمه لنتنياهو الراغب في ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل وتوسيع الاحتلال في جبل الشيخ والمحافظات الثلاث في الجنوب السوري، وهل هذه هي الاستراتيجية الأميركية الجديدة للشرق الأوسط؟
و”الحكم ليس حرفة بطولات بل حرفة تسويات”، كما يقول الرئيس رونالد ريغان.