حرية ـ (3/4/2025)
كايتي روسينسكي
“أريد وظيفة… مجرد وظيفة بعيداً من أي تطلعات كبيرة”. كلما تحدثت إلى أصدقائي وزملائي في شأن مسيرتهم المهنية لا بد أن يطرأ السؤال المعتاد: “كيف حال العمل؟”. لا ينفك هذا السؤال يقفز إلى المحادثات مراراً وتكراراً. في السابق كنا نتشارك طموحاتنا ونتحدث عن الترقيات المحتملة أو المشاريع الجانبية، أو حتى عن ساعات العمل الطويلة والمرهقة في الوظيفة وكيف ستؤتي ثمارها لا محالة في نهاية المطاف. أما الآن فيبدو المزاج العام أكثر فتوراً وأقل حماسة تجاه العمل والوظيفة. باختصار إنه شعور من اللامبالاة يسود بين الجميع.
كثر ممن كانوا يعقدون في الماضي آمالاً كبيرة على مسيرتهم المهنية والنجاحات التي قد تحققها لهم، يجدون أنفسهم اليوم عاجزين عن تقديم إجابة واضحة إذا ما سئلوا عن “وظيفة أحلامهم” أو الوظيفة المثالية بالنسبة إليهم. تسأل ريتشيل، ابنة الـ26 سنة، والتي تشتغل في مجال التسويق: “لماذا يتوقع منا أن نضع كل آمالنا وأحلامنا في وظيفتنا؟”. وتضيف أنها لم تعد تنظر إلى مسيرتها المهنية كهدف نهائي لا بد من بلوغه، أو سلم [مراتب] يجب أن ترتقيه، وصارت الآن أكثر اهتماماً بالتأثير الذي تتركه خطوتها المهنية التالية على مجمل حياتها.
وعلى نحو مماثل، أخبرني جيك، البالغ من العمر 34 سنة، أنه بعد ما يربو على عقد من الزمن في مجال الاتصالات، يبحث الآن عن وظيفة توفر له مزيداً من الوقت بعيداً من الضغوط ومتنفساً أكبر للراحة، حتى وإن بدا ذلك للآخرين خطوة إلى الوراء في مسيرته المهنية. يقول: “لم يعد الطموح يشغلني خلافاً للسابق. أريد راتباً لائقاً وساعات عمل معقولة، وأن أشعر وكأنني استعدت زمام حياتي”.
شعور الإحباط هذا لا يعتري جيك وريتشل فحسب. في العام الماضي، أجرى “معهد تشارترد للأفراد والتنمية” استطلاعاً شمل أكثر من 5 آلاف عامل ضمن إعداد تقريره المعنون “مؤشر العمل الجيد”. أظهرت النتائج أن 47 في المئة من المشاركين قالوا إن الوظيفة لا تعني لهم شيئاً سوى المال، في تراجع عن 38 في المئة عام 2019. والمفاجئ أن 51 في المئة فقط أبدوا استعدادهم للعمل بجد أكثر من المطلوب، في تراجع أيضاً عن 57 في المئة عام 2019. كذلك كشفت الشركة الأميركية “غالوب” المتخصصة بالاستشارات الإدارية والموارد البشرية عن تراجع غير مسبوق في مستوى الرضا في صفوف الموظفين. وقد وصفت هذه الظاهرة بـ”الانفصال الكبير” [اللامبالاة العظيمة]، في إشارة إلى شعور العمال المتعاظم بعدم الارتباط، بل اللامبالاة، تجاه وظائفهم.
إذا، هل انطوت صفحة وظيفة الأحلام، أم أنها على وشك الزوال؟ للإجابة عن هذا السؤال، علينا أولاً أن نستكشف كيف وصلنا إلى مرحلة صار فيها العمل طموحاً نركض خلفه من الأساس، أو أقله، كيف وضعنا العمل على عرش أولوياتنا. يخبرني تيم دوغان، المتخصص في شؤون المهن والتوظيف ومؤلف كتاب “العمل بعكس الاتجاه”، أننا نرى العمل عادة بثلاثة أشكال: وظيفة، ومسيرة مهنية، ورسالة. ويقول: “تتمثل الوظيفة في العمل من أجل الكسب المالي بصورة رئيسة، بينما تمثل المسيرة المهنية العمل الذي يوفر لك الرضا من خلال التعلم والتقدم المهني، أما الرسالة فتعد الهدف الأسمى الذي نسعى إليه. أنها حال نادرة، تكون فيها منغمساً ومشدوهاً تماماً أمام قيمة إبداعك إلى حد أنك لا تشعر أبداً بأنه عمل شاق”.
تقول ناتاشا ستانلي، المدربة الرئيسة في “كارير شيفترز” Careershifters، علماً أنها شركة تدعم الباحثين عن تغيير مهنتهم، إن فكرة “وظيفة الأحلام” مفهوم حديث نسبياً. وتشير إلى أنه نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، استجابة لتراجع دور الأديان المؤسسية وتعاظم طابع الفردية في المجتمع. وتضيف أن “الأماكن التي كنا نذهب إليها [مثل دور العبادة والمؤسسات الدينية والمجتمعية التي كانت توفر شعوراً بالانتماء] بحثاً عن هدفنا أخذت تختفي، لذا لجأنا إلى العمل. لم تعد مسيرتنا المهنية بالنسبة إلينا مجرد آلية لتوفير لقمة العيش، بل بتنا نتوقع منها أيضاً أن تمنحنا مجتمعاً داعماً، وهواية ممتعة، ولحظات من الفرح والسعادة، وشعوراً عميقاً بمعنى وجودنا”.
بكلمات أخرى [بعد تراجع الأدوار التقليدية للمؤسسات الدينية والاجتماعية] صرنا نبحث في وظائفنا عن الرضا نفسه الذي كانت تمنحنا إياه حياتنا خارج العمل سابقاً. ليس من المستغرب إذاً أن نشعر وكأن الحب الذي نكنه لوظيفتنا قد تحول إلى التزام أخلاقي مبالغ فيه: كأنه من المفترض أن نصدق أن التفرغ التام لمبيعات الشركة يجعل منك شخصاً أفضل. ما عليك سوى أن تلقي نظرة على بعض الخطابات الغريبة ذات الطابع الشبه الروحاني المنتشرة على منصة “لينكد إن” المتخصصة بالتوظيف، لترى كيف أن لدى البعض قناعة تامة في هذا الشكل من التفكير.
في الواقع، يبدأ التركيز على المسيرة المهنية المثالية في مرحلة مبكرة من العمر. منذ الطفولة، يطرح علينا البالغون، وعن حسن نية، السؤال التقليدي: “ماذا تطمح أن تصبح في المستقبل؟”. كانت قائمة طموحاتي الشخصية تراوح بين أن أصبح عالم حفريات، أو أن أؤدي دور الراوية في المسرحية الموسيقية الغنائية “جوزيف ومعطف الأحلام المذهل الملون” للمؤلف والملحن الإنجليزي أندرو لويد ويبر، أو حتى أن أكون جاسوساً [جاسوسة]، قبل أن أجد نفسي، بعيداً من أي تطلعات خيالية، في مهنة الصحافة، بيد أن هذا السؤال البريء في ظاهره، يفتح الباب أمام مسار يرسم هويتنا بناءً على الوظيفة التي نشغلها خلال ساعات العمل الرسمية من التاسعة صباحاً حتى الخامسة مساء، ويصبح مستقبلنا المهني المحتمل هو المعيار الذي يحدد من نحن في نظر المجتمع.
ثم، مع تقدمنا في مراحل الدراسة، نجد أن خياراتنا التعلمية، من قبيل المواد التي ندرسها في مرحلة الثانوية العامة وشهادات التأهل التي نحصل عليها بعد بلوغ سن الـ16، موجهة نحو تطلعاتنا المهنية، كما تشير المدربة المتخصصة في التوجيه المهني جيني هوليداي. وتضيف أن التطلع إلى العمل في مجال أو تخصص معين يعكس تفكيراً إيجاباً في المستقبل، ففي النهاية، لا بد من أن نكون مستعدين للمرحلة التالية من حياتنا”. وبالطبع، وجود هذا الشكل من الطموح في حياة الشباب أمر إيجابي وصحي، “ولكنه ربما يحملنا، في الوقت نفسه على التركيز في وظيفة معينة نعتبرها “وظيفة الأحلام”، فنستبعد من أذهاننا تالياً احتمالات أو مسارات أخرى من شأنها أن تكون مناسبة لنا أيضاً”.

إنجاز العمل من المنزل خلال جائحة كورونا حمل البعض على إعادة النظر في ضرورة تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية
والإيمان بفكرة “وظيفة الأحلام” يعود بفائدة كبيرة على أصحاب المناصب العليا في الشركات: يستفيد هؤلاء من استعدادنا للعمل لساعات إضافية، والرد على رسائل البريد الإلكتروني في وقت متأخر من الليل، وبصورة عامة، بذل جهد أكبر من المعتاد في العمل، كما يحلو لقسم الموارد البشرية القول. في الواقع، يمكن استخدام هذا المفهوم للتستر على كثير من الممارسات غير الأخلاقية التي تتسم بالاستغلال والظلم. ولا يخفى على أحد أن قطاعات برمتها تقوم على حقيقة أن الموظفين الشباب المثاليين مستعدون للعمل بكل جد مقابل أجور زهيدة، على اعتقاد أنهم يلاحقون شغفهم الإبداعي. وهنا، تطول اللائحة من قطاع الأزياء، وصناعة الأفلام، والنشر، وصولاً إلى الصحافة، وغيرها كثير (في هذه القطاعات تعتمد الشركات، أو أصحاب الأعمال، ضمناً على حقيقة أن الموظفين الشباب يتلقون الدعم المالي من عائلاتهم لمساعدتهم في تغطية حاجاتهم الأساسية [لا سيما أنهم يسعون وراء حلمهم المهني]، ولا تشعر تالياً أنها ملزمة بتقديم أجور ملائمة لهم).
هكذا، يقال لهؤلاء الموظفين، صراحة أو ضمناً، إنهم ببساطة “محظوظون لمجرد وجودهم هنا” [في هذه الوظائف]، لذا عليهم بذل جهد أكبر، وعدم الشكوى من أي معاملة سيئة فقد حصلوا على فرصة العمل في هذا المجال [المرموق]. يتبادر إلى ذهني ذلك المشهد الشهير من فيلم “الشيطان يرتدي برادا” The Devil Wears Prada، وفيه تقول رئيسة التحرير ذات الشخصية القاسية والطباع الحادة ميراندا بريستلي [ميريل ستريب] لمساعدتها [آن هاثاواي] المثقلة بالمهام الكثيرة وضغوط المعاملة الصارمة إن “مليون فتاة مستعدة لارتكاب جريمة قتل من أجل الحصول على هذه الوظيفة”. تقول هوليداي: “أحياناً، تكون فكرة وظيفة الأحلام خادعة، إذ تزرع لدى الموظفين شعوراً بضرورة “الاستمرار” في العمل بغض النظر عن الظروف الصعبة والمعاملة السيئة التي يلقونها. لقد مررنا جميعاً، بمن فيهم أنا، بتلك التجربة المتمثلة في عدم الحصول على الترقية التي نرى أننا نستحقها، أو الاكتفاء بالسكوت عن الخطأ وعدم إبداء الرأي أو “معارضة” مديرنا لأننا نشعر بأننا “محظوظون” لمجرد وجودنا في هذه الوظيفة”.
في الغالب، لا يتوافق الواقع الذي تواجهه في غمرة السعي وراء هدفك مع الصورة التي رسمتها في مخيلتك عن حياتك العملية، كما اكتشفت الكاتبة كايتي سيغروف. فقد أمضت سنوات طويلة من عمرها “في تكريس حياتها تماماً لتحقيق حلمها في كتابة الأفلام الروائية الطويلة”، إلى جانب عملها في وظيفة يومية “مرهقة” في الإنتاج التلفزيوني. وفي الأخير، حصلت على فرصة تحويل أحد سيناريوهاتها إلى فيلم، وتعاقدت مع وكيل أعمال [لإدارة مشاريعها وحماية مصالحها القانونية]، وسافرت إلى كان ولوس أنجليس. يبدو إنجازا مثيراً للحسد والغيرة، أليس كذلك؟ ولكن مع مرور الوقت، أخذت تفقد شغفها وحماستها وبدأت تشعر “بالتعب الشديد والإحباط”، وأصبحت ببساطة “مرهقة من العملية برمتها”. كان التوازن بين العمل والحياة الشخصية مفقوداً تماماً. تقول: “كنت أستغل كل دقيقة سانحة أمامي في الكتابة، إلى حد أنني لم أجد الوقت أو الفرصة لبناء حياة وعلاقات اجتماعية بعيداً من العمل. كنت في حاجة إلى مساحة لنفسي علني أعثر على شخص أبادله الحب وأستمتع بحياة أكثر توازناً وتنوعاً وسعادة، لذا كان لا بد من إجراء التغييرات المناسبة التي تسمح بذلك”.
لاحقاً، قررت سيغروف أن تبدأ في كتابة حلقات قصيرة من الرسوم المتحركة للأطفال، كذلك أسست “التقط قلمك”، وهو مشروع تدريب يدعم الكتاب الآخرين، ذلك أن مساعدتهم “ذات قيمة أكبر بأشواط” بالنسبة إليها “من السعي وراء تحقيق النجاح” لنفسها. وتضيف أنها في هذه الأيام أصبحت “أكثر وعياً بكيفية استغلال وقتي، والأنشطة التي تدعم صحتي العقلية والنفسية والجسدية. كما أنني مهتمة حقاً بالأمور التي تجلب لنا السعادة، والتي تكون غالباً مختلفة عما نتوقع أو نعتقد”.
بالنسبة إلى كثيرين، هزت جائحة “كورونا” المعتقدات الراسخة حول التطلعات والأهداف التي نسعى إلى تحقيقها في حياتنا المهنية والشخصية. عندما أصبح العمل من المنزل، بسبب الإغلاق (الحجر العام) الذي فرضته السلطات لاحتواء الفيروس، حلاً بديلاً ضرورياً لموظفي المكاتب، حظي بعض هؤلاء “بمزيد من الوقت لتكريسه في إنجاز أمور مختلفة من حياتهم”، كما تقول ستانلي، “لذلك عرفوا أهمية تخصيص الوقت للعائلة ولممارسة الهوايات والمساهمة في الأنشطة الاجتماعية. وبدلاً من أن يكون العمل محور حياتنا، عاد ليكون جانباً مهماً واحداً منها، شأنه شأن الجوانب المهمة الأخرى”.
منذ ذلك الحين، بدا واضحاً أن فجوة قد نشأت بين العمال وأصحاب العمل. لقد رأى الموظفون واختبروا المزايا التي ينطوي عليها أسلوب العمل الهجين، الذي يجمع بين بضعة أيام في المكتب وبعض الوقت في المنزل. ولكن شركات كثيرة تفرض الآن قواعد العودة إلى المكتب، متراجعة عن الوعود التي قدمتها سابقاً في شأن المرونة في العمل. ليس من المستغرب إذاً أن يتفاقم الاستياء، ويتجلى في خيبة أمل عامة.
شعور الاستياء هذا تفاقمه عمليات صرف الموظفين الواسعة النطاق والأجور الثابتة التي لا تواكب التضخم المعيشي وتراجع القدرة الشرائية. ففي نهاية المطاف، لم عساك ترغب في تعريف نفسك من خلال عملك إذا كان ما يسمى “وظيفة أحلامك” قد يختفي أو يتغير جذرياً بصورة تحول دون التعرف إليه بحلول الشهر المقبل؟ ربما رأى أجدادنا وآباؤنا أن العمل الجاد يؤتي أكله، ولكن الصورة أكثر قتامة الآن. يقول دوغان: “كانت المقايضة غير المعلنة أنك إذا عملت بجد كاف في شبابك، ستتمتع بحرية أكبر في مرحلة لاحقة من حياتك وستملك أموالاً أكثر. والآن، يتساءل كثر عما إذا كان ذلك النهج يستحق العناء فعلاً، مما يؤثر سلباً في مدى الطموح في أوساط العاملين”.
على النقيض من ذلك، لم يعد العمل المُضني الذي يحقق النجاح بأي ثمن أولوية لدى الموظفين الآن، إذ يؤثرون تحقيق التوازن بين العمل من جهة، والحياة الشخصية من جهة أخرى. مثلاً، وجدت دراسة نهضت بها شركة البرمجيات “سايفر” المتخصصة بالموارد البشرية أن أكثر من ثلثي الموظفين يعتبرون أن الجانب الأهم الذي يبحثون عنه في الوظيفة هو أن تتسم بالمرونة التي تسمح بالتمتع بهذه الصورة من التوازن، ويأتي ذلك قبل الأجر والأمان الوظيفي والرضا الوظيفي. تقول هوليداي: “الناس لا يرغبون في تعريف أنفسهم بناءً على عملهم، بل بناءً على شخصياتهم كأفراد”.
في النتيجة، تقول ستانلي إنها لاحظت أن “عدداً متزايداً من الناس يبحثون عن مهنة “جيدة بما يكفي”، وفق توصيفهم، بدلاً من وظيفة الأحلام. إنهم يريدون “العمل وفق شروطهم الخاصة”، أو القيام بـ”عمل أو نشاط له قيمة وتأثير إيجابي” عليهم أو على الآخرين، أو “أن يسهم في الشعور بالسلام [الطمأنينة]”، أو ربما عمل يوفر لهم دخلاً يكفي لتغطية نفقاتهم وممارسة هواياتهم، أو الادخار للسفر. ربما بدأوا يدركون أن العمل ليس بالضرورة رسالة أو مهنة مقدسة. أحياناً، يكون مجرد وظيفة، وهذه الحقيقة لا تنفي أنه ينطوي أيضاً على قيمة إيجابية وأهمية.
* استخدمنا بعض الأسماء الوهمية حفاظاً على الخصوصية