حرية ـ (13/4/2025)
آيو دودس
أن تدعم زعيماً استبدادياً لأنه يجعل القطارات تصل في موعدها أمر، أما أن تسانده حتى وهو ينسف القضبان بالديناميت فذلك شيء آخر تماماً.
في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي، شاهدنا قادة “وادي السيليكون”، بمن فيهم مارك زوكربيرغ وتيم كوك وجيف بيزوس، يصطفون معاً في حفل تنصيب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة. كان ذلك جزءاً من عرض غير مسبوق في التملق والتزلف، الغرض منه على ما يبدو أن يحمي الرجل صاحب السلطة، بغض النظر عن عدد الأشخاص الذين يطردهم أو يسجنهم، أرباح شركات التكنولوجيا الكبرى في أقل تقدير.
فكيف تسير الأمور حتى الآن؟
في غضون أسبوع واحد، اختفى نحو 80 مليار دولار من صافي ثروة بيزوس وزوكربيرغ وإيلون ماسك مجتمعة بسبب موجة الرسوم الجمركية التي شنها ترمب (أو، بلغة أوضح، الضرائب التي فرضها على واردات بلاده). وفي الوقت نفسه لم تتوقف الإدارة عن ملاحقة شركات “ميتا” و”غوغل” و”أمازون” و”أبل” بقضايا مكافحة الاحتكار، كما أنها لا تزال تحمي “تيك توك” (وهو منافس ضخم لشركة ميتا) في تحد واضح للقانون الأميركي.
ولكي نكون منصفين، فإن قلة من هؤلاء المليارديرات منزعجة فعلاً من تراجع ثرواتهم الصافية. إذ إن معظمهم ينظر إلى “الثروة الورقية”، التي تتقلب باستمرار وغالباً ما تكون شبه وهمية، على أنها أقل أهمية من بناء شركات دائمة ترسم ملامح العالم ومستقبله.
ومع ذلك إذا كان ترامب يعتزم مساعدتهم على القيام بذلك، فإن طريقته في التعبير عن ذلك غريبة فعلاً، أو إن أفعاله لا تعكس ذلك مطلقاً.
حتى بعد التراجع الجزئي الذي أقدم عليه البيت الأبيض الأربعاء الماضي في شأن الرسوم الجمركية التي فرضها، لا تزال الأخيرة أعلى بأشواط مما كانت عليه سابقاً، وتصل حتى مستويات فلكية مع الصين. وتبدو هذه السياسة إجراء سيئاً بالنسبة إلى شركات التكنولوجيا الكبرى، ذلك أن كل عنصر من عملية تصنيع الشرائح الإلكترونية الدقيقة المستخدمة في الأجهزة التكنولوجية الحديثة، وكل مكون موجود في معدات الحواسيب، يتجاوز الحدود الدولية، ويتركز بشكل خاص في جمهورية الصين الشعبية.
“إذا كنت تريد هواتف ’آيفون’ بسعر 3500 دولار، فعليك تصنيعها في نيوجيرسي، وربما في كاليفورنيا. أما إذا كنت تفضل هواتف ’آيفون’ بسعر 1000 دولار، فلا بد من تصنيعها في الصين. إنها الحقيقة الواضحة”، كما قال دان آيفز المحلل في “وول ستريت جورنال”، الإثنين الماضي.
وفي الخميس الماضي، كشفت تقارير أن “أبل” استأجرت رحلات جوية من الهند إلى الولايات المتحدة لنقل ما يصل إلى 1.5 مليون هاتف “آيفون”، بما يعادل 600 طن، كي تتفادى الرسوم الجمركية المفروضة.
حتى “ميتا” (أو “فيسبوك” سابقاً)، التي تجني أرباحها من الإعلانات وليس من شحنات الأجهزة والمعدات، عرضة للخطر لأن كثيراً من الجهات التي تتعامل معها هم شركات ومتاجر إلكترونية صغيرة تستورد بضائعها من خارج الولايات المتحدة. من بين أكبر هذه الشركات “شي إن”Shein و”تيمو” Temu، اللتين تعتمدان على الصين في توفير منتجاتهما الرخيصة. وماذا عن تجار الشحن المباشر، الذين يستخدمون الإعلانات عبر “إنستغرام” كوسيط لبيع منتجاتهم مباشرة من المصنع الصيني إلى المستهلك؟
أياً كان ما سيحدث لاحقاً، فلا يمكن لأي شركة أن تستبعد احتمال أن يغير ترامب رأيه مرة أخرى ببساطة. وتأكيداً على صحة هذا الكلام، أوضح البيت الأبيض الأربعاء الماضي، بعد إغلاق أسواق الأسهم الأميركية، أن الرسوم الجمركية بنسبة 25 في المئة على بعض السلع المكسيكية والكندية [كالألمنيوم والسيارات وغيرها من سلع لا تغطيها اتفاقية التجارة الحرة بين الدول الثلاث] لم تعلق في نهاية المطاف كما أشيع. ولكن لا ننسى أن بناء الثقة [في العلاقات التجارية والاقتصادية] خطوة صعبة، أما تدميرها فسهل جداً.

إيلون ماسك، مستشار الرئيس الأميركي، مرتدياً قبعة كتب عليها “ترامب كان محقاً في كل شيء”
وفي غضون ذلك، فهناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن هذا التخبط في السياسات، وازدراء معاوني ترامب الواضح لحلفاء أميركا القدامى، سيدفع أوروبا إلى تقليل اعتمادها على التكنولوجيا الأميركية. وقد يهدد ذلك أيضاً الاتفاق الدبلوماسي الذي يتيح لشركتي “غوغل” و”ميتا” جمع بيانات المستخدمين الأوروبيين واستخدامها من دون تعريضهم لتجسس غير مبرر من جانب وكالات الاستخبارات الأميركية، لا سيما أن ترامب قد ألغى معظم أعمال اللجنة التي كانت مكلفة مراقبة هذا الاتفاق.
ذلك كله من دون أن نتطرق بعد إلى ما يبدو أنه بدأ بالفعل من هجرة العقول بفعل سياسة ترامب المتشددة في ملف الهجرة وتقليصه الكبير للتمويل المخصص للبحث العلمي. أو التأثير الطويل المدى لهذه التخفيضات على الهيمنة الأميركية في مجال البحث العلمي. أو اعتماد “وادي السيليكون” على هجرة العمالة الماهرة. أو حرب ترامب على الطاقة الخضراء التي تعد واحدة من أكثر الصناعات التحويلية عالية التقنية الواعدة في الولايات المتحدة. أو الركود الاقتصادي الوشيك، الذي رفع بنك “غولدمان ساكس” احتمال حدوثه الآن [بعد فرض الرسوم الجمركية] إلى 45 في المئة مقارنة مع 15 في المئة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
ولكن بالطبع، من المحتمل جداً أن تنجح شركات التكنولوجيا العملاق في انتزاع إعفاءات خاصة من رسوم ترامب الجمركية، وذلك عبر ممارسة بعض الضغوط السياسية من جهة والتذلل من جهة أخرى. وقد عبر الرئيس الأميركي عن هذه النية الأربعاء الماضي عندما وعد بـ”إظهار بعض المرونة” و”إعادة النظر” في إمكانية استثناء الشركات الكبرى التي تضررت بشدة “من دون أن تقترف أي ذنب” (ولكن كيف عسانا نفهم هذا الكلام الصادر عن رجل ينحو باللائمة على أوكرانيا في الغزو الذي تنوء تحت وطأته منذ أعوام).
لكن ترامب نفسه أقر بالمشكلة الأوسع عندما سأله أحد الصحافيين عن معايير اختياره هذه القلة المحظوظة. فأجاب: “بالحدس. يكاد يكون من المحال استخدام القلم والورقة [معايير ثابتة وطريقة منهجية]. في الواقع أثق هنا في غريزتي (إحساسي) أكثر من أي شيء آخر”.
نعم، في مستطاع عمالقة التكنولوجيا أن يتوسلوا. يمكنهم الرضوخ والتملق، والمضي في ذلك أربعة أعوام أخرى، أو ثمانية أعوام حتى، أو لأي مدة ينوي ترامب البقاء فيها في السلطة. كذلك يسعهم أن يوظفوا أشخاصاً يقومون بهذه المهمة نيابة عنهم مقابل مبالغ ضخمة. وللمصادفة، اشترى زوكربيرغ أخيراً مسكناً فاخراً في واشنطن العاصمة بقيمة 23 مليون دولار ليدير منه هذه العمليات [التقرب من السلطة والتأثير فيها].
ولكن ذلك كله لا يغير حقيقة أن أتباع ترامب يمعنون، وعلى نحو متسارع ومثير للقلق، في تقويض النظام الأميركي القائم على مبدأ الضوابط والتوازنات [التي تضمن توزيع السلطة بين الفروع الثلاثة للحكم]، ليحل محله كيان هش، يفتقر إلى التوازن والاستقرار، وأكثر عرضة للانهيار. يبدو أن الجمهوريين مصرون على منح زعيمهم سلطة شبه ملكية، حتى إذا كان يهاجم سيادة القانون، ويتحدى المحاكم، ويرهب حكومات الولايات، ويهمش الكونغرس.
في المحصلة، يبدو أن كلمات الفيلسوف والكاتب السياسي الإنجليزي توماس باين عن الملوك عام 1776 لا تزال صالحة حتى يومنا هذا. فالحكم الاستبدادي يبقى دائماً عرضة لنزوات الحاكم ونقائصه، ومن الصعب أن يخطر في بالنا طاغية محتمل أكثر فوضوية وتقلباً من دونالد ترامب، باستثناء ربما إيلون ماسك.