حرية ـ (15/4/2025)
نبيل فهمي
أعلن الرئيس دونالد ترمب يوم الثاني من أبريل (نيسان) الجاري فرض رسوم جمركية على صادرات معظم دول وساحات العالم إلى الولايات المتحدة. وعُدَّ ذات التاريخ “يوم الاستقلال” الاقتصادي الأميركي، وهو تعبير استخدم في الماضي لوصف تحرر الدول من الاستعمار، وبرر قراراته بأن أوضاعاً غير سوية أضرت الولايات المتحدة على مدار 50 عاماً، أي منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وهو تاريخ غريب لأنه يتزامن مع قرارات اقتصادية مهمة للرئيس نيكسون خلال أغسطس (آب) عام 1971 بإلغاء الاعتماد على احتياط الذهب، والتخلي عن تثبيت سعر العملات، وجعل الدولار الأميركي ضمنياً العملة الرئيسة في النظام التجاري الدولي، مع فرض 10 في المئة جمارك على الواردات الأميركية من الخارج، لتمويل الموازنة بالاقتراض والضغط على البنك المركزي للاحتفاظ بالفوائد على مستويات منخفضة.
تناول المحلل الأميركي المرموق فريد زكريا صاحب الأصول الهندية قرارات وحججاً ومبررات ترمب تفصيلياً في أحد مقالاته، مفنداً معظم الحجج ومؤكداً صحة وعنفوان الاقتصاد الأميركي خلال الفترة المشار إليها، باعتباره ينمو بمعدلات أسرع من غيره، مع وصول حجمه إلى ضعف الاقتصاد الأوروبي، الذي كان متساوياً معه منذ أقل من 20 عاماً، وتفوق متوسط رواتب الفرد الأميركي بنسبة 40 في المئة على الوضع في الدول الصناعية، وتجاوز متوسط الدخل القومي لتعداد السكان بنسبة 150 في المئة عن الوضع في اليابان. ونوه بأن الدخل القومي لولاية مسيسيبي، أفقر الولايات الأميركية، يتفوق على الناتج القومي لبريطانيا وفرنسا واليابان.
رفض زكريا ادعاء ترمب بأن هناك انحساراً حاداً في مكانة أميركا الاقتصادية، وهي الدولة الأكثر تقدماً في المجالات المحركة للاقتصاد الحديث، مثل التكنولوجيا والخدمات، والبرمجة ومشتقاتها، والفنون والقانون وخدمات المؤسسات المالية والبنوك، والتي تشكل 75 في المئة من الاقتصاد الأميركي، وتحظى فيها بفائض تجاري ضخم مع الدول الأخرى.
وأشار في المقال إلى خطورة اتخاذ الولايات المتحدة قرارات اقتصادية غير منطقية، أو أن تتمادى في توجهاتها الانعزالية الحمائية، والمترسخة بالفعل في نظامها الاقتصادي، إذ تتجاوز الإجراءات الحمائية الأميركية ما تقوم به 68 دولة أخرى. وحذر أنه إذا ازدادت تلك الإجراءات، ستدفع الآخرين إلى توجيه التجارة نحو أسواق أخرى على حساب الولايات المتحدة، وبخاصة مع دول مثل الصين لاتساع أسواقها.
هناك شبه إجماع دولي على أن القرارات الأميركية ستخلق سلسلة من ردود الفعل السريعة وغير الإيجابية، إذ فرضت الصين أشد منافسيها جمارك موازية، والحلفاء في أوروبا يجهزون رد فعلهم، ودعا الرئيس الفرنسي ماكرون إلى عدم الاستثمار في الولايات المتحدة، وأعرب مسؤولو البنك الدولي عن خشيتهم أن تؤدي الحروب التجارية المتوقعة إلى انكماش الاقتصاد العالمي، والذي يشكل الاقتصاد الأميركي 25 في المئة منه، بل أعرب محافظ البنك المركزي الأميركي ذاته عن خشيته من ارتفاع التضخم وتداعيات زيادة الجمارك على النمو الاقتصادي العالمي.
هذا وحذر زكريا من أن استخدام القوة والنفوذ الأميركي بصورة متنمرة ومتقلبة سيضر الجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة، لأنه يدفع الآخرين إلى خلق فرص ومجالات وساحات بديلة، ويضعفها اقتصادياً، ويفتح الباب على مصراعيه لأصحاب النفوذ والفساد، ويجعل أميركا غير مؤثرة في التوجهات الاقتصادية والسياسية الدولية الجديدة.
أتفق مع كثير مما طرحه زكريا، وأشدد على أن التنمر الاقتصادي أو السياسي، مثله مثل التنمر الاجتماعي، يجعل الطرف الأقوى يتفوق في أول الأمر على المدى القصير، إلا أن الحاجة والضرورة تدفع المتنمَّر عليهم إلى إيجاد سبل وخيارات أخرى على المدى المتوسط وطويل الأجل، والتوجه نحو البدائل حتى مع ارتفاع الكلفة على المدى القصير، والنتيجة ستكون أن ترمب يخلق منافسين له، ويدفع الآخرين إلى الابتعاد من الولايات المتحدة.
أعتقد أن القرارات الأميركية الأخيرة لا تستند إلى قواعد اقتصادية سليمة، بل يغيب عنها الدقة والصواب، لأنها شملت فرض جمارك على جزر صغيرة أحدها غير مسكون في الأساس، وأن أقل نسبة من الجمارك وهي 10 في المئة فرضت على الجميع، بما فيها من يقع الميزان التجاري معه في صالح الولايات المتحدة، وإغفال صادراتها من الخدمات يتعارض مع الأسس الاقتصادية المتعارف عليها، والغرض الأساس كان تجميع الجباية بأي أسلوب، وليس تشجيع المساواة في ممارسات الدول داخل منظومة اقتصاد السوق، بدلاً من اختيار أفضل وأرخص المواقع الاقتصادية للتصنيع في سلسلة التوريد، مثلما كان سابقاً.
لا يختلف أحد أنه في ظل القرارات الحمائية الجديدة ستواجه المنظومة الاقتصادية الأميركية والدولية تحديات على المدى القصير، وقد نكون الآن في بداية مرحلة إعادة هيكلة جوهرية. ويعتقد المجتمع الدولي عامة أن الساحة الاقتصادية ستمر بمرحلة اضطراب وتذبذب ممتدة، حتى إذا تراجع ترمب عن بعض اقتراحاته خلال المفاوضات والخطوات المتبادلة، في حين يعتقد ترمب أن الإجراءات الجديدة ستخلق فرص عمل أميركية، وقد يتحقق ذلك في بعض المجالات بنسب معينة، إلا أن البطالة الأميركية على مستويات دنيا لا تتجاوز ثلاثة في المئة، ولا تشكل مشكلة حقيقية.
والخلاصة أنه ستكون للتنمر الاقتصادي كلفة ملموسة على الاقتصاد الأميركي، الذي انتعش عبر الأعوام مع ازدهار الاقتصاد العالمي، وقد يشهد قدراً من الانكماش مع ظهور بدائل تسويقية أخرى.
ودول عديدة أخرى ستعيد توجيه اقتصاداتها وسلعها نحو أهداف أخرى، وستزداد الكلفة والضغوط والتحديات على المدى القصير مع سعيها نحو تنوع أسواقها وأهدافها، إلا أنني أرى أن هذه التحديات قد تكون لها عوائد مفيدة أيضاً على المدى المتوسط والأطول، لأن سعي كثير من دول العالم إلى تأمين أسواق متعددة وبديلة للسوق الأميركي الكبير سيفرض عليها تحسين الأداء والكفاءة، وسيجعلها أقل اعتماداً على أسواق منفردة مثل السوق الأميركي على رغم أهميته، وقد يكون لهذه التغيرات وإعادة ترتيب الأسواق مردود إيجابي على المنظومة الاقتصادية العالمية وكذلك السياسية على المدى الطويل.