حرية ـ (16/4/2025)
كل عام يسافر آلاف الروس والكازاخستانيين والأوكرانيين إلى الخارج بحثاً عن وظائف ذات رواتب عالية، ولكنهم بدلاً من ذلك يجدون أنفسهم أسرى لعصابات إجرامية في المثلث الذهبي السيئ السمعة، وهناك اتخذت العبودية الحديثة شكلاً جديداً، فأصبحت مصدراً للجرائم الإلكترونية على نطاق دولي، إذ لا يحرم الضحايا من حريتهم فحسب، بل يصبحون هم أيضاً مجرمين.
في كل ربيع يحتفل العالم أجمع باليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا العبودية وتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، الذي حُدد كتذكير بنهاية السياسة اللاإنسانية المتمثلة في الاستفادة من ملايين الوفيات البشرية، لكن كثراً لا يدركون أن العبودية لم تصبح بعد مصطلحاً عتيقاً في معاجم اللغة، بل إنها تزدهر بالشكل نفسه تقريباً الذي كانت عليه قبل قرن ونصف القرن من الزمان.
حجم المشكلة
بحسب أحدث أبحاث الأمم المتحدة احتلت تجارة البشر مكانة متقدمة بين جميع أنواع الأنشطة الإجرامية المنظمة، متجاوزة حتى مجالات الهجرة غير الشرعية والاتجار بالأسلحة، علاوة على ذلك خلال الأعوام الأربعة الماضية ارتفع عدد ضحايا العبودية الحديثة بشكل حاد 43 في المئة، علاوة على ذلك، بيع ما يقارب نصف الضحايا لأغراض العمل القسري.
ويرجع بعض الباحثين الديناميكيات السلبية إلى قدرة الجماعات الإجرامية على استخدام التقنيات الجديدة للعثور على العمالة واستخدامها، إذ بدأ الناس بالبحث عن عمل بشكل جماعي عبر الإنترنت.

مؤشر العبودية العالمي يؤكد وجود 12 عبداً لكل 1000 شخص في ميانمار وحدها
وأصبح من السهل على العصابات الإجرامية تجنيد الأشخاص من خلال مواقع العمل، وإضافة إلى ذلك تغيرت أنظمة الكسب أيضاً، وبفضل تطور قطاع الخدمات عبر الإنترنت، بدأت المجموعات في كسب المال بشكل رئيس من عمليات الاحتيال عبر الإنترنت والاحتيال بالعملات المشفرة وصناعة الويب، واستثمار العائدات في إنتاج المخدرات وشراء وبيع الأسلحة.
مركز العبيد الجديد
جاءت إلينا آليات العبودية الجديدة من آسيا، أو بالأحرى مما يسمى “المثلث الذهبي” – وهي منطقة في جنوب شرقي آسيا تقع عند تقاطع حدود ميانمار ولاوس وتايلاند، منذ منتصف القرن الـ20 كانت الجماعات الإجرامية المسلحة نشطة في المنطقة.
يقول مؤشر العبودية العالمي – وهو مؤشر يقيس عدد الأشخاص الذين يعيشون في العبودية الحديثة في 167 دولة حول العالم – إن هناك نحو 12 عبداً لكل 1000 شخص في ميانمار وحدها، وتصف منظمة الشرطة الدولية (الإنتربول) المنطقة بأنها مركز للاحتيال عبر الإنترنت ومصدر كل الاتجاهات الحالية في سوق الرقيق.
وعلى رغم استخدام التكنولوجيا الحديثة لتجنيد الناس واستغلالهم، فلا يختلف هيكل تجارة الرقيق في القرن الـ21 عن هيكل تجارة الرقيق عبر الأطلسي في القرون الغابرة. وتظهر دراسة للأمم المتحدة أن المتاجرين بالبشر، كما كانت الحال قبل قرنين من الزمان يستخدمون نظاماً ثلاثياً للاستغلال، التجنيد (ولكن بدلاً من الخرز والمرايا، فإنهم يعدون بأجور عالية)، والنقل مع مصادرة الوثائق، والاستغلال من دون الحصول على أجر فعلي مقابل العمل.
على مر الأعوام لم تتغير سوى أساليب استغلال الناس وأساليب استعبادهم، وتؤكد المحامية ومنسقة حركة البديل، أرينا فيروشينا، أن “المشكلة نفسها لا تزال للأسف على حالها”.
و”البديل” حركة تطوعية تنقذ الناس من العبودية منذ عام 2011، وتعاملت المنظمة بالفعل مع أربع حالات لروس انتهى بهم المطاف في “المثلث الذهبي” وذلك على سبيل المثال وليس الحصر.
من يصبح ضحية؟
تؤكد أرينا فيروشينا أن مواطني روسيا وبلدان رابطة الدول المستقلة وقعوا بشكل متزايد في عبودية العمل في هذه المنطقة خلال العامين الماضيين. وتشير تقارير معهد الأمن القومي أيضاً إلى أن الأهداف الرئيسة للمافيا الآسيوية أصبحوا من مواطني روسيا وبلدان رابطة الدول المستقلة، أي بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، والسبب هو المهارات اللغوية لسكان الفضاء ما بعد السوفياتي، وعلى وجه الخصوص معرفة اللغتين الإنجليزية والصينية.
وبحسب وزارة الخارجية الكازاخستانية، فإنه خلال الفترة ما بين عامي 2022 و2024 وجد نحو 200 كازاخستاني أنفسهم في عبودية العمل في أراضي “المثلث الذهبي”. ومن بين هؤلاء أطلق سراح 28 شخصاً بمساعدة السفارة، وعاد نحو 60 شخصاً إلى ديارهم من تلقاء أنفسهم، من دون طلب المساعدة، ويعتقد أن 100 شخص آخرين ما زالوا في الأسر.

يُجرّم القانون أشكال الاستغلال الجديدة على مستوى الاتحاد الأوروبي
ولسوء الحظ لا توجد إحصاءات مماثلة للروس الذين يعيشون في المثلث الذهبي، ويرجع الناشطون ذلك إلى الصعوبات في التعرف إلى حالات عبودية العمل، إذ نادراً ما يطلب الناس المساعدة بسبب الخجل أمام أقاربهم وعواقب العنف الجسدي، وأرسل المحررون طلباً إلى السفارة الروسية لدى ميانمار لكنهم لم يتلقوا رداً حتى الآن.
يشار هنا إلى أن الفئات الضعيفة من السكان (الأطفال والنساء والفقراء) ليسوا وحدهم المعرضين للخطر الآن، ونتيجة للجولة الجديدة من العولمة بدأ ممثلو الطبقة المتوسطة الذين تراوح أعمارهم ما بين 25 و35 سنة يقعون أيضاً في فخ عبودية العمل، كما تشير الأمم المتحدة إلى أنه عام 2022 كان 77 في المئة من ضحايا عبودية العمل من الرجال و23 في المئة من النساء.
كيفية تجنيد الضحايا
غالباً ما ترتبط المنظمات الإجرامية العاملة في المنطقة بجماعات الجريمة الصينية والتايلاندية، ويستخدمون شركات واجهة مسجلة في تايلاند لتجنيد مواطني بلدان رابطة الدول المستقلة عبر شبكات التواصل الاجتماعي والوسطاء، عادة ما يتضمن ذلك العمل كمبرمج أو نموذج أو ممثل، يجري نشر الوظائف الشاغرة الوهمية حتى على صفحات ومواقع الإعلانات الفيدرالية الكبيرة مثل “جوبز” و”أفيتا” و”هنايد هانتر”، ولكن غالباً ما يُعثر عليها في قنوات “تيليغرام” المخصصة للبحث عن الوظائف.
ويقدم “أصحاب العمل” راتباً يراوح ما بين ألفين و3 آلاف دولار، وكلف الانتقال والتأشيرة، ويصل مقدم الطلب إلى تايلاند، حيث يقابله “ممثلو” الشركة ويعرضون عليه رؤية المكتب على الفور، وعلى طول الطريق تُغير السيارة مرات عدة تحت ذرائع مختلفة حتى لا يلاحظ الضحية كيف يعبر حدود الدولة، ونتيجة لذلك ينقل الشخص إلى منطقة مخفية في الغابة، وعلى محيطها توجد أبراج مع حراس مسلحين.
ماذا يجبر الضحايا على فعله؟
عندما يتعلق الأمر بأنواع العمل القسري التي تفرض على ضحايا صناعة الاتجار بالبشر، فإن الاستغلال الجنسي أصبح في المرتبة الثانية بعد الاحتيال عبر الإنترنت. يضطر المبرمجون إلى إنشاء مواقع التصيد الاحتيالي، وبمساعدة تقنية التزييف العميق أصبحوا مجبرين على جذب المستثمرين إلى شركات العملات المشفرة وتكنولوجيا المعلومات المزيفة. على سبيل المثال تجبر النساء على العمل كعارضات أزياء أمام كاميرا الويب، فيما تُغسل الأموال الناتجة من عمليات الاحتيال غير القانونية من خلال العملات المشفرة.
إنهم يرحبون بالفتيات بين موظفيهم لأن مظهرهم مهم بالنسبة إليهم في عملهم، وتحديداً ما يرتبط بمدى أناقتهن، ولطف تعاملهن مع عملائهن وكم عدد الأشخاص الذين تمكنوا من إقناعهن بالانضمام إلى صفوف المستثمرين الغامضين هذه، كما أوضحت أرينا فيروشينا.
صعوبة الهرب من العبودية بشكل مستقل لم تعد شيئاً من الماضي
منذ عام ونصف العام حصلت سونيا (اسم مستعار) البالغة من العمر 21 سنة على هذه “الوظيفة”، إذ عرض عليها 5 آلاف دولار شهرياً للعمل كمديرة خدمة العملاء، وكانت الشركة مستعدة لدفع كلف النقل ليس فحسب، بل أيضاً الإقامة والوجبات، نقلت الفتاة مباشرة من المطار في تايلاند إلى ولاية وا غير المعترف بها في ميانمار، ووُضعت في منطقة مغلقة تشبه قرية صغيرة، وكان هناك ثكنات “للموظفين” ومتجر ملابس وصالون تجميل وكانت زيارتهم إلزامية، حيث استُخدمت صورة سونيا لجذب المستثمرين.
تشمل مسؤوليات المرأة الروسية الرد على المكالمات الواردة والمراسلة مع الأجانب، إضافة إلى ذلك تستخدم صورتها عند التسجيل في مواقع المواعدة لجذب الضحايا إلى المخططات الاحتيالية، وبحسب الفتاة فإن الشهر الأول من عملها لدى النقابة الصينية مر بهدوء، باستثناء إشراف القائمين على العمل، الذين كانوا يراقبون حتى ذهابها إلى الحمام، كان الخروج مسموحاً به مرة واحدة فقط في الشهر، ولم تكن هناك أيام إجازة، وبمرور الوقت بدأت المضايقات من قبل أحد “الرؤساء” ثم قررت سونيا الهرب، بعدما ظلت في العبودية مدة أربعة أشهر.
لماذا يستمر الناس في العمل؟
لكن ليس كل قصص ضحايا العمل القسري في المثلث الذهبي “غير مؤذية”، فبحسب متطوعين وممثلين عن وزارة الخارجية الروسية طورت الشركات الإجرامية نظاماً للإكراه، في الواقع يُدفع أجر الشهر الأول من العمل، ولكن ليس بالكامل، وبعد ذلك يمنح الشخص مبلغاً أدنى لشراء المواد الغذائية الأساسية، وإذا كانت فتاة فعليها أيضاً زيارة صالون التجميل، الذي يملكه دائماً “صاحب العمل” الفاقد ضميره وأي حس إنساني.
يؤوى الناس في ثكنات في ظروف غير صحية حيث لا يوجد ماء ولا إنترنت حر ولا هواتف دولية، وبمجرد أن يتحدث الضحية عن ترك عمله والعودة إلى منزله تبدأ عمليات الضرب والتهديد بإعادة بيعه إلى مجموعة أخرى، وبما أن تجارة الرقيق غالباً ما تكون مقترنة بتجارة المخدرات يُحقن العمال بالمخدرات، يحدث هذا غالباً للفتيات اللاتي يجبرن على العمل كعارضات كاميرا ويب أو يجبرن على ممارسة الدعارة.
وفي غالب الحالات إذا رفضت الضحية العمل، يطلب منها دفع فدية – من المفترض أن تغطي كلف الصيانة والسفر والتأشيرة – ومتوسط مبلغ الفدية هو ما بين 7 و10 آلاف دولار، وإذا لم يتمكن الشخص من الدفع يستمر ضربه أو بيعه لمجموعة أخرى.
يختلف نطاق هذا العنف من مكان لآخر، كما نفهم من روايات الناس، في إحدى القصص علقت فتاة على شجرة أثناء محاولتها الهرب، وفي قصة أخرى قيل لنا إن فتاة لم تعد قادرة على العمل بسبب المخدرات فقد أصيبت بانهيارات عصبية، وقال منسق حركة البديل “حبسوها في الأقبية وحرموها من الطعام وبالطبع المخدرات، ليتمكنوا بطريقة من إعادتها إلى العمل بعد تنشيطها”.
الهرب من العبودية!
كما تظهر الممارسة لا يملك المتطوعون ولا السلطات الرسمية القدرة على المجيء ببساطة واستعادة وتخليص الضحايا من “المثلث الذهبي”، أولاً، تدور صراعات مسلحة باستمرار في المنطقة، ثم ثانياً، الفساد منتشر على نطاق واسع بين قوات الأمن في ميانمار ولاوس وتايلاند.
بمجرد أن تبدأ وكالات إنفاذ القانون في التخطيط لعمليات التفتيش أو المداهمات على الأراضي التي تسيطر عليها الجماعات الإجرامية، يُحذر المتاجرون فيسارعون إلى تغيير مواقعهم أو نقل “مقارهم” موقتاً والتظاهر ببراءة الأعمال القذرة التي يمارسونها.
لكن وفي الوقت نفسه فإن عملية “التحرك” في حد ذاتها تشكل فرصة جيدة للهرب، فبسبب الارتباك تخفف مراقبة السجناء تلقائياً وعفوياً، وإضافة إلى ذلك فإن الطريق يمنحك فرصة أفضل للوصول إلى المدينة حتى إن بعض الضحايا تمكنوا من رشوة الحراس بمبلغ صغير لنقلهم إلى أقرب بلدة أو مركز سكني أو مستوطنة.