حرية ـ (16/4/2025)
في قاعة مكتظة تحت أضواء مبهرة، اجتمع كبار المديرين التنفيذيين في واحدة من أهم مؤتمرات الأعمال لهذا العام. كانت بورصة لندن قد شهدت أسبوعاً من الاضطرابات الحادة وارتجفت الأسواق العالمية على وقع تقلبات غير مسبوقة. العيون مشدودة إلى المنصة، حيث تتخذ قرارات بمليارات الدولارات، لكن المفاجأة لم تكن في الأرقام فحسب، بل في الوجوه.
لو أن هذا المشهد عرض على الشاشة قبل 20 عاماً فحسب، لتوقع المشاهد صفاً من الرجال الكهول، بشعور يغزوها الشيب، وبدلات داكنة تجهد أزرارها كروش متدلية تراكمت شحومها مع تراكم سنوات العمل الطويل، لكن الزمن تغير. اليوم، كانت القاعة تعج بشباب في الثلاثينيات أو الأربعينيات بالكاد حيويين وواثقين، يعتلون المنصة بخفة، ويتحدثون بلغة رقمية مفرطة في حداثتها.
لا تفضح وجوههم أعمارهم، ولا تعبر مناصبهم عن الأعوام التي أمضوها في الخدمة، بل عن سرعة قفزهم برشاقة فوق درجات السلم التقليدي. بدا واضحاً أن شيئاً ما قد تغير جذرياً، لم يعد التدرج الوظيفي مرهوناً بالعمر ولا بالأقدمية.
جذور التدرج الوظيفي القائم على الأقدمية
في بدايات القرن الـ20، حين كانت النماذج البيروقراطية تهيمن على هيكلة المؤسسات، ترسخ مبدأ التدرج الوظيفي بوصفه حجر الزاوية في بنية العمل الإداري. وقد تبلورت فلسفته على أساس بسيط لكنه نافذ، أن التقدم في المناصب يجب أن يكون ثمرة مباشرة للزمن والخبرة والولاء المؤسسي. فكلما طاولت خدمة الموظف، زادت فرصه في الترقية، بغض النظر عن الكفاءة الفردية أو الأداء الاستثنائي. هذا النموذج، الذي يجد جذوره في كتابات عالم الاجتماع ماكس فيبر حول البيروقراطية، كان ينظر إليه كضمانة للعدالة ومصد للتمييز، وصمام أمان يحفظ توازن المؤسسة.
رغم أن “التدرج الوظيفي” لا يحمل تعريفاً واحداً موحداً، فإن معظم المؤسسات الإدارية والأكاديمية تتفق على أنه نظام يرتبط فيه التقدم الوظيفي بعاملين رئيسين هما مدة الخدمة وسن الموظف، وينظر إليه كمسار تصاعدي من المناصب الدنيا إلى المناصب العليا، ويبنى تدريجاً مع مرور الزمن والتراكم المعرفي والخبرة العملية.

لم يكن من الغريب أن ينظر إلى احترام الأكبر سناً ليس فقط كتقليد ثقافي بل كمبدأ مؤسسي أيضاً
في كتب الإدارة الحديثة، مثل “السلوك التنظيمي” لستيفن روبنز، يجري طرح التدرج الوظيفي كأداة لضمان الاستقرار والتماسك الداخلي، لكنه ينتقد في الوقت ذاته كعائق أمام الابتكار وتحفيز المواهب الشابة.
في هذا السياق، لم يكن من الغريب أن ينظر إلى احترام الأكبر سناً ليس فقط كتقليد ثقافي بل كمبدأ مؤسسي أيضاً. كان التعلم يتم بالتدرج، كما تنقل المهارات ضمن تسلسل هرمي يكفل للمؤسسة استمراريتها وللموظف مساره الوظيفي المتوقع. أما اليوم، فإن هذا النظام الذي حكم مصائر العاملين لعقود طويلة، يشهد اهتزازاً غير مسبوق.
إعادة تعريف التدرج الوظيفي
إذا كانت الأقدمية والسن قد شكلا لعقود طويلة أساس التدرج الوظيفي، فإن الأعوام الأخيرة شهدت تحولاً جذرياً بدأ يتبلور منذ نهايات القرن الـ20، وتحديداً مع صعود ما يعرف باقتصاد المعرفة، إذ لم يعد “الزمن المقضي في المؤسسة” معيار الكفاءة الأوحد، بل باتت القيمة تقاس بمقدار ما يمتلكه الفرد من معرفة قابلة للتطبيق ومهارات رقمية متقدمة. هنا يرى المتخصص الاقتصادي بيتر دراكر في كتابه “الإدارة في المجتمع المقبل” أن الاقتصاد الجديد لا يكافئ من يملكون الخبرة بقدر ما يكافئ من يملكون القدرة على التعلم السريع والتكيف الفوري.
على الصعيد السياسي والاجتماعي، أسهمت حركة العولمة وانتشار النموذج الليبرالي الغربي في الدفع نحو مفاهيم أكثر فردانية في تقييم الأداء، حيث أصبحت العدالة في نظر المؤسسات تعني “تكافؤ الفرص” لا “المساواة في المصير الوظيفي”، وهذا ما عبر عنه المفكر الفرنسي دومينيك سنايدر في أطروحته “مجتمع الجدارة” التي حللت التحول من التدرج القائم على الانضباط والطاعة إلى التدرج المبني على الإنجاز الفردي والتفوق التنافسي.
أما التكنولوجيا، فقد لعبت الدور الأكثر حسماً في قلب المعادلة. فأنظمة التقييم الذكي اليوم المدعومة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي، أصبحت قادرة على تحليل أداء الموظفين ومقارنتهم على مستوى عالمي وفي الوقت الفعلي، بصرف النظر عن أعمارهم أو عدد الأعوام التي قضوها في الشركة. يشير تقرير صادر عن مؤسسة “ماكينزي أند كومباني” بعنوان “مستقبل العمل بعد كورونا” إلى أن التحول الرقمي المتسارع قد فرض على المؤسسات إعادة التفكير في أساليب الترقي، مع اعتماد متزايد على منصات تقييم الأداء التنبؤية والتوظيف عبر الخوارزميات.
كما وفرت منصات التوظيف الحديثة مثل “لينكد إن” و”غلاس دور” أدوات غير مسبوقة للربط بين أصحاب الكفاءات والشركات، مما جعل الانتقال الوظيفي أكثر مرونة وسرعة.
عززت هذه الأدوات ثقافة “الانتقال الأفقي” على حساب التدرج الرأسي البطيء، وهو ما أبرزه تقرير “هارفرد بزنس ريفيو” في مقال بعنوان “لماذا يتخلى الموظفون عن سلم التدرج الوظيفي الهرمي؟”.
لقد بدأنا إذن نعيش لحظة مفصلية، تجاوزت فيها الشركات الكبرى المفهوم التقليدي للولاء الوظيفي، لمصلحة مفهوم جديد يربط بين القيمة المضافة والقدرة على التكيف، بصرف النظر عن العمر أو الأقدمية.
تمكين الشباب وتحديات تهميش الخبرة
في ما يتعلق بالجانب الإيجابي للتحول في مبدأ التدرج الوظيفي بناء على السن والأقدمية، يعد هذا التحول خطوة مهمة نحو تمكين الشباب والمبدعين في مختلف الصناعات. فبينما كانت المراتب العليا في الشركات تتطلب أعواماً طويلة من العمل الجاد والترقية التدريجية، فإن التوجه نحو تسريع هذه العملية فتح المجال أمام أفراد مبدعين وطموحين لتولي المناصب القيادية في وقت أسرع. يسهم هذا في تنشيط بيئة العمل ويعزز القدرة التنافسية للمنظمات التي تبحث عن الابتكار والتجديد. مما يميز هذا التغيير أنه لا يرتبط بالسن بقدر ما يرتبط بالقدرة والإبداع.
ومن الفوائد الرئيسة الأخرى لهذا التحول، كسر البيروقراطية التي كانت عائقاً أمام التطور السريع في بعض المؤسسات، إذ كانت تمنع الشباب من تسلق السلم الوظيفي، وتجعل الفرص مقتصرة على فئة معينة من الأفراد الذين كانوا يمضون أعواماً طويلة لتولي المناصب القيادية. تعزز إزالة الحواجز أمام التدرج الوظيفي من سرعة اتخاذ القرارات وتسرع وتيرة الإنجاز.
علاوة على ذلك، يساعد هذا التحول في تقليص الفجوة بين الطموح والفرصة، حيث أصبح بإمكان أصحاب القدرات العالية من مختلف الأعمار شغل المناصب التي طالما كانت حكراً على الأشخاص الأكبر سناً والأكثر خبرة. تشير دراسات إلى أن القدرة على التكيف مع التغيرات السريعة واكتساب المهارات الجديدة باتت من العوامل التي تؤثر في نجاح الأفراد أكثر من أعوام الخبرة التقليدية.
ومع ذلك يمتلك هذا التحول جانباً سلبياً ومعقداً أيضاً، فقد ظهرت تحديات عدة تتعلق بتهميش مكانة الخبرة العملية التي كان يتمتع بها كبار الموظفين. توضح إحدى الدراسات أن استبعاد كبار الموظفين أو تهميشهم قد يؤدي إلى فقدان التوجيه والإرشاد الضروريين، الذي يقدمونه للجيل الجديد. كما أن التسرع في اتخاذ القرارات واختيار الأفراد من دون الاستناد إلى الخبرة الطويلة قد يؤدي إلى رعونة في القرارات ونقص النضج المهني وانخفاض القدرة على التعامل مع التحديات الكبيرة.
من الناحية المؤسسية، يؤثر هذا التحول أيضاً في “الذاكرة المؤسسية” التي كانت تحفظ عبر الأجيال. فقد اعتاد الموظفون الأكبر سناً على نقل معارفهم وتجاربهم إلى الأجيال التالية، مما يسهم في تعزيز هوية المؤسسات وضمان استمراريتها. قد يؤثر تغيير هذا الهيكل على ثقافة المؤسسات ويؤدي إلى تغيرات في مفاهيم مثل الولاء والصبر والتدرج والصنعة التي كانت تشكل نواة الحياة المهنية في عديد من الشركات.
في ظل التغيرات المتسارعة في مشهد العمل، يجد كثر أنفسهم أمام مرحلة انتقالية، حيث تتلاشى تدريجاً النماذج القديمة التي تعتمد على التدرج الوظيفي المرتبط بالسن والأقدمية، لتحل محلها نماذج جديدة تستند إلى الكفاءة والابتكار. في هذه المرحلة، نواجه تحدياً مزدوجاً: كيف نوازن بين الطموح والنضج المهني؟ وكيف نضمن أن تتاح للشباب فرصة إثبات قدراتهم من دون أن يتم استبعاد أو تهميش الخبرات المكتسبة على مدار الأعوام؟
المعضلة التي نواجهها هي كيفية صياغة علاقة مهنية جديدة بين الأجيال، بحيث لا يُقصى أحدها أو تُتجاهل تجاربه. فالأجيال الشابة تحمل طاقة كبيرة وأفكاراً مبتكرة، لكن الأجيال الأكبر سناً تملك الخبرة والحنكة التي لا تقدر بثمن. يمكن أن نجد الحل في تبني نموذج من التعاون بين الأجيال، حيث يتيح للخبرة أن تحفظ وتنقل بينما يتم تمكين الطموح والتجديد.
تذكرنا قصة “حلم موظف” لأنطون تشيخوف بأهمية الإدراك النقدي لطبيعة النظام الذي نعمل ضمنه. فبينما يسعى الموظف البسيط في الحلم للصعود في السلم الإداري، يكتشف في النهاية أن هذا الصعود لا يعكس بالضرورة تقدمه الحقيقي أو رفاهيته.
تماماً كما كان حلم موظف تشيخوف صرخة في وجه نظام معتل، فإننا اليوم نقف على عتبة مرحلة مصيرية، حيث يتعين علينا إعادة صياغة العلاقة بين الأجيال، بما يضمن احترام الخبرة والطموح معاً، وفتح آفاق جديدة لعدالة مهنية تحترم تنوع التجارب وتستشرف المستقبل.