حرية ـ (16/4/2025)
“ستجد في الشارع الطويل عمارات مُربعة القوائم تصل بينها ممرات جانبية تقطع الشارع الأصلي، وتزدحم جوانب الممرات والشارع نفسه بالحوانيت، فدكان للساعاتي وآخر للخطاط وثالث للشاي ورابع للسجاد وخامس للتحف، بينما تقع هنا وهناك مقاه لا يزيد حجم الواحد منها عن حجم الصغير وقد جلس الصناع أمام الدكاكين ينكبون على فنونهم في صبر”، هكذا وصف نجيب محفوظ في روايته الشهيرة “خان الخليلي” طابع المنطقة وأحوال أهلها منذ نحو سبعة عقود، وبعد مرور أعوام لا يزال كل شيء في خان الخليلي على حاله، فالحرفيون لا يزالون يمارسون أعمالهم في الورش والحوانيت الصغيرة، والمقاهي لا تزال تعج بروادها من أجناس الأرض كافة.
وأخيراً سطع نجم منطقة خان الخليلي مع اصطحاب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في جولة بالسوق التجاري الشهير الذي يعد من أقدم الأسواق الشعبية في العالم، لتنتشر الصور التي تناقلتها وكالات الأنباء في العالم كله ويصبح السوق الأثري حديث الناس، بخاصة بعدما نشر الرئيس الفرنسي منشوراً عن زيارته على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة به.
من عبق التاريخ
يقع سوق خان الخليلي في قلب القاهرة التاريخية المسجلة على قوائم “يونيسكو” للتراث العالمي في منطقة تعد من أهم المناطق التراثية بالقاهرة، فعلى بعد خطوات من مدخله يقع جامع الحسين، درة مساجد آل البيت في مصر، وهو غالباً بداية رحلة قطاع كبير من زوار المنطقة، ليجلس بعدها الزائر في المقاهي الشعبية المحيطة ثم يكمل جولته في شارع خان الخليلي الذي ينتهي بمنطقة الصاغة، أشهر مناطق تجارة الذهب في مصر، ومعها يتقاطع شارع المعز لدين الله الفاطمي، أحد أشهر مواقع الآثار الإسلامية في العالم، وبنهايته يقع “باب الفتوح” أحد أبواب القاهرة القديمة الذي لا يزال قائماً منذ نحو 1000 عام، فهذه المنطقة وقت إنشاء خان الخليلي كانت تمثل قلب القاهرة، وتنتشر حولها المراكز المهمة سواء للحكم أو للصناعة والتجارة، ولم تكن مساحة القاهرة امتدت بهذا الوضع الذي هي عليه الآن، وقد أقيم هذا الخان على أنقاض مقابر للفاطميين كان يطلق عليها مقابر الزعفران.

لا يقتصر حالياً على الجانب التجاري، ولكنه يضم عدداً من المقاهي التاريخية المعروفة
وعلى مدى أعوام ظلت منطقة خان الخليلي تعج بالزوار القادمين من كل مكان، كما كانت مصدر إلهام للكُتاب والفنانين بما تحمله من عبق التاريخ، ومثالاً حياً على الجمع بين القديم والأصيل والروح المعاصرة، إضافة إلى طابعها الروحاني بقربها من جامع الحسين.
وعن تاريخ وحكاية إنشاء هذه المنطقة يقول عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة عبدالرحيم ريحان إن “تاريخ خان الخليلي يمتد لـ 600 عام ويعود لعصر المماليك في مصر، ويعد واحداً من أقدم الأسواق التي تعود لهذه الحقبة، إذ كان نحو 38 سوقاً منتشرة في أنحاء القاهرة كافة خلال عهد المماليك، وهو مسقوف بالخشب وأرضه مبلطة بحجر بازلتي أسود لامع، ويضم ألواناً مختلفة من المتاجر التي تبيع منتجات وفنوناً تراثية منوعة، ووصفه المؤرخ الشهير تقي الدين المقريزي الذي ولد وتوفي في القاهرة بأنه مبنى مربع كبير يحيط بفناء ويشبه الوكالة، وتشمل الطبقة السفلية منه الحوانيت، أما الطبقات العليا فتضم المخازن والمساكن”.
ويضيف، “لا يقتصر خان الخليلي حالياً على الجانب التجاري، ولكنه يضم عدداً من المقاهي المعروفة وأشهرها مقهى الفيشاوي الذي تأسس عام 1769، وهو من أقدم مقاهي القاهرة، وكان الكاتب الكبير نجيب محفوظ من أشهر رواده خلال فترة الستينيات من القرن الـ 20، فعلاقة نجيب محفوظ بالمنطقة وثيقة وظهرت في عدد من أعماله التي منها رواية ‘خان الخليلي’ التي تحولت لاحقاً إلى فيلم سينمائي من بطولة الفنان عماد حمدي”.
خان الأمير جهاركس
يتبادر إلى الأذهان عند زيارة هذه المنطقة سؤال حول من هو الخليلي التي تحمل السوق الشهيرة اسمه؟ فالخان في هذا العصر كان يعني المكان الذي يتوقف فيه التجار والقوافل القادمة من مناطق مختلفة للراحة والتزود بالماء والمؤن، وكان شائعاً في مناطق عدة في هذا العصر، ومن أجل هذا الغرض جرى بناؤه ليتطور مع الزمن إلى وضعه الحالي.
ويوضح ريحان أن “تسمية الخان تعود للأمير جهاركس الخليلي، أحد أمراء المماليك الذي ترجع أصوله لمدينة الخليل في فلسطين، وكان يشغل منصب كبير التجار أيام حكم السلطان برقوق، وقد قام بإنشاء الخان عام 784 للهجرة (1382 للميلاد) في الموقع نفسه الذي كان وقتها يمثل قلب القاهرة”.

على مدى أعوام طويلة ظلت منطقة خان الخليلي تعج بالزوار القادمين من كل مكان
ويستكمل، “قتل الخليلي بمعركة في دمشق، ولاحقاً أزال السلطان المملوكي قنصوه الغوري الخان وأقام مكانه وكالات للتجار ليبدأ في اتخاذ طابعه الحالي الذي استمر مئات الأعوام، وبذا أصبح واحداً من أهم المواقع التراثية والسياحية في القاهرة، وهو يجسد ما ذكرته ‘يونيسكو’ لدى تسجيل القاهرة التاريخية تراثاً عالمياً بأنها أقدم مدن التراث الحي الذي يجمع بين الماضي والحاضر، وتتواصل أفكاره وثقافته حتى الآن”.
وزوار خان الخليلي، سواء من المصريين أو الأجانب، تبهرهم البضائع المتنوعة التي تزدحم بها المتاجر المتلاصقة، والتي يأتي قطاع كبير منها من الورش المحيطة التي تعتبر من علامات المكان، فالمنطقة تعد معقلاً للحرف التراثية المختلفة التي امتد بعضها وتطور منذ آلاف السنين، وصناعات الحلي والنحاس والأخشاب والعطور وغيرها لها تاريخ مستمر منذ عصر مصر القديمة.
يقول الباحث في التراث مصطفي كامل “يمثل خان الخليلي شكلاً من أشكال التراث الثقافي غير المادي والمنتشر بصور عدة في أنحاء البلاد كافة ممثلاً في التراث الحي للحرف التقليدية التي تتوارثها الأجيال، وتنتشر بصور مختلفة في منطقة خان الخليلي”.
ويضيف “انتشار حرفة تراثية معينة في مكان معين يعتمد على عوامل عدة، من بينها الخامات والمواد المتاحة وطبيعة الموقع وحاجاته، فخان الخليلي في وسط القاهرة ومنطقة الجمالية المحيطة به لها بعد تاريخي مرتبط بالتاريخ الإسلامي، إذ ازدهرت حرف النجارة العربية والتطعيم بالصدف والنقش على النحاس، وغيرها من الحرف المرتبطة بالتراث الإسلامي”.

يتبادر إلى الأذهان عند زيارة هذه المنطقة سؤال حول من هو الخليلي؟
ويضيف، “قرب المنطقة من جامع الحسين الذي يعد من أهم مساجد آل البيت في مصر، ويمثل قبلة رئيسة لزوار القاهرة من المحافظات كافة، وكان أيضاً عاملاً من عوامل انتشار حرف معينة مثل تشكيل السبح التي تعتبر هدية يجلبها زوار المنطقة للأهل والأصدقاء باعتبارها قادمة من جانب مسجد الحسين، وكذلك تنتشر في المنطقة صناعة وتجارة الذهب والفضة نظراً إلى قرب منطقة الصاغة من خان الخليلي”.
شخصية المكان
على رغم انتشار قطع فنية في سوق خان الخليلي تعود للحضارات التي مرت على مصر كافة، بداية من القطع والمستنسخات المرتبطة بحضارة مصر القديمة التي يقبل عليها السياح الأجانب، ووصولاً إلى القطع الفنية المعاصرة، فإن الطاغي في المكان هو الفنون المرتبطة بالتراث الإسلامي والمستوحاة من تفاصيله الفنية، ويقول كامل “تأثراً بطبيعة المكان وأجوائه المحيطة نجد أن معظم فناني الحرف التراثية يستمدون الموتيفات الأساس من العمارة الإسلامية المحيطة بهم والتي تزخر بها المنطقة، سواء الزخارف أو الخطوط العربية أو النقوش الموجودة على جدران المساجد والأسبلة وأشكال الآثار الإسلامية الفريدة المحيطة كافة، مما يدلل على تأثر الفنان ببيئته ومحيطه”، مستكملاً أن “المنتجات التراثية في المنطقة لها زبائنها من أنحاء مصر كافة وحتى خارجها، فبعض منتجات ورشات خان الخليلي عليها طلب مستمر من الدول العربية لارتباطها بالتراث الإسلامي، وبعض هذه الورشات توارث أصحابها الحرفة من أجدادهم، وتمثل الورشة علامة من علامات المكان على مرّ الأعوام”.